من مصارف الزكاة
الغارمون، وفي سبيل الله
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والتابعين، ومن تبع هداهم بإحسان إلى يوم الدين .
أيها الإخوة المستمعون: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وبعد:
فإن مصارف الزكاة ثمانية كما تقدمت الإشارة إليه في حلقة سابقة، منها الغارمون وفي سبيل الله، وفي هذه الحلقة بيان لهذين المصرفين، بتعريف كل منهما، وشروطه لاستحقاق الزكاة، وأحكام ذلك، مع بيان اختلاف الفقهاء في ذلك كلما وجد اختلاف، كما يلي:
فالغرم في اللغة الخسارة، والغريم اسم مشترك يطلق على الدائن والمدين، وجمعه غرماء .
والغارمون في باب الزكاة ثلاثة أنواع لدى الفقهاء، وقد اتفقوا على جواز دفع الزكاة لبعضها، واختلفوا في جواز دفعها للبعض الآخر، على أقوال، كما يلي:
النوع الأول) من كان عليه دين لمصلحة نفسه، كمن اقترض من آخر قرضا حسنا لبعض مصالحه، كطعام ولباس وعلاج وغير ذلك، ثم عجز عن وفائه من ماله، أو اشترى سلعة بدين ثم عجز عن سداد ثمنها من ماله، وغير ذلك .
وهذا النوع اتفق الفقهاء على جواز دفع الزكاة لمن قام به، واشترطوا لذلك شروطا، اتفقوا في بعضها واختلفوا في بعضها الآخر، وهي:
1- أن يكون المدفوع له مسلما، فلا يجوز دفعها لغير مسلم ذميا كان أو محاربا، كتابيا أو مجوسيا أو غير ذلك، لحديث النبي صلى الله عليه وسلم:(فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ) رواه البخاري .
2- أن لا يكون من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ، لأن الله تعالى كفى أهل بيت النبوة بشيء من الفيء وحرم عليهم قبول الزكاة تشريفا لهم عن أن تمتد أيديهم لطلب الصدقة من الناس، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الصَّدَقَةَ لا تَنْبَغِي لآلِ مُحَمَّدٍ إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاس) رواه مسلم .
وهذا مذهب جمهور الفقهاء، وأجاز بعض الحنبلية إعطاء المدينين من أهل البيت شيئا من الزكاة لسداد ديونهم .
3 - أن لا يكون قد استدان من أجل أن يستحق الزكاة ويأخذ منها، كمن كان عنده ما يكفيه فأنفقه وتوسع في إنفاقه بنية أن يستحق الزكاة ويأخذ منها، فإن كان كذلك فلا يعطى من الزكاة، بخلاف من أنفق ماله للضرورة ثم طلب الزكاة، فإنه في هذه الحال يعطى منها، وهذا الشرط نص عليه المالكية، وذلك للقاعدة الفقهية الكلية:(من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه) .
4- أن يكون الدين الذي عليه مما يحبس فيه، وهو دين العباد، أما ديون الله تعالى كالكفارات والنذور إذا لم يجد ما يسددها به، فإنه لا يعطى من الزكاة لسدادها، وهذا ما نص عليه المالكية أيضا، لأن ديون الله تعالى مبنية على المسامحة على خلاف ديون العباد فإنها مبنية على التشاح .
5- أن لا يكون دينه بسبب معصية ارتكبها، كأن يشتري خمرا فيعجز عن سداد ثمنها، أو يقامر فيخسر فيطالب بها ويعجز عن ذلك، وأمثاله، فإنا كان كذلك لم يدفع له من الزكاة، هذا ما نص عليه جمهور الفقهاء، لئلا تكون المعصية سببا للمنحة، وقال المالكية إذا تاب العاصي بالدين يدفع إليه من الزكاة بعد توبته، وعدَّ الشافعية الإسراف من المعاصي التي تمنع من دفع الزكاة لمرتكبها إذا لزمته ديون بسبب ذلك .
6- أن يكون الدين حالاٌّ، فإذا كان مؤجلا لم يعط المدين من الزكاة لسداده، لعدم الحاجة، وهذا ما نص عليه الشافعية في أحد أقوال ثلاثة لهم في ذلك، ولم ينص عليه غيرهم .
7- أن لا يكون عنده مال يكفي لسداد دينه، سواء كان من مالا ناميا تجب الزكاة فيه، أو من الأموال الاستهلاكية الأخرى، ما دام هذا المال زائدا عن حاجاته الأصلية، أما المال المشغول بحاجاته الأصلية كمسكنه ومأكله وملبسه، فلا يمنع دفعَ الزكاة له بسبب الدين، فإن كان لديه دار للسكنى كبيرة تزيد عن حاجته وعليه دين، يؤمر ببيعها وشراء دار صغيرة على قدر حاجته، وسداد دين من باقي ثمن هذه الدار التي باعها، وهو ما صرح به المالكية .
النوع الثاني من الغارمين) هو الغارم لإصلاح ذات البين، كمن أصلح بين فئتين من المسلمين بينهما قتلى، ودفع عنهم دية القتلى من ماله مثلا، فإن له أن يأخذ ما دفعه أو جزءا منه من مال الزكاة على أنه من الغارمين،وذلك عند الشافعية والحنبلية، سواء في ذلك أن يكون فقيرا أو غنيا، لأنه لو اشتُرط فيه الفقر لقلت الرغبة في هذه المكرمة، واستدلوا لذلك بحديث النبي صلى الله عليه وسلم:(إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لا تَحِلُّ إِلا لِثَلاثَةٍ: رَجُلٍ تَحَمَّلَ بِحَمَالَةٍ بَيْنَ قَوْمٍ فَسَأَلَ فِيهَا حَتَّى يُؤَدِّيَهَا ثُمَّ يُمْسِكَ) رواه النسائي وأحمد .
وذهب الحنفية إلى أن المتحمل للدية هذا لا يعطى من الزكاة إلا أن يكون فقيرا، لحديث: (لا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَلا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ) رواه أصحاب السنن الأربعة .
النوع الثالث) الغارمون بسبب دين ضمان أو كفالة لغيرهم، وهذا النوع نص عليه الشافعية، إلا أنهم اشترطوا لإعطائه من الزكاة الفقر والحاجة، فيه وفي مكفوله .
هذا في سهم الغارمين، أما سهم في سبيل الله تعالى، فالمشمولون به على ثلاثة أنواع أيضا، اتفق الفقهاء في بعضها واختلفوا في بعضها الآخر، كما يلي:
النوع الأول) الغزاة في سبيل الله تعالى الذين ليس لهم نصيب أو راتب في الديوان، بل هم متطوعون في الجهاد تطوعا، وهؤلاء اتفق الفقهاء على جواز إعطائهم من الزكاة من سهم في سبيل الله، قدر ما يتجهزون به للغزو والجهاد في سبيل الله تعالى مدة الغزو وإن طالت، كشراء السلاح والفرس والطعام والكساء وغير ذلك مما يحتاجون إليه في الجهاد .
ثم إن الشافعية والحنبلية لم يشترطوا في هذا الغازي في سبيل الله تعالى أن يكون فقيرا ليستحق من هذا السهم من الزكاة، بل أجازوا للفقير والغني أن يأخذ منه قدر ما يتجهز به، وذهب الحنفية إلى تحديد ذلك بالفقير دون الغني .
أما جنود الجيش النظاميون الذين يأخذون مرتبات من الدولة، فلا يحل لهم أخذ شيء من سهم في سبيل الله تعالى، لاستغنائهم براتبهم عنه .
النوع الثاني) مصالح الحرب، كالصرف في شراء الأسلحة، وبناء الأسوار وشراء المراكب البحرية والسيارات المحتاج إليها في الجهاد، وغير ذلك، وهذا ما نص عليه المالكية، وأجاز الشافعية أن يشترى بسهم في سبيل الله آلات الحرب وتجعل وقفا يستعملها الغزاة ثم يَردَّونها عند انتهاء الحرب، وعامَّة الفقهاء لم يقروا ذلك، لأن من شرط الزكاة التمليك، وهو غير متوفر في الوقف هنا .
والنوع الثالث) هو الصرف إلى الحجاج ليستعينوا به في حجهم، وهو قول مرجوح عند الحنبلية، واحتجوا له بحديث النبي صلى الله عليه وسلم :(فَإِنَّ الْحَجَّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) رواه أبو داود .
وذهب جمهور الفقهاء إلى أن مصرف في سبيل الله لا يشمل الحجاج، بل هو مقصور على الجهاد، وقال محمد بن الحسن من الحنفية يصرف منه لمنقطع الحجاج .
والله تعالى أعلم .
وإلى اللقاء في الحلقة القادمة بإذن الله تعالى، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته .