الحلقة (9)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والتابعين، ومن تبع هداهم بإحسان إلى يوم الدين .
أيها الإخوة المستمعون: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وبعد:
الحلي ما يتحلى أو يتزين به الإنسان، من مصوغ من المعادن كالذهب، و الفضة، والبلاتين، وغير ذلك، أو الأحجار الكريمة، كاللؤلؤ، والماس، وغير ذلك .. وقد حرم الله تعالى التحلي بالذهب على الرجال مطلقا، وأباحه للنساء، أما الفضة فقد أباحها الله تعالى للنساء كالذهب، أما الرجال فأباح لهم منها الخاتم وحلي السيف والرمح وأمثال ذلك من أدوات الحرب، وحرم عليهم ما وراء ذلك منها، لحديث النبي صلى الله عليه وسلم : (أُحِلَّ الذَّهَبُ وَالْحَرِير لإِنَاثِ أُمَّتِي وَحُرِّمَ عَلَى ذُكُورِهَا) رواه النسائي وأحمد. ولما رواه البخاري من أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم من الفضة، وكان مكتوبا عليه محمد رسول الله، كان في يده مدة حياته صلى الله عليه وسلم ، ثم كان في يد أبي بكر الصديق رضي الله عنه حتى وفاته، ثم في يد عمر بن الخطاب رضي الله عنه حتى وفاته، ثم في يد عثمان رضي الله عنه حتى وقع في بئر أريس .
هذه مقدمة موجزة في حكم التحلي، أغضيت فيها عن ذكر كثير من المذاهب والتفاصيل، لأن هذه الحلقة ليست مكانها، وإنما قدمت بها لأبين حكم زكاة الحلي، توصلا إلى الكلام على زكاة الحلي، نظرا لارتباطها به .
وقد اتفق الفقهاء على أن الذهب والفضة من الأموال التي تجب فيها الزكاة إذا كانت سبائك أو نقودا أو تبرا، سواء نوى مالكها بها التجارة أولا، لأنها أموال تجارية بحكم الشرع فلا تحتاج إلى نية التجارة، هذا إذا بلغت نصابا وحال عليها الحول، وإلا لم تجب الزكاة فيها لانعدام شروط الوجوب فيها .
فأما الحلي من الذهب والفضة، فقد اختلف الفقهاء في وجوب الزكاة فيها على مذاهب:
فذهب الحنفية والشافعية في قول، إلى أن الزكاة تجب في الحلي من الذهب والفضة إذا بلغت نصابا وحال عليها الحول، كالسبائك، والنقود، والتبر، وهو مروي عن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود وميمونة، وابن مهران، وغيرهم رضي الله عنهم، وذلك لأن الشارع قد جعلها للبيع بها والتجارة، فإذا صرفها الإنسان عن التجارة إلى التحلي بها لم تسقط عنه زكاتها، سواء كان المتحلي بها رجلا أو امرأة، وسواء كانت الحلي في حدود المعتاد أو أكثر منه، وسواء كانت حليا مباحة أو محرمة، لما تقدم.
وذهب المالكية والحنبلية والشافعية في القول الراجح عندهم، إلى أنه لا زكاة في الحلي المباح، وهو مروي عن عبد الله بن عمر، وجابر، وأنس، وعائشة، وأسماء، وابن المسيب، وغيرهم رضي الله عنهم، لأن الحلي مصروف عن النماء بإذن من الشارع، فلا يكون ناميا حكما، فلا تجب فيه الزكاة، أما الحلي المحرم والمكروه، فتجب الزكاة فيه، إذا استجمع شروط الزكاة، من الحول والنصاب، وغير ذلك .
والحلي المباح من الذهب والفضة للمرأة الذي تسقط عنها زكاته عند الجمهور، هو كل ما تتخذه المرأة من هذين المعدنين للزينة، مما لم ينه عنه الشارع الحكيم، كالقِرط، والخاتَم، والسِّوار، والخلخال، والمنطقة، .. بشرط عدم المبالغة في ذلك .
فإذا بالغت المرأة في اقتناء الحلي كره لها ذلك، ووجبت فيه الزكاة عليها عندئذ في قول، وفي قول آخر لا تجب الزكاة مع المبالغة فيه، وهو الراجح لدى الحنبلية .
والمبالغة معناها الخروج به عن حد الاعتدال من حيث كميته ووزنه، وهو متروك للعرف وحال المرأة المالكة له، من حيث سنها، ومركزها الاجتماعي، وثروتها، وعرف بلدها، وغير ذلك، فقد يكون مقدار معين من الحلي الذهبي أو الفضي لامرأة ما فيه مبالغة، ولا يكون لغيرها فيه مبالغة، بحسب ما تقدم .
هذا إذا اتخذت المرأة الحلي من أجل التزين به، أما إذا اتخذته من أجل إعارته لمن يحتاج إليه من النساء في عرس أو غيره -وهو ما يعتاده بعض الثريات الفضليات من النساء- فقد ذهب المالكية والحنبلية إلى عدم وجوب الزكاة فيه، وللشافعية قولان في ذلك، قول بوجوب الزكاة فيه، وقول بعدم وجوب الزكاة فيه .
فإذا نوت المرأة بالحلي إعارته للرجال، وجبت فيه الزكاة ، لخروجه عن معناه المباح بذلك .
فإذا نوت المرأة بالحلي الادخار لا الزينة، أو كان حالها ممن لا يتزين به عادة، كالعجوز تتخذ حليا لا يصلح لأمثالها، أو كان الحلي مكسرا لا يصلح للاستعمال، وجبت الزكاة فيه، باتفاق الفقهاء، لأنه بذلك يخرج عن الزينة إلى الثمنية، فتجب الزكاة فيه .
أما الحلي المباح للرجل الذي تسقط عنه زكاته في نظر الجمهور من الفقهاء من الفضة، فهو الخاتم، وحلية السيف، وحلية الرمح، وعامة آلات الحرب، وذلك في حدود المعتاد لذلك، ويحرم عليه ما وراء ذلك من الذهب والفضة، فإذا اقتناه لزمته زكاته .
أما الذهب والفضة المتخذ للاستعمال، كالملعقة والمكحلة وغير ذلك، فهو محرم، وتجب الزكاة فيه في حق الرجال والنساء، لأن النبي r نهى عن استعمال الذهب والفضة مطلقا، لما فيه من الكبر والخيلاء، وهو حرام .
فإذا اشترى الرجل حليا بقصد أن يزين به زوجته عند حاجتها إليه، أو إعارته إلى جيرانه من النساء عند حاجتهن إليه، لم تجب عليه زكاته، فإن كان بقصد إعارته للرجال لم تسقط زكاته عنه .
أما الحلي من غير الذهب والفضة، سواء كان من الماس، أو اللؤلؤ، أو الياقوت، أو العقيق، أو غير ذلك، فلا زكاة فيه، مهما بلغ ثمنه، وسواء في ذلك الرجال والنساء، إلا أن يكون للتجارة، فإن كان بقصد التجارة وجبت فيه زكاة التجارة، إذا استوفت شروطها .
ثم إذا وجبت الزكاة في حلي المرأة بحسب ما تقدم، فهل يجب على زوجها أو وليها أن يخرج زكاته عنها، أو لا يجب عليه ذلك، بل يجب عليها هي أن تزكيها؟
هذا ما يسأل عنه كثير من النساء، ويقلن: من أين نخرج الزكاة عن حلينا إذا لم يكن لنا أموال أخرى؟
والجواب أنه لا يجب على الزوج ولا الولي أن يخرج الزكاة عن حلي زوجته أو من يلي عليها من النساء مطلقا، لأن الزكاة عبادة، فلا تجب إلا على من يملك الحلي، ولأن زكاة حلي المرأة ليست من النفقة الواجبة عليه لها، فلا تلزمه .
ثم إذا كان للمرأة التي وجبت عليها الزكاة أموال أخرى غير الحلي، أخرجتها من ذلك المال، وإذا لم يكن لها أموال أخرى، باعت بعضا من حليها وأخرجتها من ثمنها، وإلا بقيت دينا في ذمتها حتى تخرجها، فإذا تبرع لها زوجها أو أبوها أو غيرهم بقيمة الزكاة، جاز وأجر على ذلك، وإذا أخرجها عنها من ماله بإذنها جاز، ولا يجوز بغير إذنها، لأنها عبادة، فلا تتأدى إلا بالنية .
والله تعالى أعلم .
وإلى اللقاء في الحلقة القادمة بإذن الله تعالى، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته .
6/شعبان/1421هـ