كفارة الظهار
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والتابعين، ومن تبع هداهم بإحسان إلى يوم الدين .
أيها الإخوة المستمعون: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وبعد:
فإن كلامنا اليوم سوف يكون في كفارة الظهار، ولا بد قبل معرفة هذه الكفارة من معرفة الظهار نفسه، من حيث تعريفه، ثم حكمه، وحكمة مشروعيته، وشروطه، وآثاره، وسبب وجوب الكفارة فيه، ثم الكلام بعد ذلك على كفارته، من حيث مقدارها، وشروطها، وما إلى ذلك:
فالظهار هو تشبيه الرجل زوجته أو جزءا منها، بامرأة محرمة عليه تحريما مؤبدا، أو بجزء منها يحرم عليه النظر إليه، كالظهر والبطن، وقد كان ذلك معروفا عند العرب في الجاهلية قبل الإسلام، فإذا غضب الرجل على زوجته ولم يرد أن يطلقها فتتزوج غيره قال لها: أنت عليَّ كظهر أمي، فتحرم عليه عندهم تحريما مؤبدا، وتبقى معلَّقة لا تستطيع الزواج من غيره، واستمر الأمر على ذلك في أول الإسلام، حتى غضب أوس بن الصامت من الصحابة P فقال لزوجته خولة بنت ثعلبة: أنت عليَّ كظهر أمي، فذهبت إلى النبي r تسأله عن ذلك، أهو طلاق أم لا؟ فنزل قوله تعالى: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) 1-4/ المجادلة . فقد بينت الآية الكريمة أن الظهار أمر مستنكر وإنه إثم من القول ولا ينبغي للمسلم أن يفعله، لما فيه من الإيذاء للمرأة، فإذا ما حصل لم يكن طلاقا، ولا نوعا منه، ولا تحرم الزوجة به على زوجها، على خلاف ما كان الأمر عليه في الجاهلية، ولكنه ذنب يحتاج في التوبة منه إلى الكفارة .
وأما حكمة تشريعه فظاهرة في حماية الزوجة من تعسف زوجها في معاملتها، ومنعه من إيذائها والإضرار بها، وهذا الحكم يعد واحدا من مظاهر تكريم الإسلام للمرأة، حيث أمر النبي r في أحاديث كثيرة بإكرام المرأة، وجعل هذا الإكرام مظهرا من مظاهر الرجولة الحقة والشهامة والخيرية، فقال r: (خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِي) رواه الترمذي. وقال r أيضا: (وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، فَإِنَّهُنَّ خُلِقْنَ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلاهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا) متفق عليه .
ولا يكون الظهار ظهارا معتبرا شرعا إلا إذا استوفى شروطه الشرعية، وأهمها:
أولا) أن يكون التشبيه فيه موجها للزوجة كلها، أو لجزء شائع منها، أو لجزء منها يعبر به عن كلها مجازا، كأن يقول الزوج لزوجته: أنت عليَّ كظهر أمي، أو نصفُك عليَّ كنصفِ أمي، أو رأسك عليَّ كرأس أمي، أو نحوا من ذلك .
ثانيا) أن يكون التشبيه بامرأة محرمة على الزوج تحريما مؤبدا، كأمه وأخته، فإن شبهها بمن تحرم عليه حرمة غير مؤبدة، كزوجة الأخ مثلا، فلا يكون ظهارا عند كثير من الفقهاء، وجعله بعضهم ظهارا أيضا .
ثالثا) أن يكون المظاهِر كامل الإرادة عند الظهار من زوجته، عند جمهور الفقهاء، فلو كان مكرَها لم يصح ظهاره، وقال الحنفية يصح ظهار المكرَه، كالهازل .
رابعا) قيام الزوجية بين المظاهِر والمظاهَر منها حقيقة أو حكما عند الظهار، عند جمهور الفقهاء، فلو طلَق الزوج زوجته ثم ظاهر منها بعد انقضاء العدة، لم يصح ظهاره، لانتهاء الزوجية بذلك حقيقة وحكما، فإن كان الظهار قبل انتهاء العدة، فإن كان الطلاق بائنا لم يصح الظهار أيضا، لانقضاء الزوجية بالبينونة حكما، وإن كان رجعيا، صح الظهار، لأن المعتدة من طلاق رجعي زوجة حكما .
خامسا) أن يكون المظاهر مكلفا، بأن يكون عاقلا بالغا، فلو كان مجنونا أو صغيرا، لم يصح ظهاره، ويكون لغوا .
ويترتب على مظاهرة الرجل من زوجته إذا تم الظهار بينهما مستكملا لشروطه السابقة، أن تحرم المرأة على زوجها به حرمة مؤقتة، من غير أن تَطلق منه، فتكون عليه محرَّمة كحُرمة المرأة الحائض والنفساء على زوجها، دون أن تنقطع الزوجية بينهما، ولا تعود إلى الحل له إلا بعد الكفارة، فإذا لم يكفر تبقى عليه مُحرَّمة، ولا يحل له وطؤها، فإذا طلقها بعد الظهار ثم عقد عليها من جديد بعد زواجها من زوج آخر، أو قبل ذلك، لم تحل له قبل التكفير أيضا، للاستمرار حرمتها عابه، فإذا وطئها أثم وأثمت هي معه إذا طاوعته على ذلك، فإذا امتنع الرجل المظاهر عن الكفارة، وتضررت زوجته من بعده عنها، كان ذلك مبررا لزوجته أن ترفع عليه دعوى تفريق بسبب الضرر، والقاضي يطلقها من زوجها إذا أبى التكفير والعودة إليها بناء على طلبها، رفعا للضرر عنها .
والكفارة لها شروط لا تصح بدون توافرها، وهي:
أولا) أن يكون التكفير بعد الظهار لا قبله، فلو كفَّر الزوج قبل الظهار، ثم ظاهر من زوجته بعد ذلك، كان عليه التكفير مرة ثانية، لعدم صحة الكفارة الأولى، لاختلال شرطها .
والثاني) النيَّة، وهي نية التكفير عن الظهار، فلو كفر من غير نية، بالإعتاق أو بالصوم أو بالإطعام، لم تقبل الكفارة منه، لأنها عبادة، فلا تصح بغير النية .
وأما خصال كفارة الظهار فهي ثلاثة، كما بيَّنتها الآية الكريمة، في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا، ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا، فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا، ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ، وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) 3-4/ المجادلة .
وقد اتفق الفقهاء على أن الواجب في كفارة الظهار في هذه الخصال على الترتيب، وليس على التخيير، فيكون التكفير بالعتق أولا، وهو إعتاق رقبة مؤمنة، أي إعتاق رقيق ذكر أو أنثى، ، عند أكثر الفقهاء، وأجاز بعضهم إعتاق الرقبة غير المؤمنة، ولا يصح التكفير بغير الإعتاق إذا كان التكفير به ممكنا، فإذا لم يتيسر -وهو غير متيسر الآن لانعدام الأرقاء- وجب التكفير بالصيام ستين يوما متتابعة، ليس فيها أيام رمضان وعيد الفطر ووعيد الأضحى وأيام التشريق، فإن أفطر فيها يوما واحدا وجب عليه أن يعيد الصيام من أوله، فإن عجز عن الصيام لمرض أو غيره، كفَّر بإطعام ستين مسكينا، كلَّ مسكين وجبتين، عند بعض الفقهاء، ووجبةٍ واحدةٍ عند فقهاء آخرين، ولهذا قدَّر بعضهم الكفَّارة عن كل مسكين بمُدٍّ من الطعام، وقدرها بعضهم بمُدَّين، وقد مضى تفصيل ذلك وشروطه في كفارة اليمين .
ويجب الانتباه إلى أن التكفير واجب على المظاهر من زوجته قبل أن يعود إليها، فإذا جامعها قبل التكفير أثم، فإذا جامعها في أثناء التكفير بالصوم، أثم وو جب عليه استئناف الصوم من أوله مرة ثانية، لأن الواجب عليه أن يتم التكفير بالصوم متتابعا قبل أن يعود إلى زوجته، وذلك بنص قوله تعالى السابق:( مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) 3/ المجادلة .
والله تعالى أعلم .
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته .