الحلقة (12)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والتابعين، ومن تبع هداهم بإحسان إلى يوم الدين .
أيها الإخوة المستمعون: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وبعد:
فإن كثيرا من المسلمين يقعون في تصرفاتهم المالية وغيرها في بعض الشبهات المحرمة، أو الحرام الصرف الواضح، كالغش والخديعة والتدليس والتزوير وإخفاء العيوب و أكل الربا أو إطعامه للآخرين من غير ضرورة، أو الزنا والسرقة والغصب، وما إلى ذلك من المعاصي والموبقات، ثم ينتبهون لأنفسهم، ويفيقون من سباتهم، ويحسون بسقطاتهم، بعد مدة من الزمان، قد تطول أو تقصر، ويتوبون إلى الله تعالى، ويسألون عن المال المشبوه أو الحرام الذي جنوه من هذه التصرفات المخالفة لأمر الله تعالى بشكل صريح، أو المشتبهة، ويسألون عما يجب عليهم فعله في هذه الحال من مكملات التوبة النصوح، كما يسألون عن مدى وجوب الزكاة عليهم في أموالهم التي جنوها من هذه الطرق المحرمة أو المشبوهة، من حيث وجوب الزكاة عليهم فيها، عن تلك المدة التي وقعوا فيها في المخالفات الشرعية، وجوابي عن ذلك كله ما يلي:
على الإنسان عندما يقدم على أمر ما من الأمور، أو تصرف ما من التصرفات، ماليا كان أو غير مالي، أن يَعْلَم حكمه الشرعي، فإن كان هو من العلماء بحث عن حكمه بين الأدلة الشرعية، من قرآن، وسنة، وإجماع، وقياس، واستحسان، واستصلاح، واستصحاب، وغيرها، وإن كان من عامة الناس، بحث عن الحكم الشرعي بسؤال العلماء عنه، لقوله تعالى:( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) 43/ النحل، ولا يحل له بحال أن يعمل من غير علم بالحكم الشرعي، سواء أصاب في عمله بعد ذلك أو أخطأ، لقوله صلى الله عليه وسلم: (الْقُضَاةُ ثَلاثَةٌ: قَاضِيَانِ فِي النَّارِ وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ، رَجُلٌ قَضَى بِغَيْرِ الْحَقِّ فَعَلِمَ ذَاكَ، فَذَاكَ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ لا يَعْلَمُ فَأَهْلَكَ حُقُوقَ النَّاسِ، فَهُوَ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ قَضَى بِالْحَقِّ، فَذَلِكَ فِي الْجَنَّةِ) رواه الترمذي، فإذا علم المسلم الحكم الشرعي وجب عليه التزامه وعدم الخروج عليه، ما أمكنه ذلك، لقوله تعالى: (وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) 7/ الحشر . وقوله صلى الله عليه وسلم: (مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) رواه الترمذي وأحمد . وقوله سبحانه: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) 36/ الأحزاب .
ولكن المؤمن قد تصيبه غفلة، فتزلَّ قدمه، ففي هذه الحال عليه أن ينتبه من غفلته فورا، ويتوب إلى الله تعالى من غفلته وزلته، ولا يستغرق فيها فَيُران على قلبه، قال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ)201/الأعراف، وقال جل من قائل: (كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) 14/ المطففين. وقال جل من قائل:(إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) 17/ النساء.
وقد بيَّن العلماء أن من شروط التوبة النصوح أن يندم المرء على ما فَرَط منه من كل قلبه، ويتمنى أنه ما وقع منه ذلك، ويعزم على عدم العود إلى مثله، وأن يرد الحق إلى أصحابه إذا كان هناك حق لأحد من الناس، ولا تقبل توبته إلا بذلك، فإذا لم يعلم صاحب الحق وجب عليه إنفاقه للفقراء والمساكين وفي طرق البر العامة، وأن يدعو الله تعالى أن يقبل منه توبته، وأن يعينه على الثبات عليها، وأن يعمل من الخيرات والمبرات وعبادة الله تعالى ما يظن أنه مكفر لذنبه، ولا يكفيه مجرد الندم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يُقَلِّبُهَا) رواه الترمذي وأحمد، وقال صلى الله عليه وسلم: (اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ) رواه الترمذي وأحمد والدارمي. فإذا ندم مرتكب المحرمات على فعله، ولم يرد المظالم إلى أهلها، كانت توبته معلقة على رَدِّه هذه الحقوق إلى أصحابها، أو صرفِها إلى الفقراء والمساكين وفي طرق البر العامة، إذا لم يعلم أصحابها، ولا يحل له صرفها إلى الفقراء مع علمه بأصحابها وتمكنه من ردها إليهم، خلافا لما يظنه بعض الناس، فإذا تاب المسلم المخطئ التوبة النصوح قبلها منه الله سبحانه لقوله جل من قائل: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) 25/الشورى، وقوله جل من قائل: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) 186/ البقرة، وربما أبدله الله تعالى بسيئته التي تاب منها توبة نصوحا وعمل صالحا حسناتٍ، قال جل من قائل: (إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)70/الفرقان، وهذا وعد من الله مشجع لكل مخالف لأمر الله تعالى أن يسارع إلى التوبة النصوح إلى الله سبحان ابتغاء التخلص من ذنبه، وابتغاء أن يبدل الله تعالى له سيئاته حسنات، كما تقدم، ولا يتساهل ويتسامح مع نفسه ويمنيها الأماني ويعده بالتوبة بعد لأي أو زمان، فإنه لا يدري متى يأتيه الأجل، وربما باغتته المنية فخاب سعيه، وانقطع رجاؤه، فكان من الهالكين، قال سبحانه: (وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وََلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) 18/ النساء.
والآن جاء دور الكلام عن زكاة المال الحرام بعدما تاب صاحبه، فإن زكاته أن يعيده إلى صاحبه كله إن علم صاحبه، فإن لم يعلم صاحبه وجب عليه إخراجه كله للفقراء والمسكين وفي طرق البر العامة، بالغا ما بلغ، ولا يَخرجُ عن العهدة إلا بذلك، ولا يكفيه أن يُخْرِج منه ربع العشر، أو نصف العشر، أو العشر، أو النصف، أو غير ذلك، على خلاف المال الحلال، حيث يكفيه أن يخرج منه مقدار الزكاة لا غير . وربما ورد على لسان بعض العلماء كلمة: أن المال الحرام لا تجب فيه الزكاة لعدم الملك، إلا أن مرادهم أن إخراج مقدار الزكاة منه لا يكفيه ولا يحله، ولكن عليه إخراجه كُلَّه، على حسب ما تقدم .
ويَسأل البعض فيقول: مالي كله حرام طيلة حياتي، كمحترفي الزنا، وصنع الخمور، وآكلي الربا أو مؤكليه، وما إلى ذلك، ثم يقول: وفقني الله تعال إلى التوبة وتبت إلى الله تعالى، فهل لي أن استبقي مالي الذي جنيته من الحرام، أو أستبقي منه نصفه مثلا وأتصدق بالنصف الآخر، أم أن عليَّ أن أنفقه كله، ثم أبقى عالة على الناس، والجواب أن توبتك موقوفة على أمور ثلاثة: الأول الندم، والثاني العزم على عدم العود إلى مثله، والثالث أن ترد الحقوق إلى أصحابها، فإن لم تعلم أصحابها فإلى الفقراء والمساكين وفي طرق البر العامة، وليس لك أن تستبقي منها إلا قوتك وقوت عيالك، والضروي من الملبس والمسكن، وهو ما يعبر عنه الفقهاء بما يستبقى للمفلس، ثم تنفقَ ما وراء ذلك، وعليك بعد ذلك أيضا أن تنفق مقدار ما أبقيته من الضروري إذا تيسر لك ذلك في المستقبل، مع الدعاء إلى الله تعالى بالمغفرة وقبول التوبة، ولا يكفيك أقل من ذلك إن أردت التوبة النصوح .
والله تعالى أعلم .
وإلى اللقاء في الحلقة القادمة بإذن الله تعالى، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته .
8/شعبان/1421هـ