كفارة القتل
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والتابعين، ومن تبع هداهم بإحسان إلى يوم الدين .
أيها الإخوة المستمعون: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وبعد:
فإن حديثنا اليوم في كفارة القتل، ويقتضي ذلك منا أن نعرف القتل، ونبين أنواعه، والعقاب الذي رتبه الله تعالى على القاتل، ثم نبين كفارة القتل، وشروطها، وأحكامها .
فالقتل معناه إزهاق إنسان روح إنسان آخر، والأصل فيه الحرمة، بل هو من الكبائر، قال تعالى: (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا) 33/ الإسراء، وقال سبحانه:(وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) 93/ النساء .
إلا أن القتل قد ترافقه ظروف خاصة تغير حكمه، فتعتريه الأحكام الخمسة، فيكون مباحا، أو واجبا، أو مكروها، أو مندوبا:
فيكون واجبا كقتل المرتد عن الإسلام، والقتل قصاصا إذا طالب به ولي الدم .
ويكون مندوبا كقتل الغازي قريبه الكافر إذا سب الله تعالى أو رسوله.
ويكون مكروها كقتل الغازي قريبه الكافر إذا لم يسمعه يسب الله أو رسوله r.
ويكون مباحا، كقتل الإمام أسير الحرب، فإنه مخير فيه .
والقتل على أنواع اختلف الفقهاء في تفصيلها، وهو في الجملة نوعان:
قتل مباشر، وهو القتل بآلة أو شيء أو طريقة تصلح للقتل، كالسكين والسيف والبندقية والعصا، أو بأن ينقلب على إنسان فيقتله، وغير ذلك،
وقتل بالسبب، وهو القتل بفعل لا يؤدي مباشرة إلى القتل، كمن حفر حفرة في شارع عام فوقع فيها إنسان فمات.
والقتل المباشر:
إما عمد، وهو القتل بآلة تقتل قطعا أو غالبا مع قصد القتل.
وقتل شبه عمد، وهو القتل بآلة لا تقتل غالبا، مع قصد القتل، كمن قتل آخر بعصى صغيرة لا تقتل غالبا.
وقتل خطأ، وهو القتل بآلة معدة للقتل بغير قصد فعل القتل ولا الشخص المقتول، كمن ضرب عصفورا بالبندقية فأصاب إنسانا فقتله. وقتل شبه خطأ أو ما جرى مجرى الخطأ، وهو القتل بآلة لم تُعَدَّ للقتل عادة، مع غير قصد القتل، كنائم انقلب على إنسان فقتله .
فأما القتل العمد فجزاؤه القصاص، ولا تلزم ولا تجزئ فيه الكفارة عند جمهور الفقهاء، وذهب الشافعية والحنبلية في قول إلى وجوب الكفارة فيه مع القصاص.
استدل الجمهور على قولهم بقوله تعالى:( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ، وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) 178-179 / البقرة، حيث إنه سبحانه ذكر القصاص ولم يذكر الكفارة.
واحتج الشافعية بحديث واثلة بن الأسقع قال: (جَاءَ نَفَرٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ r فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّ صَاحِبًا لَنَا قَدْ أَوْجَبَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: لِيَعْتِقْ رَقَبَةً مُسْلِمَةً يَفُكَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّار) رواه أحمد .
وأما القتل شبه العمد، فجزاؤه الدية المغلظة والكفارة باتفاق الفقهاء، إلحاقا له بالقتل الخطأ، قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا) 92/ النساء .
والقتل الخطأ جزاؤه الكفارة والدية، سواء كان المقتول مسلما، أو كافرا معاهدا، لقوله تعالى:( وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا) 92/ النساء، وقوله سبحانه: (وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) 92/ النساء .
وأما القتل شبه الخطأ أو ما أجري مجرى الخطأ، فعقوبته كعقوبة القتل الخطأ، فتجب فيه الدية والكفارة، للأدلة السابقة نفسها في القتل الخطأ.
وأما القتل بالسبب، فإن كان بغير تقصير ولا تعد، فلا شيء فيه من العقوبة، وإن كان بتعد أو تقصير في الاحتراز من القاتل، ففيه الدية بالاتفاق، وتجب فيه الكفارة أيضا عند كثير من الفقهاء، وذهب الحنفية إلى أنه لا دية فيه .
هذا من حيث العقوبة الأصلية في القتل، وهناك عقوبة تبعية في القتل أيضا تحدَّث عنها الفقهاء، وهي حرمان القاتل من ميراثه من المقتول، إن كان بينهما قرابة يستحق بها الميراث منه، كمن قتل أباه أو أخاه، وقد اتفق الفقهاء على أن القاتل محروم من الإرث من مقتوله، ولكنهم اختلفوا في نوع القتل المانع من الإرث، على أقوال:
فذهب الحنفية إلى أن القتل المانع من الإرث هو القتل المباشر بكل أنواعه المتقدمة، عمدا كان أو خطأ أو غيرهما، أما القتل بالسبب فلا يمنع من الإرث عندهم، وذهب المالكية إلى أن القتل المانع من الإرث هو القتل العمد العدوان، مباشرا كان أو بالسبب، أما غير ذلك فلا يمنع من الإرث مهما تعددت أسماؤه، وذهب الشافعية والحنبلية إلى أن القتل مانع من الإرث بكل أنواعه، وذلك لإطلاق حديث النبي r: (الْقَاتِلُ لا يَرِثُ وَلا يَحْجُبُ) رواه الترمذي وابن ماجه والدارمي .
وبعد أن تبينا أنواع القتل والعقوبات المقررة على كل نوع منه، وما تجب فيه الكفارة منه وما لا تجب الكفارة فيه منه، نبين الآن مقدار كفارة القتل وشروطها:
فأما مقدارها فهو الإعتاق والصوم فقط، وليس فيها إطعام أو كساء على خلاف الكفارات الأخرى، وذلك لصراحة النص القرآني بذلك، قال تعالى: (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنْ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) 92/ النساء .
والإعتاق معناه تحرير رقبة مؤمنة، أي رقيق مؤمن، ذكرا كان أو أنثى، باتفاق الفقهاء، لصراحة النص القرآني هنا، على خلاف كفارة اليمين، والصوم هو صيام شهرين متتابعين ليس فيهما رمضان ولا أيام الفطر والأضحى وأيام التشريق، بالاتفاق أيضا بين الفقهاء، لصراحة النص القرآني بذلك، فإذا أفطر المُكَفِّر يوما واحدا في أثناء الكفارة من غير عذر، وجب عليه أن يستأنف الكفارة من أولها .
وأما شروط صحة الكفارة في القتل، فهي شروط صحة كفارة اليمين نفسها، وقد تقدم أنها النية، وأن تكون بعد القتل لا قبله، لأنها عبادة فلا تصح إلا بالنية، وهي عقوبة فلا تكون إلى بعد فعل المخالفة .
والله تعالى أعلم .
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته .
19/شعبان/1421هـ