الحلقة (8)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والتابعين، ومن تبع هداهم بإحسان إلى يوم الدين .
أيها الإخوة المستمعون: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وبعد:
فقد تقدمت الإشارة في حلقة سابقة، إلى أن زكاة المال لا تجب في أموال الصغار دون البلوغ، سواء كانوا مميزين أو غير مميزين، ولا تجب في أموال المجانين والمعتوهين، لأنها عبادة كالصلاة لاتجب على غير المكلفين، والصغير والمجنون والمعتوه ليسوا من أهل التكليف، فلا تجب عليهم الزكاة أيضا، لقوله صلى الله عليه وسلم: (رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاثَةٍ: عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَشِبَّ، وَعَنْ الْمَعْتُوهِ حَتَّى يَعْقِلَ) رواه أصحاب السنن الأربعة، ولأن موجب ترك الواجب هو الإثم، وهؤلاء غير مكلفين، فلا يأثمون بالترك، فلا تكون واجبة عليهم، وهذا هو مذهب الحنفية .
وذهب المالكية والشافعية والحنبلية، إلى أن الزكاة تجب في مال الصغير والمجنون والمعتوه، ويخرجها عنه من يلي عليه في ماله، واستدلوا على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أَلا مَنْ وَلِيَ يَتِيمًا لَهُ مَالٌ فَلْيَتَّجِرْ فِيهِ وَلا يَتْرُكْهُ حَتَّى تَأْكُلَهُ الصَّدَقَةُ) رواه الترمذي، ولأنها وجبت لحق الفقراء والمساكين والمحتاجين، فلا تتعلق بالتكليف .
واستثنى أبو حنيفة من ذلك زكاة الزروع، وزكاة الفطر، فقال: تجب زكاة الزروع في مال الصغير والمجنون والمعتوه، على خلاف أمواله الأخرى، لصراحة النص القرآني في تعلقها بالزرع نفسه، قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَءَاتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)141/ الأنعام . وكذلك زكاة الفطر، لأنها زكاة النفس، والصغير له نفس كالكبير، فتلزمه .
كما استثنى جمهور الفقهاء الجنين قبل ولادته، إذا كان له مال، كما إذا ورث أو أُوصي له، فقالوا: لا زكاة في مال الجنين، لأن ملكه لم يستقر بعد فيه .
أما زكاة الشركات، التجارية، والصناعية، والزراعية وغير ذلك، هل تجب الزكاة في أموالها باعتبارها شركة ذات شخصية اعتبارية مستقلة عن شخصيات الشركاء المشتركين فيها أو المكونين لها، من حيث النصاب، والحول، ومقدار الواجب، أم تجب على الشركاء بحسب أشخاصهم، كل منهم مستقلا في حصته، وهما مختلفان؟
ذهب الحنفية إلى أن الزكاة تجب على الشركاء بحسب أشخاصهم، كل منهم بحسب حصته في الشركة، من حيث النصاب ومقدار الواجب والحول، مهما كان نوع الشركة زراعية أو صناعية أو زراعية أو في المواشي والسوائم أو غير ذلك، وكأن كللا من الشركاء ماله مستقلا ومفصولا عن مال الآخرين، فلو كان لرجلين سبعون شاة بينهما نصفين، فلا زكاة في هذه الشياه على أي منهما، لأن نصيب كل منهما فيها أقل من النصاب، ولو كان لهما مائة شاة بينهما نصفين، لكان على كل منهما شاة واحدة، وهكذا .
ووافق جمهور الفقهاء الحنفية في الشركات عامة، سوى شركات المواشي، حيث قالوا: إذا كانت المواشي مشتركة بين اثنين أو أكثر، أوكانت مختلطة تتميز حصة كل منهم عن الآخر، لكنها تشترك في المرعى والمرافق، فإنها تجعل كالمال الواحد، من حيث النصاب، ومقدار الواجب، والحول، فإذا كان لاثنين ستون شاة مناصفة بينهما، وجب فيها في كل حول شاة مناصفة بينهما، وإن كانت حصة كل واحد منهما لا تبلغ نصابا .
وذهب الشافعية في القول الأظهر لديهم، إلى أن المال المشترك والمال المختلط مطلقا يعامل معاملة المال الواحد، في النصاب، والقدر الواجب، والحول .
أما مال الرجل الواحد إذا كان مفرقا بين بلدان مختلفة، فهل يعامل معاملة المال الواحد، أو معاملة الأموال المتعددة؟
ذهب الجمهور من الفقهاء إلى أنه يعامل معاملة المال الواحد، من حيث النصاب، ومقدار الواجب فيه من الزكاة، والحول، سواء كان من المواشي أو عروض التجارة أو الذهب والفضة أو النقود أو غير ذلك، وذهب الحنبلية في المعتمد عندهم، إلى ما ذهب إليه الجمهور سوى المواشي، حيث قالوا: إذا كانت المواشي لرجل واحد، وكانت في بلد واحد، زكاها زكاة المال الواحد، مهما كثر عددها، أما إن كانت في مكانين، فإن كانت المسافة بينهما دون مسافة القصر، زكاها كزكاة المال الواحد أيضا، وإن كانت المسافة بينهما مسافة قصر فأكثر، زكى كل واحد منهما منفصلا عن الآخر .
وعليه، فلو كان لرجل واحد خمسون شاة في الكويت، وخمسون شاة في مكة المكرمة مثلا، كان عليه في كل عام شاة في الكويت، وشاة في مكة المكرمة، عند الحنبلية، ولو كان الجميع في الكويت أو في مكة المكرمة، لوجب عليه شاة واحدة فقط عندهم ، أما جمهور الفقهاء فلا يوجبون عليه سوى شاة واحدة في الحالين .
وقد احتج الحنبلية لمذهبهم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ وَلا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ) رواه البخاري .
واحتج الجمهور لمذهبهم بأن الزكاة تجب في ذمة المزكي مهما تعددت أمواله واختلف مكانها، وذمة المزكي واحدة، فيجب عليه زكاة مال واحد .
وهل يعفى من الزكاة من لم يعلم بفرضيتها؟ كمن أسلم في دار الحرب ولم يخبره أحد بوجوب الزكاة عليه؟
ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الزكاة تجب على المسلم إذا تحققت شروطها، سواء علم بفرضيتها عليه أو لم يعلم، وسواء كان في دار الحرب أو في دار الإسلام .
وذهب الحنفية إلى أن العلم بفرضية الزكاة أو إمكان العلم به شرط لوجوبها عليه .
وعليه إذا أسلم حربي في دار الحرب، ولم يعلمه أحد بفرضية الزكاة عليه، لم تلزمه الزكاة عند الحنفية، ولزمته عند الجمهور من الفقهاء .
أما المقيمون في دار الإسلام فلا يعذرون بجهلهم بفرضية الزكاة باتفاق الفقهاء، لنمكنهم من السؤال عن ذلك فيه، وللقاعدة الفقهية الكلية: (لا عبرة بالجهل في دار الإسلام) .
وهل التمكن من أداء الزكاة شرط لوجوب لأدائها؟
ذهب المالكية والشافعية إلى أن التمكن من أداء الزكاة شرط لوجوب أدائها، وذهب الحنفية والحنبلية إلى أن التمكن من الأداء ليس شرطا لوجوب الأداء .
وعليه فإذا وجبت الزكاة على المسلم لتمام الحول، ثم هلك المال قبل أن يتمكن من إخراج الزكاة منه، سقطت عنه زكاته في قول المالكية والشافعية، ولم تسقط عند الحنفية والحنبلية .
وهل تجب الزكاة في المال العام وزكاة أموال الأوقاف؟
عامة الفقهاء على أن الزكاة لا تجب في الأموال العامة، وهي أموال الدولة، أو أموال بيت المال، وهو ما يعرف اليوم بالخزانة العامة، أو المالية، وذلك لأن هذا المال مخصص للنفع العام لجميع المسلمين، وأنه يصرف في مصالحهم، فلم يبق معنى لوجوب الزكاة فيه، ما دام كذلك .
أما أموال الأوقاف، فإن كانت أوقافا خيرية لم تجب الزكاة فيها عن أكثر الفقهاء، وإن كان الوقف ذريا أو أهليا، فقد اختلفت فيه آراء الفقهاء، فأوجبها بعضهم على المستحقين للوقف، كل على قدر حصته في ريعه، ولم يوجبها آخرون، لأن الزكاة تجب على المالك، والموقوف عليه لا يملك عين الوقف، لأنه على ملك الله تعالى .
والله تعالى أعلم .
وإلى اللقاء في الحلقة القادمة بإذن الله تعالى، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته .
6/شعبان/1421هـ