الحرام
تعريفــــه:
الحرام في اللغة يطلق على الشيء الممتنع فعله مطلقا، لدليل شرعي أو غيره، كما يطلق على ما لا يحل انتهاكه شرعاً[1].
والحرام في اصطلاح الأصوليين: ما طلب الشارع تركه على وجه الحتم واللزوم، أو هو ما يثيب الشارع فاعله على تركه ويعاقبه على فعله[2]، فهو لذلك نقيض الواجب تماماً.
أنواعـــه:
يقسم الحرام إلى أنواع متعددة من حيثيات متفاوتة، أهمها:
أ) من حيث الدليل المثبت له: فقد ذهب الحنفية إلى تقسيمه إلى قسمين:
1ـ قسم ثابت بدليل قطعي الثبوت والدلالة، ويسمى الحرام عندهم.
2ـ وقسم ثابت بدليل ظني الثبوت أو الدلالة، ويسمى المكروه تحريماً.
وذلك جريا على قولهم في الواجب، حيث قسموه إلى فرض وواجب، من حيث الدليل المثبت له، فكذلك هنا، فيكون الحرام مقابلا للفرض، والمكروه تحريما مقابلاً للواجب عندهم.
أما جمهور الفقهاء، فقد عدوا الحرام من هذه الحيثية قسما واحداً، ولم ينظروا إلى الدليل المثبت له، قطعياً كان أو ظنياً.
وقد علقنا على هذا التقسيم في أول مبحث الحكم بما فيه الكفاية.
ب) من حيث تعلقه بالماهية[3]: اختلف الأصوليون في تقسيم الحرام من حيث تعلقه بالماهية.
فذهب الجمهور من العلماء إلى أنه على قسمين:
1ـ حرام لذاته أو لعينه: وهو ما تعلقت الحرمة فيه بذات المحل، كالميتة في حق الأكل، والخمرة في حق الشرب، والمجوسية في حق التزوج بها، فإن التحريم في الخمرة ثبت لخمريتها، وفي الميتة لأنها ميتة، وفي المجوسية لتمجسها، لا لشيء آخر.
2ـ حرام لغيره: وهو ما تعلقت الحرمة فيه لا بذات المحل بل بصفة عارضة من صفاته، كالربا، والجمع بين الأختين، والبيع عند صلاة الجمعة، وغيرها، فإن التحريم ليس متعلقاً بذات البيع في الربا، ولا بذات الأختين في الجمع، ولا بذات البيع عند صلاة الجمعة، بل هو متعلق بشرط الزيادة في الربا، وبقطع الرحم في الجمع بين الأختين، وبترك السعي للجمعة في البيع.
أما الحنبلية فقد ذهبوا إلى أن الحرام من هذه الحيثية شيء واحد فقط، وسواء عندهم تعلق الحكم بذات المحل أو بصفة عارضة من صفاته.
ثم إن الحنفية فرقوا في الحرام لغيره، وقسموه إلى قسمين هما:
1ـ حرام لغيره تعلقت الحرمة فيه بصفة عارضة جوهرية من صفاته، كالربا، والجمع بين الأختين.
2ـ وحرام لغيره تعلقت الحرمة فيه بصفة عارضة من صفاته، ولكنها غير جوهرية، كالبيع عند صلاة الجمعة.
وذلك خلافا للجمهور الذين جعلوا ذلك قسما واحداً.
أثر هذا التقسيم:
ولتقسيم الحرام إلى حرام لذاته وحرام لغيره، أثر كبير في صحة العقود وكل التصرفات التي تترتب آثارها بحكم الشارع، وتعلق التحريم بها، وذلك من ناحيتين:
أ) من ناحية حكم العقد أو التصرف الذي تعلق التحريم به:
فقد ذهب العلماء الذين فرقوا بين الحرام لغيره والحرام لذاته إلى أن الحرام لذاته يفيد بطلان العقد الذي تعلق التحريم به، لأن هذا التحريم يدل على عدم صلاحية المحل للحكم أصلا، مثل الزواج بالمجوسية، فانه باطل، حيث حرم الزواج بها لذاتها، ومعنى بطلان الحكم انعدام العقد بتاتاً، وعدم ترتيب أي حكم عليه من قبل الشارع.
أما الحرام لغيره، فإن كان التحريم فيه متعلقاً بصفة جوهرية، فالأثر هو فساد العقد لا بطلانه، والفساد عند الحنفية مرتبة بين البطلان والكراهة، لأن العقد الفاسد منعقد بالجملة بخلاف الباطل، فهو غير منعقد أصلاً[4].
وإذا كان الحرام لغيره متعلقا بصفة عارضة جوهرية كان أثره الكراهة فقط دون البطلان أو الفساد.
وهذا كله عند الحنفية، أما الجمهور، فإنهم يسوون بين الفساد والبطلان، فيجعلون التصرف الحرام لذاته والحرام لغيره الذي انصب التحريم فيه على صفة غير جوهرية، باطلا وهو الفاسد عندهم، لاشتراكهما في المعنى، أما إذا انصب التحريم فيه على صفة غير جوهرية، فأثره الكراهة فقط كما عند الحنفية تماما.
وأما الحنبلية الذين لا يفرقون بين الحرام لذاته والحرام لغيره مطلقاً، فيجعلون أثره التحريم والبطلان مطلقاً في كل أقسامه[5].
ب) من ناحية جواز استباحة المحرم في بعض الحالات، فقد ذهب العلماء إلى أن الحرام لذاته لا يباح إلا للضروريات فقط، بخلاف الحرام لغيره، فإنه يباح للضروريات والحاجيات معاً[6]، كالخمرة فإنها حرام لذاتها، ولذلك لا تباح إلا في حالة خوف الهلاك، لأنها ضرورة، أما كشف العورة، فإنها حرام لغيرها، وهو ما فيها من الفتنة وتسهيل الزنا، ولذلك تباح للضرورة ولما هو أدنى منها من الحاجيات، حتى إنها تباح في سبيل الاستشفاء للطبيب والقابلة وغيرهما، وهو من الحاجيات إذا لم يكن الغرض يتحقق منه هلاك، فإن تحقق منه الهلاك كان ضرورياً[7].
ج) من حيث تعين المراد به أو عدم تعينه به:
قدمنا في مبحث الواجب أنه ينقسم إلى معين ومخيَّر، وكذلك الحرام أيضاً، فإن جمهور الأصوليون -خلافاً للمعتزلة- يفرضون هذا الاحتمال فيه، فيقولون: يمكن عقلا أن يكون الحرام منصبا على كل شيء محدد وهو الأصل، كما يمكن أن ينصب على أحد أشياء متعددة على سبيل البدل، كأن يقول الشارع: (حرمت واحدا من هذين الشيئين)، فيكون معناه حرمة الجمع بينهما في الفعل، لا حرمة إفراد واحد منهما بالفعل، فلو فعل واحدا منهما لا على التعيين حرم عليه فعل الآخر مطلقاً في أي وقت كان.
لكن بعض الفقهاء أشاروا إلى أن هذا مجرد افتراض عقلي لم يثبت وجوده شرعا، وأنه لا يصح التمثيل له بتحريم النبي صلى الله عليه وسلم الجمع بين العمة والخالة، وكل من بنت أخيها أو بنت أختها، لأن الجمع المحرم إنما هو الجمع في وقت واحد لا مطلق الجمع، فإذا اختلف الوقت بأن تزوج العمة أو الخالة ثم طلقها وتزوج بنت الأخ أو الأخت بعد ذلك صح زواجه الثاني كما صح الزواج الأول في حينه، والمدعى هو الجمع مطلقا.
حكم الحــرام:
حكم الحرام هو الإثابة على ترك المحرم والعقوبة على فعله، على عكس الواجب تماما، وذلك الحكم ملحوظ في تعريف الحرام السابق، وهو قولنا: (ما يثاب على تركه ويعاقب على فعله).
وبهذا نكون قد انتهينا من بحث الحرام كما كنا قد انتهينا قبله من بحثي الواجب والمندوب.
وقبل أن ننتقل إلى بحث المكروه نتعرض لنقاط عدة ومسائل تتعلق بمبحثي الواجب والحرام معا، أهمها:
- مسألة إمكان تعلق الوجوب والحرمة بالشيء الواحد، هذه المسألة بحثها الأصوليون واختلفوا فيها على مذاهب، ولكننا قبل بيان هذه المذاهب سوف نوضح معنى المسألة وموطن الاختلاف فيها.
فقد تبين من دراسة كل من تعريفي الواجب والحرام أنهما متضادان، وبدهي أن الضدين لا يجتمعان في الشيء الواحد، ولكننا مع ذلك نرى الأصوليين يبحثون هذه المسألة ويختلفون فيها على مذاهب كما سوف نرى، ومثار اختلافهم ليس إمكان اجتماع الضدين في الواحد أو عدمه، فانه مسلم بامتناعه من الجميع، ولكن مثار اختلافهم هو معنى الواحد ووجوهه، فإن الواحد يكون واحداً بالنوع أو الجنس، وقد يكون واحداً بالعدد، ثم إن كلا منهما قد تتعدد صفاته أو إضافاته أو لا تتعدد.
فأما الواحد بالنوع أو الجنس، وهو ما يضم تحته أشخاصاً أو أفراداً متعددة، فقد ذهب جمهور الأصوليين إلى إمكان تعلق الأمر والنهي به، أو الوجوب والحرمة معا، وذلك من حيث تعدد أفراده، فيتعلق الوجوب بواحد من أفراده كما يتعلق التحريم بواحد آخر، مثل السجود، فإنه يكون لله كما يكون لغيره، فما كان لله يكون واجباً، وما كان لغيره يكون حراماً، فيعتبر هنا تعدد الأفراد للنوع الواحد بمثابة تعدد الأنواع، فيكون متعلق الوجوب هو غير متعلق التحريم، فيجوز.
وقد خالف في ذلك بعض المعتزلة، وقالوا بعدم تعلق الوجوب والحرمة في الواحد بالنوع مطلقاً، وقالوا إن السجود واجب ولا يمكن أن يكون حراماً للتناقض، وأجابوا عن السجود لغير الله تعالى بأنه حرام لا لنفس السجود بل لما فيه من قصد تعظيم غير الله تعالى.
والصحيح رأي الجمهور، لأن الواحد بالنوع كما تقدم تختلف أفراده فيكون ذلك بمثابة تغير الواحد نفسه، فلم يوجد التناقض فيصح، وقد صرح الله سبحانه وتعالى بذلك في قوله جل من قائل: (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (فصلت:37)، ثم إن الإجماع منعقد على أن الساجد للشمس عاص بنفس السجود والقصد جميعاً[8]
وأما الواحد بالعدد، أو الواحد بالتعيين، وهو مالا يكون تحته أفراد متعددة، كالصلاة في الأرض المغصوبة، فهو على قسمين:
أ) قسم له أكثر من جهة، كالصلاة في الأرض المغصوبة، فهي عبادة من جهة كونها صلاة، وغصب من جهة كونها مكثاً في أرض مغصوبة.
ب) وقسم ليس له إلا جهة واحدة، كفرضية صوم رمضان على من استجمع شرائط التكليف وخلي عن أي مانع أو رخصة.
فأما القسم الثاني فقد اتفق الأصوليون على عدم جواز تعلق الإيجاب والتحريم فيه معاً للتناقض.
وأما القسم الأول فقد اختلف الأصوليون فيه على ثلاثة مذاهب:
- فقد ذهب الجمهور إلى أن ذلك جائز، لأن تعدد الجهات كتعدد الأفراد تماماً، فيتعلق الإيجاب بجهة، ويتعلق التحريم بجهة أخرى، فينتفي التناقض، وعلى ذلك تكون الصلاة في الأرض المغصوبة مطلوبة محرمة في آن واحد، فهي مطلوبة صحيحة من حيث كونها مستكملة للأركان والشروط، ومحرمة من حيث كونها مكثاً في أرض مغصوبة، إذ لا ارتباط بين هاتين الجهتين، فإن الغصب والمكث ممكن بدون الصلاة، والصلاة ممكنة بدون الغصب، فيصح.
- وقد ذهب الحنبلية والمتكلمون والجبائي والروافض إلى عدم جواز ذلك بتاتا، ولا عبرة عندهم بتعدد الجبهة ما دام واحدا معينا بالشخص، ولذلك قالوا ببطلان الصلاة في الأرض المغصوبة.
- وذهب القاضي أبو بكر إلى مذهب وسط بين الإثنين، فقال: إن الواجب يتأدى عند فعل تلك الصلاة لا بها، لتعلق التحريم فيها، لكنه كما يبدوا لكل دارس قول متناقض وغير مستقيم، وهو محاولة للتوفيق بين الرأيين غير ناجحة، لأن الصلاة إما أن تعد صحيحة فيتأدى بها الواجب، وإما أن تعد باطلة فلا يتأدى بها الواجب، ولا وسط بين القولين.
الأدلـــة:
استدل الجمهور لمذهبهم بأدلة كثيرة، منها:
1- بأن العقل يقطع بطاعة من أمر بخياطة الثوب ونهي عن السكن في مكان معين فخاط الثوب في المكان المنهي عنه، ذلك أنه مطيع في الخياطة عاص في السكن، وكلتا الجهتين منفصلة عن الأخرى متصورة بدونها، فإن الخياطة ممكنة خارج الدار، والسكنى في الدار ممكنة بدون الخياطة.
2- بأن الصلاة في الأرض المغصوبة لو لم تكن صحيحة لكان سبب ذلك تعلق الأمر والنهي في شيء واحد، إذ لا طريق إلى عدم تصحيحها غيره، مع أن المتعلَّق مختلف، إذ متعلق الأمر الصلاة، ومتعلق النهي الغصب، وهما مختلفان، فلم تكن باطلة لذلك.
3- الاتفاق قائم على صحة الصوم في كثير من الأيام المكروهة، والصلاة في كثير من الأوقات المكروهة، مع أن النهي تعلق بها من حيث الوقت، فكان ذلك دليلا على جواز تعلق الأمر والنهي في الشيء الواحد إذا تعددت جهته.
4- بإجماع المسلمين على عدم تكليف الظلمة والمغتصبين بإعادة الصلاة، مع أن الظلم عم في كثير من العصور الإسلامية، فيعد ذلك دليلا على صحة هذه الصلاة، وإلا لأمرهم العلماء بإعادتها، ولبلغنا ذلك عنهم لكثرة الدواعي، ولكن لم يبلغنا شيء من ذلك، فكان إجماعا على صحة هذه الصلاة.
واستدل الحنبلية والمتكلمون لمذهبهم بأدلة متعددة ناقشوا بها الجمهور على النحو التالي:
1- بأننا لا نسلم بأن من أُمر بالخياطة ونُهى عن للسكنى فخاط في المسكن المنهي عنه يسمى مطيعا، بل هو عاص للأمر، لأن المصلحة التي بني عليها الآمر أمره ونهيه اقتضت الخياطة في غير المكان الممنوع، فلما حصلت الخياطة في المكان المنهي عنه فاتت المصلحة، فلم يصح وصف فعله بالطاعة أصلا، بل هو عصيان، إذ هو في معنى قوله: خط الثوب في غير المكان الفلاني، فلما لم يحصل كان عمله عصيانا صرفا.
2- بأننا لا نسلم باختلاف متعلق الأمر والنهي باختلاف الجهة للفعل، فإن الفعل واحد والأمر والنهي متعلقان به، فلم يفده تعدد الجبهة شيئا، فتكون الصلاة في المثال السابق ذاتها مطلوبة منهيا عنها في آن واحد، وهو محال.
3- وأما صحة الصوم والصلاة في الأيام المكروهة التي ورد فيها نهي، فإننا لا نسلم به ونقول ببطلانه، وعلى ذلك جمهور من الفقهاء، بل الجماهير، حيث إنهم لم يختلفوا إلا في بعض التفصيلات مما لا يتأثر به المبدأ.
4- وأما ادعاء الإجماع فهو غير مسلم لأمور عدة، أهمها:
- الإمام أحمد خالف في هذا الأمر، ولو كان الإجماع منعقدا على ذلك لعلمه والتزم به.
- على التسليم به هو إجماع سكوتي، وهو غير مسلم بحجيته، وإن سلم فهو حجة ظنية غير قاطعة[9].
الترجيــح:
من استعراض حجج الفريقين ومناقشتها على الوجه المتقدم يبدوا لنا رجحان رأي الجمهور في صحة تعلق الإيجاب والقبول في الواحد بالجنس أو النوع، وفي الواحد بالشخص أيضا إذا تعددت جهاته، أما الواحد بالشخص المتحد الجبهة فلا يصح تعلق الإيجاب والقبول به معا للتناقض، وذلك للأدلة السابقة، وللضرورة التي تقضي بذلك، وإلا وقعنا في الحرج والمشقة لإفساد كثير من العقود التي تقع بعض المخالفات فيها لأمر الشارع، وفي ذلك مشقة بالغة بالأمة وحرج كبير، لعموم الجهل في بعض الأحكام الشرعية، وعدم الانتباه إلى المنهيات الشرعية، والحرج مرفوع عن الأمة الإسلامية.
مسألة حكم الأمر والنهي في ضدهما: هذه من المسائل الشائكة التي اختلف فيها الأصوليون على أقوال متعددة، ولا بد قبل الخوض في توضيح هذه الأقوال وبيان أدلتها من توضيح محل الاختلاف، فإن هناك جوانب كثيرة من هذه المسألة هي محل اتفاق فلا داعي إلى بحثها، ثم لا بد من بيان معنى الضد والفرق بينه وبين النقيض.
محل النزاع في المسألة ومعنى الضدين:
الضدان هما الأمران اللذان لا يجتمعان معا، وقد يرتفعان معا، كالسواد والبياض، فإن العقل لا يجيز اجتماعهما معا في الشيء الواحد، وإن كان يجيز ارتفاعهما معا من الشيء الواحد، كحلول الزرقة أو الصفرة أو غيرها في هذا المثال، بخلاف ما لو أحال العقل ارتفاعهما واجتماعهما معا، كالوجود والعدم، والحركة والسكون، فإنهما يسميان بالنقيضين لا بالضدين[10].
ثم إن الأمر والنهي إنما يطلقان على اللفظ والمعنى، فأما لفظ الأمر وهو (افعل) ولفظ النهي وهو (لا تفعل) المجردين فليسا مرادين في هذا الاختلاف، إذ الاتفاق قائم على أن لا علاقة لواحد منهما في نفي ضد الثاني من حيث اللفظ.
وكذلك مفهوم الأمر والنهي، فإنه غير مراد أيضا في هذا الاختلاف، لأنه يختلف باعتبار الإضافة، فإن الأمر مضاف إلى الفعل والنهي مضاف إلى ضده.
أما معنى الأمر والنهي وهو المعنى القائم في النفس حين إصدار الأمر أو النهي، فهو محل النزاع، وقد انقسم الأصوليون فيه إلى مذاهب عدة، ومثاله من قال لغيره: (اقعد) أيكون بمعنى قوله (لا تقم) تماما؟ على أن الأصوليين اتفقوا في كثير من نقاط هذا القسم أيضا.
ذلك أن الأمر قد يأتي نهي صريح بضده، فعندها يكون الضد محرما ومنهيا عنه بالاتفاق لهذا الدليل الخاص به لا لأنه ضد الأمر، مثال ذلك قوله تعالى: (فاعتزلوا النساء في المحيض) فإن ضده قربانهن، وقد جاء النهي عنه بقوله تعالى: (ولا تقربوهن) فكان تحريم القربان للدليل الخاص به وليس لأنه ضد الاعتزال، فهذا محل اتفاق لدى الفقهاء والأصوليين.
ثم إنه قد يكون للمأمور به ضد واحد فقط ليس له غيره، كالأمر بالإيمان، فإن له ضدا واحدا وهو الكفر، فيكون منهيا عنه باتفاق الفقهاء، ولا يكون هذا من محل النزاع أيضا.
فإذا كان للمأمور به أضداد متعددة، فهو محل النزاع، وقد انقسم فيه الأصوليون إلى مذاهب عدة أهمـها وأشهرهــا:
1- مذهب الإمامين الأشعري والباقلاني وبعض المعتزلة: وهو أن الأمر بالشيء نهي عن ضده، وكذلك النهي عن شيء فهو أمر بضده أيضا، سواء أكان هذا الأمر أمر إيجاب أو أمر ندب، أو كان النهي عنه نهي تحريم أو نهي كراهة، فإذا كان أمر إيجاب كان النهي عن ضده للتحريم، وإذا كان أمر ندب كان النهي عن ضده للكراهة، وكذلك النهي؛ إن كان للتحريم كان الأمر بضده للإيجاب، وإذا كان للكراهة كان الأمر بضده للندب، ويستوي في هذه الحال أن يكون الضد واحدا أو متعددا، ويكون في هذه الحال نهيا عن الأضداد كلها، أو أمرا بها كلها، وهذا المذهب هو الراجح لدى جمهور الأصوليين.
2- مذهب الغزالي وإمام الحرمين والمعتزلة، والمختار عند ابن الحاجب، وهو أن الأمر بالشيء ليس نهيا عن ضده، وكذلك النهي عن شيء ليس أمرا بضده، بل إن الضد مسكوت عنه فلا يشمله هذا الدليل، لا باللفظ ولا بالتضمن ولا بالالتزام.
هذا مع الإشارة إلى أن الإمام الغزالي يقصر هذا البحث على ما هو من أمر العباد ونهيهم فقط، أما أمر الله تعالى ونهيه فلا يتصور فيه الضد مطلقا عنده، بل لا يصح فرضه بحال، خلافا لجماهير الفقهاء الذين يتصورون المسألة في أمر الله تعالى وأمر غيره على حد سواء، وكذلك في نهيهم أيضا.
3- مذهب جماعة من الأصوليين، وهو التفريق بين أمر الإيجاب وأمر الندب، فأمر الإيجاب منهي عن ضد المأمور به، أما أمر الندب فليس منهيا عن ضده، وكذلك النهي إذا كان للتحريم فإنه يكون أمرا بضده، وإذا كان للكراهة لم يكن أمرا بضده.
4- مذهب بعض الحنفية، وهو أن الأمر إذا كان للإيجاب وقد فوت ضده المأمور به كان ضده منهيا عنه نهي تحريم، فإذا لم يفوت ضده المأمور به كان هذا الضد منهيا عنه نهي كراهة فقط، وكذلك الحال في النهي، إن كان ضده يفوِّت المنهي عنه كان مأمورا به للإيجاب، وإلا كان للندب فقط.
فمثال الأول، قوله تعالى: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) فإنه أمر للتربص وجوبا، ولا يحصل التربص إلا بالامتناع عن الزواج، فكان التزوج حراما لذلك، وكذلك قوله تعالى: (ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن)، فإنه نهى لا يتم إلا بإظهار ما في أرحامهن، فكان الإظهار واجبا لذلك.
ومثال الثاني الذي لا يفوت ضد المأمور به أو المنهي عنه الغرض المقصود من الأمر أو النهي قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة للمسيء صلاته: (ثم ارفع حتى تعتدل قائما) فإن هذا الأمر لا يدل على تحريم القعود، لأن القعود لا يفوت القيام، لإمكان الجمع بينهما متعاقبين، فكان القعود في وقت القيام مكروها فقط لذلك، ولو فرض القيام لازما في وقت محدد لا يتجاوزه لكان القعود في مكانه محرما لا مكروها فقط، لدخوله في القسم الأول، وكذلك نهي المحرم عن لبس المخيط وقت الإحرام، فإن انعدام ضده وهو لبس الإزار والرداء ليس مفوتا للمنهي عنه، لأن النهي يتحقق بلبس الإزار والرداء كما يتحقق بالخلع مطلقا، ولذلك كان لبس الإزار والرداء سنة لا واجبا[11].
وهذا المذهب هو الراجح لدى صاحب التوضيح من الحنفية.
5- مذهب بعض الأصوليين، وهو أن الأمر يستلزم النهي عن ضده، دون العكس، فإن النهي لا يستلزم الأمر بضده.
الأدلة ومناقشتهـــا:
1- استدل صاحب المذهب الأول بأن الأمر بالشيء لا يتحقق إلا بالكف عن الضد، فكان الحكم بالنهي عنه ضروريا لتحقيق معنى الأمر، وكذلك النهي عن الشيء لا يتحقق إلا بفعل ضده، فكان مأمورا به لذلك.
وعلى قول هذا المذهب فإنه إذا كان المأمور به له ضد واحد كان هذا الضد منهيا عنه على اليقين، لأن المأمور به لا يوجد إلا بذلك، وكذلك إذا كان له أضداد متعددة، فإنها جميعها منهي عنها لضرورة تحقق المأمور به، لأنه لا يتحقق إلا بذلك.
أما المنهي عنه فإن كان له ضد واحد، كان هذا الضد مأمورا به على اليقين، أما إذا كان له أضداد متعددة، فإن الأمر بالضد يكون أمرا مخيرا بينها، لأن النهي يتحقق بواحد منها فقط لا على التعيين[12].
2- استدل أصحاب المذهب الثاني بأن جعل الأمر بالشيء نهيا عن ضده حكم على الأمر ضمنا بتصور الضد وقت الأمر، وإلا لم يجز اعتباره نهيا عن الضد، وهذا باطل، إذ يتصور كثيرا أن يأمر إنسان بأمر وهو ذاهل أو جاهل بأضداده، وكذلك قد ينهى عن شيء وهو ذاهل عن أضداده، ولا يجوز بحال اعتباره ناهيا أو آمرا بالضد وهو ذاهل عنه[13].
3- واستدل أصحاب المذهب الثالث بما يأتي:
أ - إن الأمر إذا كان للوجوب استلزم الذم على الترك، لأن ذلك هو تعريف الواجب، فيكون ضد المأمور به محرما لهذا الذم، أما إذا كان الأمر للندب فإنه لا يستلزم الذم على الترك، لأن هذا هو حد المندوب، فلا يكون ضده ممنوعا على التحريم ولا على الكراهة لذلك[14].
ب - إن أوامر الندب كثيرة في الشرع، وهي تستغرق كل الأوقات تقريبا، فلو استلزمت كراهة أضدادها لسد بذلك باب المباح، وهو ممنوع لوجود المباح بالنصوص الكثيرة، بخلاف أوامر الإيجاب، فمحدودة معدودة لا تستغرق إلا جزءا من الوقت فقط، ولذلك لا تغلق باب الإباحة بحال، فافترقا في حكم الضد لذلك.
4- واستدل أصحاب الرأي الرابع وهم بعض الحنفية لمذهبهم، بأن الضد غير مقصود بالأمر أو النهي ظاهرا، ولذلك فإنه لا يعتبر مدلولا عليه بهذا الأمر أو النهي إلا من حيث تفويته للمقصود منها، فإذا فوته جعلناه كالمقصود بالأمر والنهي في الحكم، فأثبتنا له الوجوب والحرمة، وإذا لم يفوته جعلناه مندوبا أو مكروها فقط، ملاحظة لظاهر الأمر والنهي، أي إننا ننزل به عن التحريم إلى الكراهة، وعن الوجوب إلى الندب، لما طرأ على قصده وعده مشمولا بالأمر أو النهي من شبهة، لأن الوجوب والحرمة لا يثبتان مع الشبهة[15].
5- أما أصحاب الرأي الخامس فقد استدلوا لمذهبهم بدليلين:
1- أن النهي طلب نفس الفعل لا طلب الكف عنه الذي هو ضد الأمر، فلا يكون أمرا بالضد.
2- أنه لو استلزم النهي عن الشيء الأمر بضده لأدى طرده إلى أن يكون النهي عنه مأمورا به، كما في النهي عن الزنا[16].
الترجيح والاختيــار:
بعد استعراض ما تقدم من الآراء والأدلة أرى أن الأرجح من هذه الأقوال هو القول الرابع، وهو مذهب بعض الحنفية، من أن الأمر أو النهي إذا تعدد ضدهما وتوقف عليه وجودا أو عدما تحقق المأمور به أو المنهي عنه فإنه يعتبر الأمر بالشيء نهيا عن ضده، و النهي عن الشيء أمرا بضده، إلا إنني أخالفهم في أن الضد إذا لم يفوت المقصود من الأمر والنهي يكون مكروها أو سنة، فأقول، الأمر هنا لا عمل له في ضده، وكذلك النهي، لأننا قلنا بالأول استلزاما ولا استلزام هنا.
هذا وإنني أرى أن مما يدعم هذا الرأي الذي ذهبت إليه قول الأصوليين: (إن ما توقف عليه حصول الواجب فهو واجب) ذلك أن الواجب المدلول عليه بالأمر هنا متوقف على عدم الضد، فكان هنا واجبا لذلك، وأما رد الغزالي رحمه الله تعالى على ذلك، بأنه لم يقم الدليل على أن ما توقف عليه حصول الواجب فهو واجب بنفس دليل الواجب الأول، بل لا بد له من دليل جديد، فإني أقول فيه: إن الأصل حصوله بالدليل الأول نفسه بطريق الالتزام، وقد أشرنا في مبحث مقدمة الواجب أنه هو الأرجح، وأنه مذهب جمهور الفقهاء[17].
[1] قارن مع ما في المصباح المنير مادة (حرم).
[2] انظر أبا زهرة ص41، والخضري ص/52/ والتوضيح 2/135.
[3] التلويح 2/125 ـ 126، وأبا زهرة ص 41 ـ 42.
[4] انظر التلويح 2/125 ـ 126.
[5] انظر المستصفى 1/79 ـ 80.
[6] الضروريات خاصة بحفظ الدين والمال والنفس والعقل والعرض، فكل ما يؤدي إلى فوات واحدة من هذه الخمس يعتبر ضرورياً، أما ما يؤدي إلى مشقة بالغة فهو الحاجي، وما دونه يعتبر تحسينياً. انظر فقرة /72/ من هذه المذكرة.
[7] انظر أبا زهرة ص/43/.
[8] انظر المستصفى 1/76 ـ 77. والعضد مع حاشية السعد عليه 2/2.
[9] انظر في هذا الموضوع الأقوال والأدلة في المستصفى 1/76-81، والعضد 2/2-4 وفواتح الرحموت 1/104-110، والخضري ص54-57.
[10] انظر مذكرات الدكتور فوزي فيض الله – فقرة (229- هامش رقم 1).
[11] انظر في هذه الأمثلة التوضيح والتلويح عليه: 1/223-224.
[12] المستصفى: 1/81.
[13] المستصفى: 1/82.
[14] العضد: 2/90.
[15] التوضيح والتلويح عليه: 1/223.
[16] انظر في مسألة حكم الأمر والنهي في ضدهما الآراء والأدلة والأوجه المتعددة المستصفى: 1/81، والعضد على مختصر ابن الحاجب: 2/85 والتلويح على التوضيح 1/223، والمحلي على جمع الجوامع: 1/223-243، ومذكرات الدكتور فوزي فيض الله – فقرة/ 229-231) وفواتح الرحموت 1/97.
[17] انظر المستصفى: 1/82.