مراتب الحسبة
كتب العلماء كثيراً في بيان مراتب الحسبة، فمنهم من أوقفها على خمس مراتب، ومنهم من أوصلها إلى عشر مراتب أو أكثر، والمعنى العام في بيان هذه المراتب وتفصيلها هو تقرير مبدأ هام في الحسبة، وهو أنه لا يجوز اللجوء في تغيير المنكر إلى طريق أشد مع إمكان تغيير المنكر بطريق أسهل منه وأقل كلفة وإيذاء، لأن تغيير المنكر هو من باب الأمر بالمعروف، وليس من المعروف في شيء اللجوء إلى طريق أشد مع غناء طريق أسهل منه عنه.
وأهم الطرق التي يمكن أن يتبعها المحتسب في تغيير المنكر متدرجة من الأبسط إلى الأشد:
1- التعريف بالمنكر، وبيان حكمه للفاعل، وذلك إن غلب على الظن أو ظن أنه جاهل به، لخفاء دليل تحريمه، أو لقرب عهد فاعله بالإسلام، أو غير ذلك، لأن هذا التعريف قد يكفي لكفه عنه، فإذا ظُن علمه به مسبقا لم يُلجأ لهذا الطريق، لعدم جدواه.
2- النصح والإرشاد، وذلك بالقول اللين والموعظة المؤثرة، من ترغيب في الجنة وترهيب من النار، إلى غير ذلك مما يستطيع المحتسب فعله، وقد كان يحدث كثير من ذلك للعلماء في مقابلة الأمراء في كثير من العصور الإسلامية، حيث كانوا يعظونهم فيبكون ويتوبون عما فرط منهم.
3- التعنيف والتوبيخ باللسان، وذلك عند عجز النصح عن تغيير المنكر، لإصرار فاعله عليه وعدم التفاته إلى النصح والإرشاد، وينبغي أن يكون التعنيف بأقل قدر يمكن أن يندفع به المنكر، فلا يزاد على قدر الضرورة، كما ينبغي أن لا يأتي المحتسب في إنكار المنكر بفاحش القول وما يعتبر معصية بذاته من الكلام، فلا يشتم ولا يسب ولا يكذب، ولكن يخاطبه بما فيه من فسق ومجون وتهتك وترك لتعاليم الدين، إلى غير ذلك مما هو فيه من المخالفات.
4- التغيير باليد: والمراد به دفع المنكر ورفعه بالقوة، وذلك عند عجز الطرق السابقة عن رفعه وتغييره، ومن هذا التغيير إراقة الخمر لشاربها، وتعطيل أدوات اللهو من معازف وقمار وغيرها عن العمل، وكإخراج الغاصب بالقوة من الدار التي غصبها، وهكذا، ويجب هنا الانتباه إلى أنه يوقف في التغيير باليد على القدر المحتاج إليه لتغيير المنكر، من غير زيادة، فإذا كان بإمكانه إراقة الخمر دون كسر أوانيها لم يجز كسرهان وإن كان بإمكانه تعطيل أدوات اللهو عن الاستفادة منها باللهو لم يجز تحطيمها و إحراقها، وغير ذلك، لأن الغاية هي منع استمرار المنكر لا العقوبة عليه، فإن العقوبة ليست إلى المحتسب بل إلى سلطات الدولة القضائية.
5- التهديد بالضرب أو القتل: وذلك عند عجز الوسائل السابقة عن تغيير المنكر، ويشترط في التهديد هذا أن لا يكون بوعيد لا يجوز تنفيذه، كتهديده بسرقة ماله أو الاعتداء على زوجته أو ابنته أو غير ذلك، لأن المنكر لا يجوز تغييره بمنكر آخر، ومن أنواع التهديد إشهار السلاح في وجهه، وتوعده باستعماله فيه ما دام ذلك لا ينتج منكراً أكبر منه.
6- الضرب أو القتل: وذلك عندما لا يفيد التهديد بهما، وقد ذهب إلى ذلك جماهير الفقهاء، واتفقوا على أن للمحتسب أن يقتل فاعل المنكر إذا لم تجد معه طرق الإنكار السالفة، بشرط أن يكون قادرا على ذلك من غير أن يلحق بنفسه أو بغيره ضرراً هو أكبر من المنكر الذي يريد دفعه بذلك.
وذهب جماعة من العلماء إلى أن القتل للسلطان لا غير، وليس للمحتسب فعله، لأنه سوف يترتب عليه غالباً فتن ومنكرات هي أكبر من المنكر المراد تغييره.
والحق أن القولين متقاربان، إذ هما يجيزان القتل عند أمن المنكر الأكبر، ولا يضر هنا أن يكون المنكر المراد تغييره أخف من القتل ما دام القتل متعيناً لإزالته، كمن رأى مسلماً غير محصن يزني بفتاة غير محصنة أيضاً، فنهاه ووبخه وهدده فلم ينته، واستمر في منكره، عند ذلك يجوز له قتله، وإن كان جزاء الزاني غير المحصن الجلد مائة جلدة دون القتل.
يشهد لذلك من السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ) رواه البخاري.
وقد نص العلماء على أن نفي الإيمان لا يراد به حقيقته من إثبات الكفر، بل المراد به نفي عصمة الإيمان، فإذا انتفت العصمة كان دمه هدرا وقت المعصية، فجاز قتله لذلك، على خلاف ما إذا أدركه المحتسب بعد انتهاء المعصية، فإنه لا يجوز له قتله، لعودة العصمة إليه، ولأن قتله بعد المعصية يعتبر عقوبة لا تغييرا للمنكر، والعقوبة إلى الدولة وليست للمحتسب.
7- الاستعانة بالغير، وذلك إذا عجز المحتسب عن القيام بتغيير المنكر بنفسه لمرض أو كبر سن أو غير ذلك، فإن له الاستعانة بغيره من الأعوان والجنود وغيرهم في تغيير هذا المنكر، لاسيما إذا كان المشتركون في المنكر أكثر من واحد، هذا ما ذهب إليه جماهير العلماء.
وذهب بعضهم إلى أن الاستعانة بغيره في تغيير المنكر للمحتسب الموظف من قبل الدولة دون المحتسب المتطوع، فإنه ليس له ذلك، خشية انتشار الفتن والخلافات بين الناس، مما ينتج عنه تخلخل المجتمع ونشر روح الفوضى فيه.
8- إقامة الدعوى لدى القاضي: وذلك عند عجز المحتسب عن تغيير المنكر بالمرات المتقدمة، لقوة شوكة المجرم، أو لضعف قوة المحتسب، ورفع الدعوى هنا ما هو إلا استعانة بقوة السلطة في تغيير المنكر، كما أن الدعوى ترفع من قبل المحتسب أيضا إذا كان المنكر قد انتهى، لأن التغيير للمنكر لا يكون إلا عندما يكون المنكر مستمراً، فإذا انتهى كان الردع عقوبة، والعقوبة لا تكون إلا لأولي الأمر والسلطات المختصة في الدولة، وليس للمحتسب شيء من ذلك مطلقاً.
وبذلك يكون رفع الدعوى حقا وواجبا على المحتسب في ثلاث حالات، هي:
أ- العجز عن تغيير المنكر في أي مرتبة من مراتبه.
ب- العجز عن تغيير المنكر بالمراتب المخولة للمحتسب مما هو دون القتل، وتعين الحاجة إلى القتل، وذلك في رأي بعض الفقهاء الذين يمنعون المحتسب من القتل والضرب الشديد المبرح.
جـ- انتهاء المنكر، وهذه الدعوى يسميها الفقهاء دعوى الحسبة، وتمتاز في الفقه الإسلامي عن مراتب الحسبة الأخرى بشروط وأوصاف خاصة بها، كما تمتاز عن الدعاوي الشخصية الأخرى بمميزات وخصائص كثيرة أيضاً، ولذلك فإنني سوف أبحث في معنى دعوى الحسبة وأحكامها، مجليا أهم ما يفرقها عن باقي مراتب الحسبة من ناحية، وعن سائر الدعاوى الشخصية الأخرى من ناحية ثانية، مشيراً قبل ذلك إلى أن مراتب الحسبة هذه حق وواجب لكل محتسب، متطوعا كان أو موظفا، يتبعها متدرجا فيها بهذا الترتيب، مع كل من يفعل المنكرات ويرتكب المخالفات، مهما كانت صفته ومكانته في المجتمع، وذلك بالشروط المتقدمة، ولا يستثنى من ذلك إلا حالات ثلاث، هي:
1- الوالدان، فإنه لا يجوز للولد أن يستعمل معهما في إزالة المنكر الذي يمكن أن يحصل منهما إلا المرتبة الأولى، وهي التعريف، والثانية النصح والإرشاد والوعظ بالحسنى، والرابعة وهي تغيير المنكر باليد دون مساس بشخصهما، أما القتل والضرب والتهديد بهما فليس له فعل ذلك معهما، وذلك استدلالاً بقوله تعالى: (فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا)(الإسراء: من الآية23)، وقوله تعالى: (وَوَصَّيْنَا الأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (العنكبوت:8).
2- وكذلك الزوجة مع زوجها، فإن حكمها كحكم الولد مع أبيه تماما، للأدلة الكثيرة التي وردت في توصيتها بإكرام زوجها، ولما تقتضيه طبيعة الحياة الزوجية، من ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لأَحَدٍ لأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا) رواه الترمذي وأحمد.
3- أما الرعية مع السلطان، فإن لهم عليه حق التعريف والنصح والإرشاد فقط، وليس لهم مجاوزة ذلك إلى المراتب الأخرى إذا ما فعل منكراً من المنكرات، لما يترتب على مجاوزة ذلك من منكرات هي أكبر غالباً من المنكر الذي فعله، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من كانت عنده نصيحة لذي سلطان فلا يكلمه بهاعلانية وليأخذ بيده فليخل به فإن قبلها وإلا كان قد أدى الذي عليه والذي له)[1]. أي إن ذمته تبرأ بذلك، هذا بالنسبة إلى سقوط الوجوب عنه في تغيير المنكر، أما بالنسبة إلى جوازه في حقه، فإن الفقهاء على شبه الاتفاق على أن ذلك جائز له إذا لم يخش منكراً أكبر يتعدى إلى غيره، فلو خشي على نفسه القتل إذا ما غير المنكر جاز له ذلك دون وجوب عليه، فإذ خشي القتل على أسرته أو غيرهم من جراء ذلك، لم يجز له ذلك أصلاً.