الحلقة (14)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والتابعين، ومن تبع هداهم بإحسان إلى يوم الدين .
أيها الإخوة المستمعون: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وبعد:
فقد ذكرنا في الحلقة الماضية أن الزكاة تدفع لثمانية أصناف من المحتاجين الذين بينتهم الآية الكريمة، في قوله تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) 60/ التوبة ،
وقد تحدثنا عن الفقير والمسكين وضوابطهما، واختلاف الفقهاء فيهما.
واليوم نتحدث عن المصرف الثالث للزكاة، وهو العاملون عليها، فمن هم العاملون على جمع الزكاة، وما هي شروطهم، وصلاحياتهم، وطريقة ممارستهم لهذه الصلاحيات، وما حكم دفع الزكاة إليهم أو الامتناع عن دفعها إليهم، ومقدار حصتهم فيها، وشروط استحقاقهم لهذه الحصة، وما يتبع ذلك من تفريعات وأحكام كما يلي:
العاملون عليها هم العمال الذين يسند الإمام إليهم جمع الزكاة من المكلفين بها، ثم إنفاقها على المستحقين لها، وقد يسند الإمام لعمال معينين جمع الزكاة، ويسند لغيرهم صرفها إلى مستحقيها، بحسب ما يراه من المصلحة، كما أن للإمام بأجهزته الإدارية وأعوانه أن يجمع الزكاة بنفسه، ويصرفها في مصارفها الشرعية، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرسل العمال لجمع الزكاة في كل أجزاء الدولة، ليجمعوها من الأغنياء بكل أصنافها: المزروعات، والمواشي، والعروض التجارية، والذهب والفضة، وغير ذلك، ولما توفي النبي صلى الله عليه وسلم أرسل أبو بكر عماله لجمع الزكاة على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته في ذلك، فدفع إليهم أكثر المسلمين الزكاة، ومنعها بعض الأعراب عنهم، فعدَّهم أبو بكر رضي الله عنه بذلك من المرتدين، وحاربهم على ذلك، واستمر الأمر على جمع الإمام الزكاة بكل أنواعها في عهد أبي بكر رضي الله عنه، وعهد عمر رضي الله عنه، وفي عهد عثمان رأى عثمان رضي الله عنه أن المال قد كثر بين الناس، وصعب على الإمام جمعه، فرأي أن يجمع عمالُه زكاة الأموال الظاهرة وحدها، وهي زكاة الزروع والمواشي، وأن يترك زكاة الأموال الباطنة، وهي عروض التجارة والذهب والفضة والنقود، لينفقها أصحابها لمستحقيها بأنفسهم، ووافقه المسلمون على ذلك، واستمر الأمر عليه سنين طويلة، ثم ترك كثير من الحكام جمع الزكاة وصرفها إلى مستحقيها لأرباب الأموال، يحسبونها ويصرفونها إلى مستحقيها بأنفسهم، فانتهى الأمر في كثير من البلدان الإسلامية المعاصرة إلى تساهل الكثيرين في إخراج زكاة أموالهم، حتى قامت في العصر الحديث مؤسسات رسمية متعددة، لتعيد سنَّة جمع الإمام للزكاة، في كثير من البلدان الإسلامية، ومنها بيت الزكاة في دولة الكويت .
هذا وجمع الإمام للزكاة عامة هو الأصل، وهو المفضل في التشريع الإسلامي، لأسباب كثيرة، منها:
أولا) ضمان إخراج المسلمين زكاة أموالهم إلى الفقراء وسائر المستحقين لها، وفي ذلك مصلحة كبرى للفقراء والمحتاجين الذين من أجلهم شرعت الزكاة، ومصلحة لأرباب الأموال، لتخليص ذممهم ورقابهم من عذاب الله تعالى، بالقيام بهذا الواجب الكبير في الإسلام، ولينالوا عليه الأجر والمثوبة من الله تعالى، لأن المرء قد يضعف عن إخراج ما عليه من الواجبات، وتغلبه نفسه وبخله عن إخراجها، فيكون في طلب الإمام لها عون له على أدائها .
ثانيا) رفع الحرج عن الفقراء والمساكين في أخذهم للزكاة من الأغنياء مباشرة، لأن الإنسان الفقير قد يجد في نفسه حرجا في مد يده للغني لأخذها منه، ولكنه لن يجد مثل هذا الحرج عندما يقبضها من الإمام أو من عماله، دون أن يعرف صاحبها الذي دفعها .
ثالثا) وفيه تنزيه نفوس الأغنياء من أن تشعر بنوع من المنة نحو الفقراء عند دفعها إليهم، وهذه المنة فضلا عن أنها تورث مقتا وحقدا بين الغني الدافع والفقير الآخذ لها، فإنها تذهب بالأجر والمثوبة اللذين يرجوهما الغني من الله تعالى عند دفعه لها .
رابعا) وفيه حسن توزيع للزكاة على مستحقيها بنوع من العدالة أكبر مما لو تركت لأرباب الأموال ليخرجوها بأنفسهم، لأن عمال الإمام أكثر معرفة بالفقراء من أرباب الأموال، لتخصصهم في ذلك، ولأن الغني قد يدفع زكاة ماله لمن غيره دفع مثلها له، فتتجمع في يد محدودين من الفقراء، ويحرم منها فقراء يغفل الناس عنهم لتعففهم .
خامسا) عمال الإمام هم الأقدر على طريقة حساب الزكاة من أصحاب الأموال، لأنها في كثير من الأحيان تحتاج إلى مهارة ومعرفة خاصة في حسابها، كما في زكاة المصانع الكبيرة والشركات الكبيرة والمزارع المختلفة الإنتاج، وغير ذلك، وربما أخطأ صاحب المال في حساب زكاته ولم يتيسر له من يسأله عن ذلك، فتبقى الزكاة أو جزء منها في ذمته، فيخسر أجره ويعذب عليه عند الله تعالى .
ومن العاملين عليها في عصرنا الحديث الجمعيات الخيرية المتخصصة في جمع الزكاة وصرفها، المرخصة من قبل السلطة العامة بذلك، أما الجمعيات الخيرية غير المرخصة بذلك من قبل السلطة العامة فلا تكون من العاملين عليها، ولا تأخذ حكمها، ولهذا فإن الجمعيات المرخصة بذلك من الإمام تعد نائبا عن الفقير في جمع الزكاة دون الجمعيات غير المرخصة بذلك، حيث تعد هذه نائبا عن المزكي وليس نائبا عن الفقير، وهما مختلفان من وجوه، منها:
أو) أن الجمعيات المرخصة إذا قبضت من المزكي زكاة ماله برأت ذمته منها بذلك فورا، ولا يسأل عن أخطاء هذه الجمعية بعد ذلك، حتى أن الزكاة لو هلكت في يد عناصر الجمعية بغير تقصير منهم، فإن المزكي لا يضمنها، ولا يكلف دفعها مرة ثانية، أما الجمعيات غير المرخصة، فلا تبرأ ذمة المزكي عن الزكاة بالدفع إليها، ولكن بوصول الزكاة إلى مستحقيها بعد ذلك: ، وإذا ضاعت في أيديهم وجب على المزكي إخراجها ثانية .
ثانيا) أن للجمعيات المرخصة لها أن تقبض أجرتها من المبالغ التي جمعتها من الزكاة، لأنها أحد مصارفها، أما الجمعيات غير المرخصة فليس لها أخذ أي شيء من الزكاة التي تجمعها، وإنما أجرتها على المزكي نفسه فوق الزكاة، لأنها وكيل عنه، وليس عن الفقراء .
أما حصة العاملين على الزكاة فيجب أن لا تزيد على أجر المثل، وأن لا تزيد على ثُمُنِ ما جمعوه من الزكاة عند كثير من الفقهاء، ويحدد ذلك لهم الإمام، بحسب ما يراه من المصلحة، فإذا لم يكفهم ذلك وجب على الإمام -بحسب ما يراه- أن يدفع الزائد لهم من أموال بيت المال، وليس من الزكاة .
ولا يجوز للمسلم إذا جاءه العاملون عليها يطلبون منه الزكاة أن يمنعهم منها، ويعزر إذا فعل ذلك، وتؤخذ منه جبرا، إلا أن يدعي أنه قد دفعها بنفسه لمستحق لها، فإن ادعى ذلك وأثبته بحجة مناسبة سقطت عنه .
وينبغي لآخذ الزكاة أن يدعوا للمزكي بالبركة، وأن يحسن مطالبته بها، وأن يمهله مدة مناسبة إذا استمهله لعذر، لتكون نفسه بها راضية، فإن ذلك يزيد المودة بين الناس .
والله تعالى أعلم .
وإلى اللقاء في الحلقة القادمة بإذن الله تعالى، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته .
8/شعبان/1421هـ