من حيث طرق الإثبات
أهم طرق الإثبات العامة المتفق عليها في الشريعة الإسلامية:
آ - البينة بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين، لقوله تعالى:( وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى) (البقرة: من الآية282).
ب – الإقرار، وذلك لقوله تعالى: (بَلِ الأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) (القيامة:14) .
ج - النكول عن اليمين بعد توجيهها من قبل القاضي، لأنه المراد من توجيه اليمين، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ) رواه البخاري، وقوله صلى الله عليه وسلم: (البينة على المدعي واليمين على من أنكر) رواه مالك.
وهذه الطرق الثلاث كلها مقبولة في الدعاوى الشخصية عامة، إلا ما يكون له صفة خاصة من هذه الدعاوي تدعو إلى تقييده ببعض القيود أو إفراده ببعض الأحكام، كجواز إثبات الولادة بشهادة النساء خاصة، نظرا لعدم إمكان اطلاع الرجال على ذلك عادة، وغير ذلك.
وأما دعوى الحسبة فقد بحث الفقهاء في مدى قبولها الإثبات بهذه الطرق، فاتفقوا في نقاط واختلفوا في أخرى.
أما في دعوى الزنا فقد اتفق الفقهاء على أنها لا تقبل الإثبات إلا بالبينة والإقرار دون النكول، لأن النكول إما إقرار وإما بذل، وهو في ذينك لا يصلح لإثبات الزنا، لأنه إن كان إقرارا فهو إقرار ضمني غير صريح، وذلك شبهة يسقط بها الحد، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ادرؤا الحدود بالشبهات) رواه البيهقي، وإن كان بذلا كما ذهب إلى ذلك أبو حنيفة، فلا يصلح لإثبات الزنا أيضا، لأن الزنا حد، والحدود لا يجري فيها البذل.
وكذلك الحال في الإثبات بالبينة، فإن الفقهاء لم يطلقوها ولم يقبلوا في الإثبات بالبينة بأقل من أربعة شهود رجال، خلافا للدعاوى الشخصية التي يقبل فيها رجلان أو رجل وامرأتان، وذلك لما جاء في صريح القرآن الكريم من قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور:4).
وكذلك أجاز الفقهاء أن يكون المدعي في دعوى الزنا شاهدا فيها، ذلك أنه في دعواه هذه مدافع عن حق الله تعالى لا عن حق نفسه، فجاز أن يكون شاهدا إلى جانب كونه مدعيا، بخلاف الدعاوى الشخصية التي لا تقبل الدعوى فيها إلا بطلب من صاحب الحق الشخصي، فإن المدعي لا يجوز أن يكون شاهدا في دعواه لشبهة المصلحة الشخصية المؤثرة في شهادته، وكذلك الحال في كل دعاوى الحسبة، فإن المدعي شاهد فيها لغلبة حق الله تعالى فيها، وزوال شبهة المصلحة.
وأما الإقرار، فقد اشترط الحنفية والحنبلية فيه التكرار أربع مرات، يرد القاضي فيها المقر في كل مرة، ثم يعود من تلقاء نفسه، خلافا للدعاوي الشخصية التي تثبت بالإقرار مرة واحدة، وذلك لما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قَالَ: (أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ فَنَادَاهُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي زَنَيْتُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ حَتَّى رَدَّدَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ دَعَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَبِكَ جُنُونٌ قَالَ لا قَالَ فَهَلْ أَحْصَنْتَ قَالَ نَعَمْ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَأَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ فَكُنْتُ فِيمَنْ رَجَمَهُ فَرَجَمْنَاهُ بِالْمُصَلَّى فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ هَرَبَ فَأَدْرَكْنَاهُ بِالْحَرَّةِ فَرَجَمْنَاهُ) متفق عليه.
وأما المالكية والشافعية فقد أبقوا حد الزنا على أصل القاعدة، وقبلوا فيه الإقرار مرة واحدة، استدلالا بما ثبت لديهم عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنه قبل فيه في بعض الأحوال الإقرار مرة واحدة.
وأما حد شرب الخمر والسرقة، فإنه يقبل الإثبات بالبينة والإقرار فقط، دون النكول، لما تقدم في حد الزنا.
ولا يشترط في البينة لإثبات هذين الحدين أكثر من شاهدين اثنين، كما في سائر الدعاوى الشخصية، وكذلك الإقرار يكفي فيه القول مرة واحدة، جريا على أصل القاعدة في الإثبات به، وذلك في مذهبي أبي حنيفة والشافعي، وذهب جماعة من الحنبلية وأبو يوسف من الحنفية إلى اشتراط تكرار الإقرار مرتين، قياسا على الشهادة فيها، ولأنها حق خالص لله تعالى يشترط له الإصرار على الإقرار، والإصرار لا يتم إلا بالتكرار.
وقد ذكر الكاساني في البدائع ضابط ما يشترط له التكرار في الإقرار على مذهب من يشترط ذلك، فقال:(إن كل ما يسقط بالرجوع عن الإقرار فعدد الإقرار فيه كعدد الشهود) البدائع 7/50.
وكذلك في السرقة بالنسبة لثبوت الحد فقط، أما المال فيثبت بالإقرار مرة واحدة بالاتفاق، وكذلك يثبت المال بالنكول أيضا، لأن دعوى السرقة تتضمن حقين، الأول هو حق الله في الحد، والثاني حق العبد في المال المسروق، والدعوى الأولى هي دعوى حسبة، أما الثانية فدعوى شخصية تثبت بكل ما تثبت به الدعاوى الشخصية الأخرى، وإن كان كلا الدعويين لا تقبل الإثبات فيها إلا بعد خصومة من صاحب الحق الشخصي وهو المسروق منه، لتشابك الحقين وارتباطهما ببعضهما.
أما حد القذف فيقبل الإثبات فيه بالبينة والإقرار، ويكفي في بينته شهادة رجلين، وفي الإقرار به الإقرار مرة واحدة عند الجميع.
وأما ثبوته بالنكول، فقد ذهب الشافعي رحمه الله تعالى إلى ثبوته به، فإذا طلب اليمين من القاذف فنكل عنه حد حد القذف ثمانين جلدة، وذلك لغلبة حق العبد فيه عنده.
وذهب الحنفية في رواية الكرخي عنهم إلى أن القذف لا يثبت بالنكول، ولا توجه اليمين فيه على القاذف، وذلك لغلبة حق الله فيه على حق العبد عندهم، كما تقدم في سائر الحدود.
وفي ظاهر الرواية أن الحنفية يرون توجيه اليمين على القاذف، فإذا نكل عنها قضي عليه بالحد عن البعض، وقضي عليه بالتعزير عند البعض الآخر.
وحجة الأولين أن القذف حق العبد فيه كبير، فيجعل كأنه غالب، فيلحق بالقصاص، وحجة الآخرين أن حق العبد فيه كبير، ولكنه مغلوب على أية حال، فيقضى بالتعزير حماية لحق العبد، ويمنع الحد نظرا لما فيه من غلبة حق الله تعالى، كما في السرقة، حيث يثبت بالنكول فيها المال دون الحد، رعاية للحقين معا، كما تقدم.
وعلى ذلك التفصيل جميع الحدود والتعزيرات التي يكون فيها حق الله تعالى خالصا أو غالبا.
وأما القصاص والتعزيرات التي يكون فيها حق العبد هو الغالب، فإنها لا تعتبر دعاوى حسبة كما تقدم، وتقبل الإثبات بالوسائل العادية التي تثبت بها الدعاوى الشخصية المحضة، ولا يستثنى من ذلك إلا قبولها الإثبات بالنكول، فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه توجه اليمين في القصاص على الفاعل، فإذا نكل لم يقض عليه بالقصاص، ولكن يقضي عليه بالديّة، ذلك أن القصاص كالحدود يسقط بالشبهة، والنكول إقرار فيه شبهة، فلا يثبت به القصاص، أو هو بذل، والقصاص مما لا يجرى فيه البذل، إذ البذل قاصر على الأموال وما ألحق بها.
وأما التعزيرات التي يغلب فيها حق العبد، فإنها تقبل الإثبات بالنكول جريا فيها على الحق الغالب.