صرف الزكاة إلى مستحقيها وطرقه وآدابه
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والتابعين، ومن تبع هداهم بإحسان إلى يوم الدين .
أيها الإخوة المستمعون: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وبعد:
فقد تقدم في الحلقات السابقة بيان مستحقي الزكاة، وشروطِ استحقاقهم لها وأحوالِه، كما تقدم بيان من لا يحل دفع الزكاة إليهم من الأصناف.
وفي حلقة اليوم نبين أحوال ذلك الصرف وآدابه، وحكم الخطأ فيه إذا وقع فيه المزكي، كما يلي:
أولا) تعميم الزكاة على الأصناف الثمانية:
فقد ذهب الشافعية وأحمد في رواية عنه، إلى أن على المزكي أن يوزع زكاة ماله على الأصناف الثمانية الذين نصت عليهم آية الزكاة، وهي قوله تعالى:( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) 60/ التوبة . وقالوا: يجب تعميم الأصناف الثمانية كلها بالزكاة بالتساوي بينهم، وإعطاء كل صنف منهم الثُّمن منها دون زيادة، ولا تجب المساواة بين أفراد الصنف الواحد، هذا إذا جباها العاملون عليها من قبل الإمام، فإذا حملها أصحابها إلى الإمام بأنفسهم، أو وزعوها على مستحقيها بأنفسهم، كفاهم صرفها إلى سبعة أصناف، مسقطين منهم سهم العاملين عليها، ثم إن على الإمام إذا سُلِّمت الزكاة إليه، أن يعم بها أفراد كل صنف وجوبا، إن كان المستحقون في البلد ووفَّى المال بهم، وإلا فيجب إعطاء ثلاثة من كل صنف، فإذا فقد بعضهم فعلى الموجودين منهم .
وذهب جمهور الفقهاء، إلى أنه لا يجب تعميمها على الأصناف الثمانية، بل للإمام صرفها لصنف واحد فقط، ولفرد واحد من صنف واحد، إذا لم تزد عن كفايته، ما دام الآخذ لها مستوفيا لشروط الاستحقاق فيها، كما يجوز صرفها للأصناف الثمانية، بالتساوي بينهم أو بالتفاوت .
وقال إبراهيم النخعي من علماء التابعين: إن كانت الزكاة قليلة جاز صرفها إلى صنف واحد، وإلا وجب استيعاب الأصناف كلها .
ثانيا) الترتيب بين المصارف:
فقد نص الشافعية على أن للعامل على الزكاة أن يبدأ بالصرف منها على نفسه قبل غيره، لأنه يأخذها أجرة على عمله ويأخذها غير مواساة، على أن لا يزيد ذلك على ثُمُنها، فإن كان أجر مثله أكثر من ذلك أخذ الباقي من بيت المال، وفي قول للشافعية يأخذه من باقي السهام .
وبعد سهم العاملين عليها تقسم على باقي أصحاب السهام بالتساوي بينهم .
وقال الحنفية والمالكية: يقدم على سبيل الندب الأحوج فالأحوج من أي صنف كان .
فيقدم عند الحنفية المدين على الفقير، والأفقر على الأقل فقرا، والتقي على الأقل تقوى، والقريب على الغريب .
عند المالكية يقدم المضطر على غيره، بأن يزاد عطاؤه منها .
ونص الحنبلية على اعتبار الحاجة والقرابة، بعد سهم العاملين عليها، فقالوا: يقدم ندبا الأحوج فالأحوج، ثم الأقرب نسبا فالأقرب، عند استواء الحاجة، ثم الأقرب جوارا والأكثر دَينا، وذلك بعد أن يكون الجميع من المستحقين للزكاة .
ثالثا) نقل الزكاة:
فقد اتفق الفقهاء على أن الزكاة إذا فاضت عن حاجة المستحقين لها في البلد التي فيها مال الزكاة وجب نقلها إلى بلد أخرى .
أما إذا كان أهل البلد التي فيها بحاجة إليها، فقد اختلف الفقهاء في جواز نقلها على مذاهب :
فذهب الحنفية إلى جواز نقلها من البلد التي فيها المال إلى أي بلد أخرى مطلقا، لقول الله تعالى:(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) 10/ الحجرات . ثم إن كان أهل البلد المنقول إليه أكثر حاجة أو أكثر قرابة من المزكي أو أكثر تقوى، أو كان نقلها من دار حرب إلى دار إسلام، كان ذلك أولى، وإن لم يكن شيء من ذلك، كان نقلها مكروها كراهة تنزيه .
وذهب المالكية، والشافعية في الأظهر من مذهبهم، والحنبلية، إلى أنه لا يجوز نقل الزكاة من البلد التي فيها المال إلى بلد أخرى تبعد عنها مسافة قصر الصلاة، لحديث معاذ بن جبل، حين بعثه عمر ابن الخطاب رضي الله عنه إلى اليمن فبعث إليه معاذ من الصدقة، فأنكر عليه عمر وقال: لَمْ أبعثك جابيا ولا آخذَ الجزية، ولكن بعثتك لتأخذ من أغنياء الناس فترد على فقرائهم، فقال معاذ: ما بعثت إليك بشيء وأنا أجد من يأخذه مني.
إلا أنها من حيث الإجزاء إذا نقلها من البلد التي فيها المال إلى بلد أخرى مع حاجة البلد الأولى إليها، فقد ذهب الحنفية والشافعية والحنبلية على المذهب إلى أنها تجزئ صاحبها .
وقال المالكية: إن نقلها لمن حاجتهم مثل حاجة أهل بلدها أجزأته مع الحرمة، وإن كانت حاجة بلدها إليها أشد لم تجزئه في قول، وتجزئه في قول آخر عندهم .
وقال الحنبلية في رواية أخرى: لا تجزئه بكل حال .
رابعا) حكم من أعطى الزكاة لمستحق لها بوصف معين فزال عنه ذالك الوصف وهي في يده:
ذلك أن الزكاة تدفع للأصناف الثمانية التي ذكرها الله في كتابه الكريم في قوله سبحانه: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) 60/ التوبة، وهم على قسمين:
القسم الأول) يشمل أربعة أصناف، أحوالهم ثابتة لا تتغير، وهم الفقراء، والمساكين، والعاملون عليها، والمؤلفة قلوبهم، وهؤلاء إذا دفعت الزكاة إليهم والأوصاف السابقة قائمة بهم لم تسترد منهم إذا ذهبت هذه الأوصاف قبل صرفهم للزكاة أو بعده، كالفقير والمسكين إذا غنيا، والعاملون عليها إذا تركوا العمل عليها، والمؤلفة قلوبهم إذا قوي إسلامهم، وذلك باتفاق الفقهاء .
والثاني) أحوالهم متغيرة، وهم أربعة أيضا، هم المكاتبون، والغارمون، والغزاة في سبيل الله تعالى، وابن السبيل، وهؤلاء إذا دفعت الزكاة إليهم بالأوصاف السابقة، ثم زالت هذه الأوصاف عنهم، فإن زال الوصف بعد ما صرفوا ما دفع لهم، فلا يسترد منهم باتفاق الفقهاء، وإن زال الوصف عنهم قبل أن يصرفوها، فقد اختلف الفقهاء في ذلك، كما يلي:
- فأما المكاتب إذا مات قبل أن يَعتق، أو عجز عن الوفاء ببدل الكتابة، فقد ذهب الشافعية في الأصح إلى أنه يُسترد منه ما أخذه من الزكاة، وقال الحنفية وهو رواية عند الحنبلية: لا يسترد منه، ويكون ما أخذه لسيده، ويحل له ولو كان غنيا، وفي رواية أخرى للحنبلية: يُنفَق في المكاتبين .
- وأما الغريم إذا قبض الزكاة ثم غني أو سقط دينه عنه قبل أن يصرف الزكاة، فقد ذهب الأكثرون إلى أنها تسترد منه، وذهب البعض إلى أنها لا تسترد .
- وأما الغازي في سبيل الله تعالى إذا قبض الزكاة فلم يخرج للغزو وهي في يده، أو عاد من الغزو وهي معه، فإنها تسترد منه عند أكثر الفقهاء، وقال البعض لا تسترد .
- وأما ابن السبيل إذا وصل إلى بلده وهو غني وهي في يده، فقد ذهب الجمهور إلى استردادها منه، وقال الحنفية لا تسترد منه، ويندب له التصدق بها .
خامسا) حكم من أخذ الزكاة وهو ليس من أهلها:
اتفق الفقهاء على أن الإنسان إذا لم يكن من الأصناف الثمانية الذين نصت عليهم أية الزكاة، فلا يحل له أخذها إذا علم أنها زكاة، فإن أخذها وهو يعلم أنها زكاة أثم ووجب عليه ردها، فإن لم يستطع ردها تصدق بها وجوبا.
هذا في حق الآخذ، فأما الدافع للزكاة، فإن علم بأن المدفوع إليه ليس من المستحقين للزكاة، لم تبرأ ذمته منها بالدفع إليه، ووجب عليه إخراج غيرها لمن يستحقها، فإن كان لا يعلم بحاله عند الدفع، ثم تبين أنه غير مستحق لها بعد ذلك، فإن كان قد دفعها إليه بغير اجتهاد، لم تبرأ ذمته بدفعها إليه، ووجب عليه إخراج غيرها باتفاق الفقهاء.
وإن دفعها باجتهاد، وغلب على ظنه أنه مستحق لها، ثم تبين أنه غير مستحق لها، فقد اختلف الفقهاء فيه على مذاهب:
فذهب أبو حنيفة وتلميذه محمد بن الحسن إلى أنه لا إعادة عليه، لحديث البخاري: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ حَدَّثَنَا أَبُو الْجُوَيْرِيَةِ أَنَّ مَعْنَ بْنَ يَزِيدَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ حَدَّثَهُ قَالَ بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَأَبِي وَجَدِّي وَخَطَبَ عَلَيَّ فَأَنْكَحَنِي وَخَاصَمْتُ إِلَيْهِ وَكَانَ أَبِي يَزِيدُ أَخْرَجَ دَنَانِيرَ يَتَصَدَّقُ بِهَا فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَجُلٍ فِي الْمَسْجِدِ فَجِئْتُ فَأَخَذْتُهَا فَأَتَيْتُهُ بِهَا فَقَالَ وَاللَّهِ مَا إِيَّاكَ أَرَدْتُ فَخَاصَمْتُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَكَ مَا نَوَيْتَ يَا يَزِيدُ وَلَكَ مَا أَخَذْتَ يَا مَعْنُ) .
وذهب أبو يوسف من الحنفية إلى أن عليه الإعادة .
وقال المالكية: إن كان الدافع الإمام أو من ينوب عنه فيجب استردادها، فإن تعذر ذلك أجزأت، وإن كان الدافع رب المال فلا تجزئه .
وقال الشافعية: وجب استردادها، فإن تعذر ذلك، فإن كان الدافع الإمام لم يضمن، وإن كان الدافع رب المال ضمن وأخرج غيرها .
وقال الحنبلية: لاتجزئه، وعليه إخراج غيرها، وفي رواية إن ظنه فقيرا فبان غنيا أجزأته .
سادسا: من له حق طلب الزكاة:
اتفق الفقهاء على أن الغني لا يحل له طلب الزكاة والصدقة من أحد، وكذلك الفقير إذا كان عنده قوته وحاجاته الضرورية في يومه، أما إذا كان لا يملك قوته وحاجاته الضرورية في يومه، فقد ذهب الحنفية والحنبلية في قول إلى أنه إن كان قادرا على الكسب وتيسرت له طرقه فلا يحل له طلب الزكاة والصدقة، لأنه غني بكسبه، وإن كان عاجزا عن الكسب، حقيقة كالمريض، أو حكما كالصغير والمرأة وطالب العلم والأخرق الذي لا يحسن صنعة تناسبه حل له طلب الزكاة والصدقة.
وذهب الحنبلية في قول آخر، إلى أن من استحق الزكاة جاز له طلبها.
والله تعالى أعلم .
وإلى اللقاء في الحلقة القادمة بإذن الله تعالى، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته .
14/شعبان/1421هـ