الكفارات
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والتابعين، ومن تبع هداهم بإحسان إلى يوم الدين .
أيها الإخوة المستمعون: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وبعد:
فإن حديثنا اليوم وفي الحلقات القادمة إن شاء الله تعالى سوف يكون في الكفارات، من حيث تعريفها، وحكمها، والوصف الشرعي لها، وموجباتها، وشروط ذلك كله، ثم مقاديرها، ومستحقوها، وطرق إنفاقها، وما إلى ذلك من الأحكام والفروع، وذلك بعد مقدمة عن المعنى العام للكفارات في الفقه الإسلامي وأثرها في تطهير النفس وتنظيم المجتمع .
فالله سبحانه تعالى جلت قدرته، وتعالت أسماؤه، خلق الإنسان، وركب فيه القدرة على فعل الخيرات، وارتكاب المنكرات، قال سبحانه: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) 10/ البلد، وقال جل من قائل:(إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) 3/ الإنسان، ثم ركَّب فيه العقل، وأرسل له الرسل، وأنزل عليه الكتب، فيها أمره ونهيه، وطلب منه أن ينفذ أوامره ويجتنب نواهيه، قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا) 36/ الأحزاب . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ) متفق عليه .
فإذا قصر العبد في امتثال أوامر الله ورسوله، أو فرَط منه ارتكاب ما نهى عنه الله ورسوله، فليس أمامه إلا استعجال التوبة والندم والتصميم على عدم العود وإعادة الحقوق إلى أربابها، قال سبحانه: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) 186/ البقرة .
هذا وللتوبة شروط لا بد من توافرها فيها لقبولها، وهي:
1- أن يسارع العبد المخالف لأمر الله تعالى بالتوبة إليه سبحانه دون توان أو تأخير، قال سبحانه:(إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)17-18/ النساء .
2 - أن يتوقف عن الذنب الذي حصل منه، ولا يستمر فيه، وإلا كان مخادعا لنفسه وكاذبا عليها، فإن كان يشرب الخمرة يتوقف عن شربها، وإن كان تاركا للصلاة عاد إليها وصلاها، وهكذا .
3 - أن يشعر بالندم على ما فرط منه من مخالفة ومعصية، ويتمنى أنها لم تحصل من كل قلبه وجوارحه .
4 - أن يعزم على عدم العود إلى المخالفة والمعصية التي فرطت منه .
5- إذا كان في معصيته اعتداء على حق أحد، فعليه أن يرد هذا الحق إلى صاحبه، كمن غصب مال إنسان، أو سرق مال إنسان أو شتم إنسانا، فإن عليه عند توبته أن يرد المال المغصوب والمسروق لصاحبه، وأن يعتذر لمن شتمه، ويطلب منه الصفح والمسامحة .
هذا ما يجب على المؤمن فعله إذا ما فرطت منه مخالفة لأمر الله تعالى أو رسوله ونهيهما .
إلا أن بعض الذنوب والمعاصي أضاف الله تعالى لقبول التوبة منها كفارات معينة، فلا تقبل التوبة منها بدونها، وهذه الكفارات نص على بعضها القرآن الكريم، وعلى بعضها الآخر السنة المطهرة .
فمن ذلك قوله تعالى في الحنث في اليمين بالله تعالى: (لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) 89/ المائدة . وليس الكفارات في الحنث في اليمين وحدها، ولكن في أعمال أخرى من المخالفات، سوف يأتي بيانها في الحلقات القادمة بإذن الله تعالى .
وأنني في هذه الحلقة سوف أبين المعنى العام لهذه الكفارات، والوصف الشرعي لها، وهل هي عقوبات تلزم المخالف لأمر الله تعالى ورسوله، على سبيل الزجر، أم هي عبادات لله تعالى يقدمها المؤمن تقربا له سبحانه، وتعبيرا عن توبته وأوبته إليه جل جلاله، ليغفر ذنبه، ويثيبه على كفارته التي يتعبد لله تعالى بها، ويرفع بها درجته عنده؟
للفقهاء في ذلك آراء متعددة:
قال ابن نجيم من الحنفية: الكفارات عقوبات وجوبا، شرعت جزاء على فعل محظور ارتكبه المسلم، وعبادات أداء، لكونها تتأدى بالصوم والصدقة والإعتاق، وهي كلها قرب وعبادات لله تعالى .
وقال الشربيني الخطيب من الشافعية: للكفارات وجهان: الأول أنها عقوبة لما فيها من الزجر، والثاني أنها عبادة لأنها لا تصح إلا بالنية، وهو المرجح عند الشافعية .
ومذاهب عامة الفقهاء لا تخرج عن ذلك .
فالكفارة على ذلك عبادات تجب على المسلم عند ارتكابه ذنبا من الذنوب التي قرر الله تعالى ورسوله عليها كفارات، لتكون عقوبة له، وجزءا من التوبة والأوبة إلى الله تعالى من الذنب الذي سقط فيه المسلم أو فرط منه .
وأما أنواع الكفارات، فهي مختلفة باختلاف أسبابها وموجباتها، فهناك الكفارة بإعتاق الرقبة، والكفارة بإطعام المساكين، والكفارة بكسوة المساكين، والكفارة بالصوم، والكفارة بذبح شاة، والكفارة بالصدقة، وغير ذلك مما سوف يأتي تفصيله في موضعه إن شاء الله تعالى .
وأما موجباتها وأسبابها، فهي متعددة أيضا، وعلى رأسها خمسة كفارات، هي: كفارة الحنث في اليمين، وكفارة القتل، وكفارة الظهار، وكفارة الإفطار في رمضان، وكفارة مخالفة أحكام الإحرام في الحج أو العمرة، ولكل واحدة من هذه الكفارات شروط وأحكام خاصة بها، وسوف نستعرض ذلك في الحلقات القادمة بإذن الله تعالى .
والله تعالى أعلم .
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته .
18/شعبان/1421هـ