الحلقة (13)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والتابعين، ومن تبع هداهم بإحسان إلى يوم الدين .
أيها الإخوة المستمعون: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وبعد:
فقد بينا في حلقات سابقة شروط الزكاة وبعضا من أحكامها، ووجب علينا الآن بيان مصارف الزكاة، والجهات التي تدفع الزكاة إليها، لأن الزكاة كما تقدم عبادة من أجل العبادات، وركن من أركان الإسلام، ولا تبرأ الذمة منها ويثبت الأجر فيها إلا إذا دُفعت لمستحقيها الشرعيين، بحسب شروطٍ وضوابطَ بينها القرآن الكريم، والسنة المطهرة، ويجمع هذه المصارف كلها الحاجة إلى المال، إلا أن الحاجة إلى المال تختلف بين الناس باختلاف أحوال متعددة، فمنهم من يحتاج المال لطعامه وشرابه ومسكنه وسائر أموره الحياتية اليومية، وبعضهم يحتاجه لانشغاله بطلب العلم، وبعضهم يحتاجه للتجهز به للغزو والجهاد في سبيل الله تعالى، وبعضهم يحتاجه لمداواة أمراضه، وبعضهم يحتاج المال ليتفرغ لجمع الزكاة وتوزيعها على مستحقيها، وبعضهم يحتاج المال ليقوي به إيمانه ويثبت به عقيدته الهشة التي لم تثبت في نفسه بعد، وبعضهم يحتاجه ليساعد به غيره من المحتاجين للمال، وهكذا، ولهذا كان لا بد من بيان المحتاج الذي يستحق الزكاة وضوابطه، لئلا تخرج الزكاة عن مسارها وتُحجب عن مستحقيها الحقيقيين، وقد بيَّن الله سبحانه وتعالى مستحق الزكاة من المحتاجين إليها بقوله سبحانه: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) 60/ التوبة، فإذا دفعها المزكي إلى غير هؤلاء لم تقبل منه، وكان عليه أداء غيرها مرة ثانية، هذا ما اتفق الفقهاء عليه، لصراحة النص القرآني السابق، ولكن الفقهاء بحثوا في أوصاف هؤلاء المستحقين للزكاة، وشروط استحقاقهم لها، فاتفقوا في بعض ذلك واختلفوا في بعضه الآخر، على أقوال، كما اختلفوا في جواز أن تدفع الزكاة لواحد من هذه الصناف، أو أن توزع عليهم جميعا، وفي أمور فرعية أخرى، وسوف أقوم ببيان ما يتيحه لي الوقت من ذلك، شارحا هذه المصارف واحدة واحدة، ومبينا أوصاف كل طائفة من مستحقي الزكاة كما يلي:
1- الصنفان الأول والثاني هما الفقراء والمساكين: وقد اتفق الفقهاء على أن الفقراء والمساكين هم أهم ذوي الحاجة للمال، المستحقين للزكاة، ثم اختلفوا في تعريف كل من الفقير والمسكين، وضوابط كل منهما على أقوال، وذلك بعد أن اتفقوا على أن الفقير لو ذكر منفردا مستقلا عن المسكين كان مرادفا له، وكذلك المسكين إذا ذكر منفردا كان مرادفا للفقير.
والاختلاف بينهم محصور فيما إذا ذكر الفقير والمسكين معا في مكان واحد، كما هو حاصل في الآية الكريمة السابقة .
حيث ذهب الحنفية والمالكية إلى أن المسكين من لا يجد شيئا من المال أصلا لا نصابا ولا مادون النصاب، أما الفقير المستحق للزكاة، فقد ذهب الحنفية: إلى أنه مَن يجد من المال شيئا دون النصاب، وقال المالكية: الفقير من يجد من المال شيئا لا يكفيه لقوت عامه .
وذهب الشافعية والحنبلية إلى أن الفقير من لا مال له ولا كسب يقع موقعا من حاجته، أما المسكين فهو من يجد نصف حاجته أو أكثر، ولكنه لا يجدها كلها .
وقد احتج كل من الفقهاء المذكورين لقوله بما قرره وذهب إليه علماء اللغة، وببعض الأدلة الشرعية الأخرى .
كما اختلف الفقهاء في الغنيِّ الذي لا يجوز له أخذ الزكاة، ولا يجوز لغيره أن يدفعها له، على أقوال، وذلك بعد أن اتفقوا على عدم جواز دفع الزكاة لغني، لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (وَلا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ) رواه أبو داود والنسائي وأحمد .
فذهب المالكية والشافعية وأحمد في رواية عنه، إلى أن الغنى المانع من أخذ الزكاة مربوط بتوفر الكفاية لمن يأخذها أو عدم توفرها له، فمن توفرت له الكفاية -وهي: الطعام والشراب والكساء والمسكن وما لابد له منه، على ما يليق بحاله، من غير إسراف ولا تقتير، له ولمن هو في عياله وتلزمه نفقته، أو وجد من النقود ما يوفر له ذلك- حرم عليه أخذ الزكاة، ولم تبرأ ذمة من دفع له الزكاة منها، ومن لم تتوفر له الكفاية على الوجه المتقدم، يجوز له أخذ الزكاة، ولو كان له نُصُبٌ من المال الذي تجب الزكاة فيه، وعليه فقد تجب الزكاة على من يحل له أخذها عند الجمهور .
وذهب الحنفية إلى أن الأمر منوط بتوفر النصاب عنده، فإن كان عنده نصاب من المال زائد عن حاجاته الأصلية لم يحل له أخذ الزكاة، ومن لم يجد نصابا فله أخذ الزكاة، واستدلوا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم : (فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ) متفق عليه . وعليه فلا تحل الزكاة عند الحنفية لمن يجب عليه أداؤها، ولا تجب على من يحل له أخذها، خلافا للجمهور .
وذهب الحنبلية في رواية ثانية عليها ظاهر المذهب، إلى أن الغَني الممنوع من أخذ الزكاة هو من يجد كفايته، فإن لم يجد كفايته، فإن كان له من المال ما يساوي خمسين درهما أو قيمتها من الذهب لم يحل له أخذ الزكاة، ولو لم تكفه لحديث: (مَنْ سَأَلَ النَّاسَ وَلَهُ مَا يُغْنِيهِ كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُمُوشًا فِي وَجْهِهِ، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَمَا يُغْنِيهِ؟ قَالَ خَمْسُونَ دِرْهَمًا أَوْ قِيمَتُهَا مِنَ الذَّهَبِ) رواه الترمذي وأحمد .
وبناء على هذه الآراء المختلفة في تعريف كل من الفقير والمسكين الذين يحل لهما أخذ الزكاة من جهة، والغَني الذي لا يحل له أخذ الزكاة من وجه آخر، فقد اختلف الفقهاء في مسائل، نذكر منها ما يلي:
1- ذهب الجمهور إلى أنه لا يجوز دفع الزكاة لمن لم يكن له ما يكفيه من المال، إذا كان له دخل يكفيه، أو كان له من يتكفل بنفقته شرعا، كالزوجة، أو كان له صنعة يستغني بها.
وذهب الحنفية إلى جواز دفع الزكاة لمن لم يملك نصابا زائدا عن حاجاته الأصلية، ولو كان له صنعة أو من ينفق عليه .
2 - ذهب جمهور الفقهاء إلى عدم جواز دفع الزكاة لمن يقدر على التكسب إذا كانت وسائل التكسب ميسرة له، ولو كان لا يملك من المال ما يكفي حاجته، سواء تكسب أو لم يتكسب، فإن تكسب فقد غَني بكسبه، وإذا لم يتكسب كان هو المسؤول عن فقره وحاجته، فلا تدفع الزكاة له، واستثنوا من ذلك طالب العلم، فقالوا طالب العلم الجادِّ في طلبه عاجز عن الكسب حكما، فتعطى له الزكاة إذا لم يكن له مال يكفيه، ولا يكلف بالتكسب.
وذهب الحنفية إلى جواز دفع الزكاة لمن لا يملك نصابا، ولو كان صحيحا قادرا على التكسب، وكان التكسب ميسرا له، سواء كان طالب علم أو غيره، ولكن إذا اكتسب فعلا وملك نصابا لم يحل له أخذ الزكاة، وإلا حل له أخذها، لقيام صفة الفقر فيه.
وهل يجب على المزكي أن يسأل عن حال من يدفع الزكاة له، ولا يجوز له أن يدفعها له حتى يثق بأنه فقير أو مسكين، أم س\يكفيه الظاهر من حاله؟
عامة الفقهاء على الاكتفاء منه بالظاهر من حاله، دون إغراق في التفتيش والبحث عن ذلك، لما فيه من التجسس وإيذاء الفقير والمسكين، وهما أمرا ممنوعان شرعا، إلا أنه لا يدفعها لمن يظن أنه غني .
والله تعالى أعلم .
وإلى اللقاء في الحلقة القادمة بإذن الله تعالى، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته .
8/شعبان/1421هـ