حكم الاحتساب ومعناه وشروطه
مع إلقاء نظرة على أهمية هذا النظام في حفظ الأمن وتوحيد الشمل عبر العصور الإسلامية
من هذا التعريف للحسب يظهر لنا أن المحتسب في الشريعة الإسلامية هو المؤمن القائم على حدود الله تعالى، والحامي لأحكامه، ابتغاء مرضاة الله تعالى، وهذا الأمر هو مهمة كل مسلم مكلف، لأن حماية هذه الحدود وإقامة هذه الأحكام من فروض الإسلام، سواء كان ذلك في نفس المكلف أو في أسرته أو في جيرانه أو في مجتمعه، وقد تواترت على ذلك الأدلة الشرعية الكثيرة، من ذلك قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ).(التحريم:6) ، ومعلوم أن وقاية النفس من النار لا تكون إلا باتباع أحكام الله تعالى، من الالتزام بالمأمورات، والبعد عن المحظورات، ووقاية الأهل لا تكون إلا بحملهم على فعل الواجب وترك المنكر بكل الطرق الممكنة، وغني عن البيان أن الآية الكريمة قد جاءت في صيغة الأمر الدال على الوجوب، إذ هو الأصل فيه.
ومن ذلك قوله تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران:104)، فإنها جاءت بصيغة الأمر أيضا، وهي تشمل أمر الإنسان نفسه وأهله والناس جميعا، وذلك أخذا من عموم اللفظ.
ومن ذلك قوله تعالى نعيا على بني إسرائيل وبيانا لأسباب هلاكهم وحلول لعنة الله عليهم: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) (المائدة:78)، فإن في هذه الآية الكريمة إشارة واضحة إلى أن سر انحلال الأمم وخرابها ودمارها كامن في تركها لمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن النكر.
ولذلك يقرر فقهاء الشريعة الإسلامية متفقين أن النهي عن المنكر فرض عين على كل مسلم مكلف، وإن كانوا اختلفوا في شروط فرضيته، وأهم ما اتفقوا عليه من الشروط:
أ- أن يكون الفعل المراد تغييره من المنكرات المتفق على اعتبارها منكراً لدى الفقهاء، فلو كانت منكرا في مذهب معتمد وحلالاً في مذهب معتمد آخر لم يجز إنكارها، لأنه ليس لأحد أن يدعي أن الشريعة الإسلامية وقف على مذهب واحد، بل هي بحق مجموع تلك المذاهب المعتمدة التي ارتضاها جماهير المسلمين.
ب - أن يكون المنكر مستمرا، فإذا كان قد انتهى لم يكن ردع فاعله عنه نهيا بل عقابا، والعقاب إنما يكون لولي الأمر وليس لأفراد المسلمين، ولذلك فإن الاحتساب في هذه الحال ينتقل من مرحلة تغيير المنكر إلى مرحلة رفع الدعوى به أمام القضاء، بشروط وضوابط معينة، وهذا ما يسمى بدعوى الحسبة، وسنأتي على تفصيلها إن شاء الله تعالى.
جـ - أن يكون المنكر ظاهراً، فإذا كان مستترا عن المجتمع لم يجب، بله لم يجز، التفتيش عنه بغيه تغييره، لأن ذلك تجسس، وهو ممنوع في الإسلام، لقوله تعالى: (وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً)(الحجرات: من الآية12). وفي هذا القول يقول النبي صلى الله عليه وسلم مبينناً آثار التجسس الضارة على المجتمع: (إِنَّكَ إِنْ اتَّبَعْتَ عَوْرَاتِ النَّاسِ أَفْسَدْتَهُمْ أَوْ كِدْتَ أَنْ تُفْسِدَهُمْ فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ كَلِمَةٌ سَمِعَهَا مُعَاوِيَةُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ نَفَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا) رواه أبو داوود بإسناد صحيح).
وقد ثبت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يمشي ليلاً في أحد شوارع المدينة في خلافته يتفقد شؤون المسلمين وأحوالهم، فإذا به يرى نورا ينبعث من شقوق أحد الأبواب، فغلب على ظنه أن ناساً اجتمعوا في هذا المنزل على منكر، فتسلق عليهم السور فوجدهم يشربون وعندهم رجل يغنيهم، فأنكر عليهم، فقام المغني وقال له: إن كنا قد عصينا الله من وجه واحد فأنت قد عصيته من ثلاثة وجوه، فقال عمر: ما هي، فقال: قد قال الله تعالى: (وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً)(الحجرات: من الآية12) وأنت قد تجسست، وقد قال تعالى: (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا)(البقرة: من الآية189) وأنت قد تسورت، وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النور:27) ، وما سلمت، فتركهم عمر واشترط عليهم التوبة[1].
وقد قرر الفقهاء رضي الله عنهم أنه ليس للقاضي أن يستعلم من المتهم عن أكثر مما ظهر أو ادعي عليه به، لأن ذلك تجسس ممنوع.
د - أن يكون المكلف بالإنكار مسلماً بالغاً عاقلاً لأن هذه الأوصاف من شروط التكليف العامة ولا يكلف أحد بأحكام الإسلام بدونها.
هـ - القدرة علة تغيير المنكر، فمن كان من أهل القدرة على النصح فقط لم يفترض عليه التغيير باليد ما دام لا يطيقه، ذلك لأن القدرة من شروط التكليف العامة أيضا، لقوله تعالى (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا)(البقرة: من الآية286)، ويدخل في هذا الشرط العلم بالمنكر، فإن الجاهل بأن الفعل منكر لا يجب عليه إنكاره أو تغييره، لأن الجهل عجز في هذه الحال.
و - ألا يلزم من تغييره للمنكر منكر آخر مساو له أو أكبر، وإلا سقط الوجوب، فإذا لزم من تغييره للمنكر منكراً أكبر منه ارتفع الوجوب وانتفى الحل أيضا معه، وذلك كمن رأى شارب خمر وغلب على ظنه أنه إن منعه من الشرب قتله، حرم عليه المنع، لما في القتل من ضرر أكبر من شرب الخمر، فمن خشي أذى يعادل شرب الخمر ولا يزيد عليه، جاز له التغيير من غير وجوب.
ز - أن يظن أن عمله سينتهي إلى تغيير المنكر، فإن ظن أن عمله سيذهب هدرا ولا يؤثر في إزالة المنكر لم يجب عليه تغييره، ولكن يجوز له ذلك جوازاً فقط.
حـ - أن يدفع المنكر بأقل ما يندفع به، وهذا شرط وجوب وشرط جواز معا، فالمنكر الذي يندفع بالنصح لا يجب ولا يجوز دفعه بالتوبيخ أو بالضرب أو بما هو أشد منهما، وهكذا، فإذا اشتط المتحسب وتجاوز في دفع المنكر ذلك القدر، ونتج عن ذلك إلحاق أذى غير محتاج إليه، كمن أمكنه الدفع بالضرب فقتل، أيكون فعله هذا جريمة يعاقب عليها؟
رأى جمهور الفقهاء أن فعله هذا جريمة غير مقصودة وإن كانت مقصودة في الواقع، وذلك لوجود أصل الحل في دفع المنكر، ولذلك فإن عليه الدية في القتل، والأرش في الجراح، لا القصاص.
هذا هو حكم الحسبة وشروط وجوبها من الناحية النظرية، ولو عدنا إلى التاريخ الإسلامي نتتبع من خلاله معالم تطبيقها على الواقع، لعلمنا أن نظام الحسبة قام على الواقع مع قيام الدعوة إلى الإسلام، فالنبي محمد صلى الله عليه وسلم أول محتسب في الإسلام، وكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بلسانه ويده، وكان أصحابه الأجلة كلهم على نهجه ومنواله تمسكاً بالأحكام الشرعية وأمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، حتى إذا ما كثر المسلمون واتسعت ديارهم وتعددت المخالفات ووجد أناس يجهلون هذه المنكرات وطرق تغييرها لدخولهم في الإسلام من جديد، عيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أناساً مختصين يتجولون في الأسواق، ويتفقدون شؤون الناس، ويقيمونها على أسس الشريعة الإسلامية، ويعدلون المعوج منها، ويردونه إلى طريق الصواب، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم ولى سعيد بن سعيد بن العاص بن أمية على سوق مكة، ينظر في أمر الموازين وغيرها مما يمكن أن يقع من المنكرات في هذه السوق، وعلى هذا النهج سار الخلفاء الراشدون من بعده، فقد ولى عمر بن الخطاب في عهد خلافته السائب بن يزيد وعبد الله بن عتبة على سوق المدينة، هذا إلى جانب أنهم أنفسهم كانوا يقومون بهذه المهمة إلى جانب من عينوهم، وإلى جانب جماهير المسلمين القائمين بهذا الواجب العظيم.
وعندما اتسعت رقعة الدولة الإسلامية وترامت أطرافها حتى وصلت إلى الصين شرقا وإلى فرنسا غربا في آخر عهد الأمويين وأول عهد العباسيين، بدأ الخلفاء يكثرون من تعيين المحتسبين، يوزعونهم في شتى المدن وعلى مختلف المرافق، ليغيروا ما يمكن أن يظهر فيها من المنكرات والمخالفات لأحكام الشريعة الإسلامية الغراء.
وارتقى هذا النظام عبر تطور العصور الإسلامية، حتى أصبح وظيفة معينة نظمت طرق مباشرتها وألفت فها المؤلفات العلمية العديدة، تبين شروطها ومهامها وأحكامها بدقة وتفصيل مستمد من مصادر الفقه الإسلامي الغنية، بكل ما يفيد الأمة ويحفظ لها قوتها ووحدتها، وقد أصبح للمحتسب في العهد الفاطمي نواب يطوفون الأسواق ويفتشون قدور الطباخين ودكاكين اللحامين وغير ذلك، ويمنعونهم من الغش والتدليس وكل ما يمكن أن يقع منهم من المنكرات.
وبذلك نرى أن الاحتساب بدأ يقوم به رجال مختصون، فيعينون من قبل الدولة إلى جانب جماهير المسلمين التي تقوم به من غير تعيين أو إذن خاص من قبل رئيس الدولة، وقد اصطلح الفقهاء على تسمية الموظف من قبل الدولة لهذه المهمة محتسباً، وتسمية المتطوع بهذا العمل من غير تعيين من قبل الدولة متطوعاً بالحسبة، ولا زال لهذا الاصطلاح بقية في الدول الإسلامية، حيث يسمون القائمين بالحسبة (مطاوعة) اختصاراً لكلمة متطوع بالحسبة.
وإلى جانب المحتسب كان يقوم على تطبيق أحكام الله تعالى في الدولة الإسلامية رجلان تفترق اختصاصاتهما عن المحتسب، فيسعى كل منهما في مضمار معين وحدود معينة، هدفهم جميعا تطبيق أحكام الله تعالى ومنع المخالفات، إلى جانب اشتراكهم في بعض الأمور، وهذان الرجلان هما القاضي، ووالي المظالم الذي يقابل القاضي الإداري في الأنظمة الحديثة، ولتوضيح معالم وظيفة كل من المحتسب والقاضي وصاحب المظالم أورد أهم الفوارق التي يمتاز بها كل منهم عن الآخر.