كفارة الإخلال بالإحرام في الحج أو العمرة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والتابعين، ومن تبع هداهم بإحسان إلى يوم الدين .
أيها الإخوة المستمعون: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وبعد:
فإن كلامنا في هذه الحلقة سوف يكون عن كفارات الإحرام بالحج أو بالعمرة، وقد سميناها كفارات ولم نقل كفارة، لأن كفارات الإحرام متعددة بحسب أسبابها، وليست واحدة كما سوف يأتي:
فالحج فرض في العمر مرة على كل مسلم ومسلمة مستطيعين له، وهو ركن من أركان الإسلام، كما بين ذلك القرآن الكريم والسنة المطهرة، قال تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبيلا، وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ) 97/ آل عمران . والعُمرة فرض في العمر مرة أيضا عند الشافعية والحنبلية، وذهب الحنفية والمالكية إلى أن العمرة سنة مؤكدة .
وقد اتفق الفقهاء على أن لكل من الحج والعمرة فروضا، وواجباتٍ وسنناً، كما اتفقوا على أن الحج والعمرة إذا فَقَد أيٌّ منهما أحد فروضه بطل، ولم تَجْبُرْه الكفارة، أما إذا افتقد أحد واجباته، فإن ذلك يُدخل عليه نقصا ينجبر بالكفارة، وتسمى الفدية، وهي متعددة بحسب نوع المخالفة التي يقع فيها الحاج والمعتمر، ولهذا كان حريا بالحاجِّ والمعتمر قبل أن يبدءا الحج والعمرة أن يتعلما أحكام ذلك على يد عالم، أو أن يقرءا كتابا متخصصا في ذلك، إن كانا من طلاب العلم، أو أن يرافقا عالما في حجه وعمرته ليقتديا به في أفعاله ومناسكه، وإلا وقعا في أخطاءَ قد لا يعرفان طريقا للتخلص منها والتغلب عليها، وهو ما يحصل لكثير من الحجاج والعُمَّار، فيعودون من مناسكهم بخفي حنين .
ثم قد تكون هذه الكفارة ذبح بدنة، وهي الجمل أو الناقة، وقد تكون ذبح شاة، وهي ما يكنى عنه بالدم، وقد تكون صدقة على الفقراء والمساكين، وقد تكون مبلغا معينا من المال يعادل ثمن الصيد الذي أتلفه وهو محرم يُنْفَقُ للفقراء، وقد تكون صيامَ ثلاثة أيام أو أكثرَ منها، وقد تكون صيامَ عشرة أيام، ثلاثةٍ منها في الحج وسبعةٍ بعد العود منه، أما إذا ترك الحاج أو المعتمر سنة من السنن لا فرضا ولا واجبا، فإن كان ذلك من غير عذر أساء ونقص أجره، ولا شيء عليه من الكفارة أو الفداء، وإن كان لعذر، فليس عليه إساءة أصلا، وأجره موفور إن شاء الله تعالى .
وهذا كله محل اتفاق الفقهاء بصورة عامة، ولكن الفقهاء اختلفوا في عدِّ بعض أفعال الحج والعمرة فروضا، أو واجباتٍ، أو سننا، مما ترتب عليه اختلافهم في إجزاء الكفارة عنها إذا تخلفت، أوعدم إجزائها، وهذا أمرٌ لا تتسع هذه الحلقة لضبطه وبيان تفاصيله، ولهذا فإنني سوف أذكر أهم هذه الكفارات، والحالات الموجبة لها، بعد بيانٍ موجزٍ لأهم فروض وواجبات الحج والعمرة، مع إشارة لطيفة إلى مدى اختلاف الفقهاء فيها، ليُرجع إلى تفاصيلها في أبواب الحج والعمرة من كتب الفقه .
فالحج باتفاق الفقهاء له فروض ثلاثة، هي: الإحرام، وهو النية عند الميقات، والوقوفُ بعرفة يوم عرفة، وطوافُ الزيارة حول البيت، ويسمى طواف الحج أو طواف الركن، وقد أضاف جمهور الفقهاء إلى هذه الفروض السعيَ بين الصفا والمروة، وأضافَ الشافعية لذلك أيضا فرضين آخرين، هما: الحلقُ أو التقصيرُ، والترتيبُ بين أكثر الفروض .
أما العمرةُ، فقد اتفق الفقهاء على أن لها فرضين، هما: الإحرامُ والطوافُ، وزاد جمهور الفقهاء السعي بين الصفا والمروة، فجعلوها ثلاثة فروض، وعدَّ الحنفيةُ السعي من الواجبات، وزاد الشافعيةُ الحلقَ بعد السعي، فجعلوه فرضا، وعدَّه الجمهور واجبا.
أما واجبات الحج فكثيرة، وهي قسمان: واجباتٌ أصلية مستقلة بنفسها، وواجباتٌ تابعة لغيرها من الفروض والواجبات، وقد اختلف الفقهاء في هذين النوعين من الواجبات على أقوال مطولة يصعب استيعابها في هذه الحلقة.
إلا أن أهم الواجبات الأصلية عند الجمهور، هي: الوقوفُ بالمزدلفة ليلة الأضحى، ورميُ الجمار في أيام الأضحى والتشريق، والمبيتُ في منى ليالي التشريق، وطوافُ الوداع، والحلقُ أو التقصير .
أما أهم الواجبات التابعة للفروض والواجبات، فهي كما يلي:
أولا) واجباتُ الإحرام، وهي: كونُه من الميقات، والتلبيةُ مقرونةً بالنية، وخَلْعُ المخيط للرَّجل، وكشفُ الوجه للمرأة .0
ثانيا) واجباتُ الوقوف بعرفةَ، وهي أن يمتد الوقوف إلى ما بعد المغرب، لمن وقف قبل المغرب .
ثالثا) واجباتُ الطواف، وهي الأشواط الثلاثة بعد الأربعة الأولى عند الحنفية، وقال الجمهور: الأشواطُ الأربعةُ كلُّها فرضٌ، وكذلك الطهارةُ في الطواف وسترُ العورة وابتداؤُه من الحَجَر الأسود والتيامُنَ فيه، فإنها كلُّها من الواجبات عند الحنفية، وقال الجمهور: هي فروض، وقال الحنفية: من واجبات الطواف المشيُ فيه للقادر عليه، وركعتانِ بعد كل سبعة أشواط، وإيقاعُ طواف الركن في أيام النحر إلا لعذر، وهي من السنن عند الجمهور.
وهناك واجباتٌ أخرى كثيرة يذكرها الفقهاء في باب الحج من كتبهم.
هذا مجمل أحكام الحج والعمرة، فأما الكفارات، فهي كما يلي:
أولا) البدنة: وهي جَمَلٌ أو ناقةٌ لايقل عمرهما عن خمس سنوات، تذبح في الحرم، وتجب هذه عند جمهور الفقهاء إذا جامع الحاج زوجته بعد الوقوف بعرفة وقبل التحلل من الإحرام، فإنَّ حجه يصح، ويجب عليه هذه البدنة تكفيرا لخطئه، ولو جامع قبل الوقوف بعرفة لبطل حجه، ولزمه الكفارة بالبدنة مع القضاء في عام قابل عند جمهور الفقهاء، وقال الحنفية عليه شاة مع القضاء .
كما تجب البَدَنةُ عند الحنفية خاصة على من طاف بالبيت طواف الزيارة جنبا أو حائضا أو نفساءَ، فإن طوافه يصح ويجب عليه بدنة إذا لم يُعِدْهُ، وقال الجمهور: طوافه باطل .
ثانيا) الشاة: وهي نعجةٌ أو عَنْزَةٌ لا يقل عمرها عن سنة، تذبح في الحرم، وأجاز البعض في النعجة من الضأن خاصة الجَذْعةَ، وهي النعجة التي أتمت ستة أشهر وكان حجمها كحجم الكبار، ويَكْنى الفقهاء عنها بالدم، فيقولون: وجب عليه الدم، ويريدون به ذبح نعجة في الحرم .
وتجب هذه على الحاج والمعتمر في أحوال كثيرة، منها: أن يترك رمي الجمار كلِّها أو بعضاً منها، ومنها تركُ السعي، وتركُ طواف الوداع بغير عذر، ومنها لُبسُ المخيط في حالة الإحرام يوما كاملا، ومنها تأخيرُ الإحرام عن الميقات، وغيرُ ذلك كثير يعرف في باب الحج من كتب الفقه.
ثالثا) الصدقةُ، وهي حيثما أطلقت من غير بيان مقدارها فالمراد بها ما يساوي صدقة الفطر، وهي نصف صاع من البر أو صاعٌ من الشعير ، أو قيمةُ ذلك عند الحنفية، ولغير الحنفية أقوال أخرى مقاربة تعرف في أبوابها من كتب الفقه .
رابعا) التكفير بالصيام، وهو ثلاثة أيام في مواضع، على التخيير بينه وبين الصدقة والنسك وهو الشاة، وذلك في أحوال كثيرة يصعب حصرها الآن، وقد أشارت إليها الآية الكريمة في قوله تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ، وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) 196/ البقرة .
وقد يكون التكفيرُ الواجب بالصوم عَشَرة أيام، وذلك في حال عجز المتمتِّع عن الهدي، حيث يصوم ثلاثة أيام في الحج، وسبعة أيام بعد عودته منه ورجوعه إلى أهله، قال تعالى: (فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ) 196/ البقرة .
وأما ضمان الصيد، فهو خاص بالصيد في حالة الإحرام بالحج أو العمرة، سواء كان في الحرم أو غيره، أو الصيدِ في الحرم من قِبَلِ المُحرم وغير المحرم، وذلك لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ، وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ، يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ، هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ، أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ، أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا، لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِه،ِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ، وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ، وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ) 95/ المائدة .
فإذا قَتَل المحرم صيدا، فالواجب عليه أحد أمور ثلاثة، بينتها الآية الكريمةُ السابقة، وهي ضمانُ مثل الصيد إن كان له مثلٌ من النعم، فإذا لم يكن له مثلٌ ضمن قيمته، ثم له أن يتصدق بهذه القيمة على الفقراء والمساكين، وله أن يذبح المِثل أو يشتري بثمنه هديا فيذبحه، أو يصوم عن طعام كل مسكين يوماً .هذا ما اتفق الفقهاء عليه في الجملة، وهناك تفصيلات أخرى كثيرة فيها اختلاف بينهم، تعرف في مواضعها من كتاب الحج والعمرة .
والله تعالى أعلم .
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته .