من حيث الحاجة للخصومة في إثبات الجريمة
يقرر الفقهاء أن حقوق الله تعالى الخالصة (وهي الجرائم من النوع الأول) لا تحتاج إلى خصومة، أي إن الإثبات فيها أمام القضاء لا يحتاج إلى رفع الدعوى، ولكن الشاهد نفسه يعد مدعيا وشاهدا في آن واحد، وتسمى الدعوى هذه دعوى حسبة أو شهادة حسبة.
أما السرقة والقذف وسائر الجرائم التعزيرية التي هي من النوع الثاني مما يكون حق الله تعلى فيه غالبا، فالأمر فيها يختلف قليلاً بحسب مقدار غلبة حق الله تعالى على حق العبيد.
ففي السرقة يقرر الفقهاء أن حق الله تعالى غالب غلبة مطلقة على حق العبد، حتى إن بعضهم يصرح بأنها خالص حق الله تعالى، ومن ذلك المالكية وبعض الحنبلية.
والحق أن فيها حقا للعبد أيضا، إلا أنه مغلوب بل مقصور على رفع الدعوى فقط، ولذلك فإن الفقهاء متفقون على أن الشهادة بها لا تقبل إلا بعد الخصومة وإقامة الدعوى ممن له لحق في إقامتها وهو المسروق منه، فإذا أقامها لدى القاضي انتهى حقه في الحد، وانقلبت الدعوى دعوى حسبة، فتتميز بكل ما تتميز به دعوى الحسبة من الأحكام والخصائص، وذلك خلافا للمالكية وبعض الحنبلية الذين يعدونها حقا خالصا لله تعالى، ويقبلون الشهادة فيها بغير دعوى.
وأما القذف، فحق الله تعالى فيه أقل مما هو في السرقة وإن كان غالبا على حق العبد أيضا لدى جمهور الفقهاء خلافا لما يفهم من كلام بعض الشافعية والحنبلية من أن حق العبد فيه هو الغالب.
ولذلك فإن الجمهور يشترطون للإثبات فيه الخصومة وإقامة الدعوى من المقذوف، ثم يوقفون حق العبد عند هذا الحد لا يتعداه، وتنقلب الدعوى بعد إقامتها من مستحقها إلى دعوى حسبة، فتتمتع بكل ما تمتع به دعوى الحسب من الخصائص، مثلها مثل دعوى الحسبة تماما، نظرا لغلبة حق الله تعالى فيها.
وأما الشافعية والحنبلية الذين يعدون حق العبد هو الغالب فيها، فلا يجيزون فيه دعوى الحسبة أبدا، لا ابتداء ولا انتهاء، خلافا لدعوى السرقة.
وعلى هذا التفصيل باقي الجرائم التي يعد حق الله فيها هو الغالب فإنها لا تقام إلا بدعوى صاحب الحق فيها ثم تنقلب دعوى حسبة من كل الوجوه.
وأما الجرائم التي يكون حق العبد فيها هو الغالب، كالقصاص في النفس أو الأطراف أو الجراح وغيرها من جرائم النوع الثالث، فإنها تعد دعاوى شخصية، إقامة للأكثر مقام الكل في الحق المعلق بها، ولا تجري فيها دعوى الحسبة بحال، لا ابتداء ولا انتهاء، فتشترط فيها الخصومة وإقامة الدعاوى من صاحب الحق لصحة الإثبات، إلى غير ذلك مما يشترط في الدعاوى الشخصية.