المنــدوب
تعريفـــه:
الندب في اللغة الدعاء إلى الفعل، والأصل أن يقال المندوب إليه، ولكن حذفت الصلة منه لفهم المعنى وكثرة الاستعمال[1].
والمندوب في اصطلاح الأصوليين: ما طلب الشارع فعله طلبا غير حتم، أو غير لازم، هذا من حيث دليله، وأما من حيث حكمه، فهو ما يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه، أو ما يمدح فاعله ولا يذم في الشرع تاركه[2].
والمندوب عند الأصوليين يسمى سنة ويسمى تطوعاً، كما يسمى مستحباً، أحيانا فهذه الألفاظ الثلاثة مرادفه في الاصطلاح للمندوب عند الأصوليين، وتطلق كلها على معرَّف واحد[3].
أما الفقهاء، فإن المندوب عندهم أدنى من السنة المؤكدة، وقد يطلق على السنة غير المؤكدة فحسب، فلا يعتبر مرادفها للسنة عندهم.
أنواعــه:
للمندوب درجات ثلاثة يلي بعضها بعضاً من حيث قوة التأكد في الطلب، وهي[4]:
1ـ المندوب المؤكد أو السنة المؤكدة: وهي الأعمال والأقوال التي واظب النبي صلى الله عليه وسلم على أدائها مع التنبيه على عدم وجوبها لفظاً أو فعلا، وإن كان يتركها أحيانا، من ذلك ركعتا سنة الفجر، وركعتان بعد الظهر، وأربعا قبلها ـعند الحنفية- وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، فإنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تركها إلا قليلاً.
2ـ المندوب غير المؤكد: وهو ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله أحيانا دون أن يداوم عليه، كصلاة أربع ركعات قبل صلاة العصر، وأربع قبل صلاة العشاء، وغيرها، فانه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم مواظبته على ذلك.
3ـ المندوب الزائد: ويقصد به الأفعال العادية والجبلية التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعلها بصفته البشرية لا بصفته التشريعية، من ذلك لون ملابسه صلى الله عليه وسلم، ونوع طعامه، وطريقته في نومه، وطريقته في مشيته . . . فإنها إذا فعلت من المسلم بنية التأسي كانت عبادة مأجورا عليها وألحقت بالسنة غير المؤكدة في الحكم، وإذا فعلت منه لا على سبيل التأسي لم يكن له فيها أجر، لأنها أفعال عادية ليست مأمورا بها من الشارع مطلقاً، فتكون داخله في حد المباح، وهذا هو حكمه، ولكنها عند فعلها على سبيل التأسي تكون عبادة مأجوراً عليها لقوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (الأحزاب:21)، ولما يدل عليه هذا الفعل من انقياد تام للنبي صلى الله عليه وسلم ، وبذلك يفترق عن السنة المؤكدة،حيث إن السنة المؤكدة مطلوبة من الشارع بالجملة بخلاف هذه، ولذلك فالأجر متحقق للمكلف بفعل الأولى دون نية التأسي، بخلاف الثانية، إذ لا يكون فيها أجر إلا بهذه النية.
طرق ثبوت المندوب:
يثبت المندوب بطلب فعله من الشارع طلباً غير حتم، أو غير لازم، وعدم الحتم هذا لابد من إقامة دليل عليه، لأن الطلب في أصله موضوع للوجوب، ولا ينحرف عنه إلا بقرينه واضحة، كما علم في الباب الواجب.
والقرائن الصارفة للطلب عن الإيجاب متنوعة، فمنها قرائن لفظية، ومنها قرائن غير لفظية، فالقرائن اللفظية ما كان مصرحاً بها في لفظ الأمر نفسه أوفي غيره، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمه، ومن اغتسل فالغسل أفضل)، فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فالغسل أفضل) قرينة لفظية دالة على أن طلب النبي صلى الله عليه وسلم الاغتسال يوم الجمعة إنما هو للندب لا للوجوب.
ومن القرائن غير اللفظية قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) (النور:33)، فإنه للندب، بدلالة القواعد الشرعية المتفق عليها لدى الفقهاء، القاضية بإطلاق يد المالك في ملكه، ومنها أيضا تنبيه النبي صلى الله عليه وسلم لفظاً على عدم الوجوب، مع المواظبة على الفعل، كقوله صلى الله عليه وسلم: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء)، ومنها تركه صلى الله عليه وسلم فعله في أكثر الأحيان، وغيره.
هل المندوب مأمور به؟
والكلام في طرق ثبوت الندب يضطرنا إلى الكلام على عد المندوب مأموراً به أولا، فقد اختلف في ذلك الأصوليون على مذهبين، هما:
1ـ مذهب جمهور الحنفية: وهو أن المندوب مأمور به مجازاً لا حقيقة.
2ـ مذهب جمهور الشافعية والقاضي الباقلاني ومعهم المالكية والحنبلية: وهو أن المندوب مأمور به حقيقة[5]، أي إن الأمر موضوع للوجوب والندب قصداً على وجه الاشتراك.
الأدلــــــة:
استدل الحنفية لمذهبهم بأدلة منها:
أ) الأمر حقيقة في قول: (افعل)، وافعل حقيقة في الإيجاب دون غيره، وعلى ذلك يكون الأمر حقيقة في الوجوب، فلا يكون حقيقة في غيره وهو الندب.
ب) لو كان المندوب مأموراً به لكان تركه معصية، لأن فيه مخالفة الأمر، مع أن الاتفاق على عدم تأثيم تارك المندوب، فلا يكون مأموراً به لذلك.
ج) قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء) [6]، والسواك عند الوضوء مندوب بالاتفاق، وهو غير مأمور به بنص الحديث، فكان المندوب غير مأمور به لذلك.
واستدل الشافعية لمذهبهم:
أ) المندوب طاعة وعبادة من العبادات التي يثاب الإنسان على فعلها بالإجماع، والطاعة إنما هي الامتثال للأمر، فكان المندوب مأموراً به لذلك.
ب) أن أهل اللغة قسموا الأمر إلى أمر إيجاب وأمر ندب، وهو إقرار منهم بأن المندوب قسم من المأمور به، فيكون كذلك، لأن علم اللغة أحد مصادر علم الأصول كما تقدم.
مناقشة دليل الحنفية:
رد الشافعية على دليل الحنفية الأخير بأن نفي الرسول صلى الله عليه وسلم الأمر في الحديث خاص بأمر الإيجاب دون غيره، ونحن معكم في نفي هذا الأمر، والمدعى غير ذلك، فلم يكن في الحديث دليل لكم.
مناقشة دليل الشافعية:
رد الحنفية على الدليل الأول، بأننا لا نسلم أن الطاعة إنما هي المأمور به فقط، بل هي فعل المأمور به والمندوب إليه، ذلك أنه لم يقم دليل على حصرها بذلك.
وردوا على الدليل الثاني، بأن علماء اللغة أدخلوا الإباحة في المأمور به أيضا، مع أنها ليست منه باتفاق جمهور الأصوليين، ولم يخالف في ذلك إلا الكعبي، فدل ذلك على أن إدخالهم المندوب في المأمور به اصطلاح لغوي صرف ليس فيه حجة علينا.
وردوا على جواب الشافعية عن الحديث الشريف بأن نفي الأمر جاء مطلقاً، فشمل كل أمر، ولا يجوز تقييده بأمر الإيجاب، لعدم ورود المقيد.
الترجيــح:
من استعراض ما تقدم من أدلة الطرفين ومناقشتها يتبين لنا أن مذهب الحنفية في اعتبار المندوب مأمورا به مجازاً لا حقيقة أرجح من مذهب الشافعية، فيكون الأمر حقيقة في الإيجاب فقط ولا يصرف عنه إلا لقرينه كما تقدم، فإذا توفرت القرينة الصارفة عن الإيجاب إلى الندب انصرف إليه، لأنه مجاز فيه، وعلى كل فالخلاف بين الأصوليين على النحو المتقدم يكاد يكون لفظياً فقط، ولا يترتب عليه كبير أهمية في تفريع الأحكام[7].
هل الندب تكليف؟
وهذه مسألة ثانية اختلف الأصوليون فيها، وهي اعتبار المندوب من أنواع التكليف أولا، إلى مذهبين:
أ) مذهب جماهير الأصوليين: وهو عدم اعتبار المندوب من أنواع التكليف.
ب) مذهب أبي اسحق الإسفرائيني: وهو اعتبار كل من المندوب والمباح من أنواع التكليف،
والحق في هذه المسألة لم يتجاوز رأي الجماهير في نظري، ذلك أن التكليف إنما هو طلب ما فيه كلفة وهي المشقة، والمشقة ليس المراد منها هنا إلا الإثم المترتب عليه عذاب الله تعالى، وليس في ترك المندوب عذاب ولا إثم بالاتفاق، ولذلك لم يكن من أنواع التكليف، إلا أن يقال إن الأستاذ أبا اسحق قصد الاعتقاد بالمندوب لا العمل به، والاعتقاد به تكليف بالاتفاق لتأثيم منكره، لكن في هذا تكلفا، ذلك أن المسألة المختلف فيها مسألة العمل بالمندوب فقط، أما الاعتقاد به فهو واجب لا مندوب، وهو غير المراد هنا[8].
حكمــــه:
اتفق الفقهاء والأصوليين على أن حكم المندوب الإثابة على فعله وعدم استحقاق العقاب من الله تعالى على تركه، بل إن الفارق بينه وبين الواجب هو ذلك، لكن الحنفية ذهبوا إلى أن تاركه يستحق العتاب من النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان مندوباً مؤكداً، فإذا لم يكن مؤكداً، أو كان زائداً، لم يستحق على تركه شيئا، هذا إذا لم يكن في تركه نوع استخفاف به، وإلا كان التارك آثما، لاستخفافه به لا لتركه له.
خاتمـــــة:
بعد الانتهاء من دراسة المندوب أرى أن من المستحسن ذكر ما أشار إليه الشاطبي رحمه الله تعالى في الموافقات من أمرين هامين يتعلقان بمعنى المندوب والحكمة من تشريعه، وهما:
أ) أن المندوب يعتبر حارسا أمينا للواجب، وحمى له يصد عنه احتمالات الإهمال والتساهل، فقد نص الشاطبي على ذلك، فقال: (المندوب إذا اعتبرته اعتبارا أعم من الاعتبار المتقدم وجدته خادما للواجب، لأنه إما مقدمة له، أو تذكير به، سواء كان من جنس الواجب أولا، فالذي من جنسه كنوافل الصلوات مع فرائضها، ونوافل الصيام والصدقة والحج وغير ذلك مع فرائضها، والذي من غير جنسه، كالطهارة من الخبث في الجسد والثوب والمصلى[9]، والسواك وأخذ الزينة وغير ذلك مع الصلاة، وكتعجيل الإفطار، وتأخير السحور، وكف اللسان عما لا يعني في الصيام، وما أشبه ذلك، فإذا كان ذلك فهو لاحق بقسم الواجب بالكل) [10].
ب) عدم اللزوم أو الإلزام في الندب إنما هو باعتبار الأجزاء فقط، أما باعتبار الكل فلازم، مثل الأذان، فهو سنة في حق الصلاة، لا يستحق تاركه عليه العقاب، فإذا تركته الأمة كلها أثمت وحوربت عليه، لأنه في حق الكل لازم، خلافاً له في حق الأفراد (الأجزاء)، وقد نص الشاطبي على ذلك، فقال: (إذا كان الفعل مندوبا بالجزء كان واجباً بالكل، كالأذان في المساجد والجوامع و غيرها، وصلاة الجماعة، وصلاة العيدين، وصدقة التطوع، والنكاح، والوتر، وسنة الفجر، والعمرة، وسائر النوافل الرواتب، فإنها مندوب إليها بالجزء، ولو فرض تركها جملة لجرح التارك لها، ألا ترى أن في الأذان إظهارا لشعائر الإسلام؟ ولذلك يستحق أهل المصر القتال عليه إذا تركوه، وكذلك صلاة الجماعة، من داوم على تركها يجرح ولا تقبل شهادته، لأن في تركها مضادة لإظهار شعائر الدين، وقد توعد الرسول صلى الله عليه وسلم من داوم على ترك الجماعة فهم أن يحرق عليهم بيوتهم، كما كان صلى الله عليه وسلم لا يغير على قوم حتى يصبح، فإن سمع أذانا أمسك، وإلا أغار، والنكاح لا يخفي ما فيه مما هو مقصود للشارع، من تكثير النسل وإبقاء النوع الإنساني وما أشبه ذلك، فالترك له جملة مؤثر في إضعاف الدين إذا كان دائما، أما إذا كان في بعض الأوقات فلا تأثير له، فلا محظور في الترك) [11].
حكم ترك النفل بعد الشروع به:
قدمنا في حكم النفل أنه يثاب فاعله ولا يذم ولا يعاقب في الشرع تاركه، ولكن هذا قبل الشروع به، أما بعد الشروع به، فهل يبقى حكمه كذلك؟ بمعنى أن لمن شرع فيه أن يتركه دون عقاب أو بدل؟
اختلف في ذلك الحنفية الشافعية على مذهبين:
أ) فذهب الحنفية إلى أن حكم ترك النفل لا عقاب عليه قبل الشروع فيه، فإذا شرع المكلف فيه تغير حكمه وأصبح لازما كالواجب، فلو نقضه بعد ذلك لزمه القضاء، لأنه بالشروع يتحول إلى الوجوب، وحكم ترك الواجب القضاء.
ب) وذهب الشافعية إلى أن المندوب لا يتغير حكمه بالشروع فيه، بل يبقى مندوباً بعد الشروع فيه أيضا، لا يلزم الشارع فيه بإتمامه، بل يجوز له نقضه دون قضاء.
الأدلــــة[12]:
استدل الحنفية لمذهبهم بأدلة منها:
أ) قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) (محمد:33)، فإنه نهي والنهي للتحريم، فإذا ما تلبس بالمندوب فقد تلبس بالعمل، فوجب عليه إتمامه، فلم يكن له تركه للآية الكريمة السابقة.
ب) ما أداه الإنسان من المندوب صار لله تعالى فوجب صيانته، أي حفظه من الفساد والبطلان، ولا سبيل إلى هذه الصيانة إلا بلزوم الباقي، لأن العبادة المتلبس بها لا تصح بدون ذلك، فكان الإتمام لازما، مثله في ذلك مثل النذر، فإن مجرد اللفظ فيه ينقل العمل من مندوب أو مباح إلى واجب، فأولى أن ينقل الشروع ذلك إلى الواجب.
واستدل الشافعية لمذهبهم بالرد على دليل الحنفية الثاني:
فقالوا: نوافق على أن ما أداه الإنسان من المندوب صار لله تعالى، وإن ذلك لا يتم إلا بلزوم الباقي، ولكننا نخالفهم في الباقي، ونقول: إن إبطال ما صار لله تعالى جائز، لأن للإنسان أن لا يفعله أولا، فيكون له أن يبطله بعدد فعله، فلم يكن الإتمام لازما لذلك.
كما ردوا على دليل الحنفية الأول بأن النهي هنا لم يتعين للتحريم، كما أنه لم يتعين للأعمال مندوبة، فوجب حمله على الواجبات توفيقاً بين الأدلة، ولذلك لم يبق فيه حجة للحنفية.
الترجيـــح:
والراجح عندي في هذا مذهب الحنفية لصحة القياس على النذر، فإن الشروع إن لم يكن أقوى من النية فلا أقل من أن يكون مثلها في الحكم، ولكن ينبغي الانتباه هنا إلى أن الشروع في النفل يجب أن يكون قصداً، فلو شرع في النقل على وجه لا يقصده، كأن شرع في صلاة الظهر ثم تذكر فيها أنه صلاها سابقا، فإن صلاته هذه تكون نفلا غير مقصود، وهذا لا يجب إتمامه بالاتفاق، ويجوز نقضه من غير قضاء، لعدم وجود قصد التنفل فيه.
[1] انظر المصباح المنير: مادة (ندب).
[2] انظر أبا زهرة ص/38/ والخضري ص/ 51/.
[3] انظر أبا زهرة ص/38/ والخضري ص/ 51/.
[4] انظر أبا زهرة ص 38.
[5] انظر فواتح الرحموت 1/111 والمستصفى 1/75 ـ 76 والعضد 1/1 ـ 5.
[6] رواه النسائي.
[7] فواتح الرحموت 1/112 والعضد 2/5.
[8] قارن مع فواتح الرحموت 1/112، والعضد 2/5.
[9] وهذا خاص بالمذهب المالكي مذهب صاحب الموافقات، إذ يعتبر ذلك مندوبا من مندوبات الصلاة لا شرطاً لصحتها كما هو الحكم عند الجمهور.
[10] انظر الموافقات 1/151، وأبا زهرة ص/39/ تعليقا على الموافقات.
[11] انظر الموافقات 1/151، وأبا زهرة ص 39 نقلا وتعليقا على الموافقات.
[12] انظر التوضيح 2/125.