النذر وما يجب به على الناذر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والتابعين، ومن تبع هداهم بإحسان إلى يوم الدين .
أيها الإخوة المستمعون: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وبعد:
فإن أحكام النذور من أهم الأحكام التي يحتاج إليها الناس جميعا في حياتهم اليومية، والعامة منهم بخاصة، فلا يكاد يَحزبُ المسلمَ أمرٌ، أو يَهُمه موضوع، أو تثورُ أمامه مشكلة تزعجه، مثلَ مرض ابنه، أو كثرةَ ديونه، أو خسارةَ تجارته، أو غيرَ ذلك، حتى تراه يُهرع إلى النذر لله تعالى، داعيا إياه سبحانه أن يكشف عنه ما نزل به، وأن يحُل له مشكلته، فينذرَ لله تعالى صدقةً، أو صوما، أو ذبحَ شاة، أو صلاة، أو عُمرةً، أو غير ذلك مما يُتَقرب به إلى الله سبحانه وتعالى، مع الدعاء إليه جل شأنه أن يُذهب عنه ما هو فيه، وفي كثير من الأحيان تَنكشف الغُمَّة، وتُحل المشكلة، ويُشفى المريض، ويُوفى الدين، وما إلى ذلك مما نذر المسلم النذر لكشفه وزواله، وينتبهَ الناذر لنذره ليوفيه، فيجدَه في أحوال كثيرة صَعبا عليه، أو مُستحيلا في حقه، أو أكبر من قدرته على الوفاء به، لأسباب طارئة، أو لأسباب أصيلة موجودة من سابق غفل عن تقديرها الناذر تحت وطأة مشكلته، كأن تنذرَ المرأة صومَ الدهر إن شفى الله تعاالى ابنها المريض، أو أن تحج لله تعالى كل عام إن يسر الله تعالى لابنتها العانس زوجا مناسبا، أو تتصدق بجميع مالها إن عاد إليها زوجها الغاضب عليها، وبعضُ الناس والنساءُ بخاصة قد ينذرن نذورا مكروهة أو محرمة إذا حصل ما يطلبونه، جهلا منهن وغفلة، مثل أن تنذر المرأة أن تسأل الناس الصدقة إذا شفى الله تعالى ابنها المريض، أو أن تذبح ابنها إذا حصل شيء معين تريد حصوله، وبعد أن يتم الأمر المراد، وتتحصلَ المصلحة المنذور لها، ينتبهُ الناذرُ من غفلته، ويصحو من رقاده، ويُحس بالحرج الشديد لهول ما أقدم عليه من النذر، هل يفي به فيقعَ في الحرام، أو في العُسر الشديد؟ أو يُهملُه فينالُه غضب الله تعالى وسخطه، ثم تراه يذهب بين العلماء يطوف بهم واحدا واحدا مستنجدا بهم، وطالبا الحل المرضي أو الممكن الذي يُخلصه من هذه المشكلة .
ولهذا فإنني رأيت من المناسب أن أُقَدِّم في هذه الحلقة والحلقات القادمة بإذن الله تعالى، تعريفا للنذر، وبيانا لحكمه من حيث الحِل والحُرمة، ثم بيانَ أنواعه، وشروطه، وأركانه، ثم جزاءَ من لم يف بالنذر، وما يتبع ذلك من تفريعات، محاولا استعراض آراء الفقهاء المعتمدين في هذا الموضوع قدر الإمكان .
فأما تعريف النذر، فهو في اللغة الوعد الملزم، والإنذار الإبلاغ بخير أو شر، وأغلب ما يستعمل فيه النذر الإبلاغ بشر، قال تعالى: (هَذَا نَذِيرٌ مِنْ النُّذُرِ الأُولَى) 56/ من سورة النجم .وقال جل من قائل: (وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُر) 41/ من سورة القمر .
والنَّذر في اصطلاح الفقهاء: (التزام المسلم أمرا مندوبا إليه في الشرع) ، أو هو: (عقد يلتزم الناذر به قربة مندوبة من القرب في الشرع لا تلزمه بغير النذر) .
وقد امتدح الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم المؤمنين الموفين بنذرهم، فقال سبحانه: (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا) 7/ من سورة الإنسان .
وقد ذهب الفقهاء في بيان حكم النذر من حيث وصفُه الشرعي إلى مذهبين:
فأصحاب المذهب الأول ذهبوا إلى أن النذر مكروه تنزيها، وفيهم الحنبلية، واستدلوا على ذلك بحديث ابن عمرt عَنِ النَّبِيِّ r أَنَّهُ نَهَى عَنِ النَّذْرِ، وَقَال: (إِنَّهُ لا يَأْتِي بِخَيْرٍ، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ) متفق عليه، واللفظ لمسلم .
وأصحاب المذهب الثاني قالوا: النذر مباح، وهم أكثر الفقهاء، واستدلوا على ذلك بالآية السابقة في مدح الموفين بنذرهم، وهي قوله سبحانه: (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا) 7/ من سورة الإنسان، بدلالة أن الله سبحانه لا يمتدح من يرتكب الممنوع، ثم بقوله سبحانه: (وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) 270/ من سورة البقرة .
وفرَّق المالكية بين النذر المطلق والنذر المتكرر أو المعلق على شرط، فقالوا: إن النذر المطلق مندوب إليه، والنذر المطلق عندهم ماليس مكررا ولا معلقا على شرط، كأن يقول الناذر: لله علي صلاة أربع ركعات مثلا، فأما المكرر فمثل أن يقول الناذر: لله عليَّ صوم كل يوم خميس مثلا، أو أن أصوم في كل أسبوع يومين، أو أن أصلي في كل ليلة عشرين ركعة نفلا لله تعالى، وهذا مكروه عندهم، لما فيه من العنت والمشقة على النفس، وأما النذر المعلق على شرط، فكأن يقول الناذر: إن شفى الله تعالى مريضي فلانا فسوف أذبح شاة وأوزع لحمها على الفقراء مثلا، أو إن يسر الله تعالى لي السفر إلى بلد كذا فسوف أتصدق على فقرائها بكذا من المال مثلا، وهذا تردَّدَ المالكية في حكمه، وقالوا: إن علَّقه على أمر ليس من فعله هو، كشفاء مريضه، كان مندوبا إليه، وإن علقه على فعل نفسه كسفره، فهو مكروه .
وأما ركن النذر الذي لا يكون نذرا بدونه، فهو الصيغة أو اللفظ الذي ينعقد به النذر، كقول الناذر مثلا: إن شفى الله تعالى مريضي فلانا من مرضه الفلاني فلله عليَّ أن أذبح شاة، ولا وجود للنذر أصلا بدون الصيغة .
ولهذه الصيغة شروط لا تتم الصيغة وينعقد النذر بدون توافرها، وهي :
أولا) أن تكون الصيغة ملفوظة بلفظ، أو مكتوبة بكتابة، أو موضحة بإشارة بيد أو غيرها، ولا ينعقد النذر بمجرد النية، فلو نوى الناذر في قلبه دون لفظ منه أو كتابة أو إشارة أنه إن قدم والده من السفر سالما فإنه سوف يتصدق بكذا من الدراهم مثلا، ثم قدم والده من السفر سالما، لم يلْزمه شيء مما نوى، لعدم انعقاد نذره أصلا، لانعدام الصيغة .
ثانيا) أن تكون الصيغة متضمنة معنى الالتزام، كأن يقول مثلا: (لله عليَّ، أو عليَّ، أو ألتزم، أو نذرت كذا وكذا ..) ولا يكفى مجرد الوعد من غير إشعار بالالتزام، لأن النذر في حقيقته وعد مع الالتزام، فلا ينعقد بما لا يفيد الالتزام، ولا يشترط له لفظ معين لا يصح بغيره، ولكن يصح بأي لفظ يفيد الالتزام .
ثالثا) أن تكون الصيغة خالية من الاستثناء، وهو التعليق على مشيئة الله تعالى، فلو قال الناذر: لله عليَّ نذر كذا إن شاء الله تعالى، وأراد بذلك التعليق، لم تنعقد بذلك يمينه .
وأما شروط صحة النذر، فهي كثيرة، وأهمها ما يلي:
أولا) التكليف، وهو العقل والبلوغ، باتفاق الفقهاء، فلو كان الناذر صغيرا مميزا أو غير مميز، أو كان مجنونا، أو معتوها، لم يصح نذره، لحديث النبي r :( رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَشِبَّ، وَعَنِ الْمَعْتُوهِ حَتَّى يَعْقِلَ) رواه أبو داود وابن ماجه وأحمد .
ثانيا) الإسلام، فلا يصح النذر من غير المسلمين، باتفاق الفقهاء أيضا، لأن النذر والوفاءَ به عبادةٌ لله تعالى وتقرب إليه، وغير المسلمين ليسوا محلا للعبادة قبل إسلامهم، إلا أن بعض المالكية نصوا على أن الكافر إذا نذر نذرا ثم أسلم، فيندب له أن يفي به بعد إسلامه .
ثالثا) أهلية التبرع، وذلك عندما يكون النذر بعبادة مالية، كالصدقة، فإذا كان بعبادة بدنية، كالصوم، لم يشترط له أهلية التبرع، وذلك لأن العبادة المالية المنذورة نوع تبرع، فلا تصح ممن مُنع من التبرع من ماله، كالمحجور عليه لسفه أو دين، أما الناذر بعبادة بدنية، فنذره صحيح، لكمال أهليته، وعدم المساس بماله محل الحجر عليه فيه .
وبهذا القدر أيها الإخوة المستمعون نختم حلقتنا اليوم، على أن نتم الكلام عن باقي شروط وأحكام النذر في الحلقة القادمة بإذن الله تعالى .
والله تعالى أعلم .
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته .