من حيث التقادم وأثره على إسقاط الجريمة
وأما من حيث التقادم وأثره على إسقاط الجريمة، فتفترق فيه دعوى الحسبة عن الدعاوى الشخصية من وجه، ذلك أن المقرر في الدعاوى الشخصية أن التقادم لا يؤثر على سقوط الدعوى فيها مهما طال الأمد، إذا كان التأخر عن إقامته لسبب مقبول، من جهل بالحق، أو مرض، أو سفر، أو غير ذلك.
فإذا كان التأخر عن إقامتها لغير سبب، سقط حق الإدعاء بها لدى القاضي بعد مضي خمسة عشر عاما على ثبوت الحق، إذا كان المدعى عليه منكرا للحق، فإذ كان مقرا به سمعت وقضي لصاحب الحق بحقه ولو بعد مئة عام أو أكثر، ذلك أن التقادم يؤثر على حق الإدعاء فقط، لا على الحق نفسه، وذلك لما في التقادم من شبهة الإبراء، فإذا كان المدعى عليه مقرا بالحق لم يعد للشبهة مكان، فيلغى التقادم.
وهذا التقادم بالشروط السابقة يسري على دعاوى الحسبة فتسقط به، كما تسقط به الدعاوى الشخصية، ويسمى بالتقادم الطويل، وهو غير محل بحثنا هنا.
وأما التقادم القصير التي تسقط به الدعاوى لعذر كان أو لغير عذر، فهو محل البحث، وهو ما اختلف الفقهاء في اعتباره مسقطا لدعاوى الحسبة أو غير مسقط لها، مع اتفاقهم على عدم تأثيره على الدعاوى الشخصية.
ولذلك فإنني سوف أبحث في هذا الموضوع في نقطتين:
أ - سقوط الحق بتقادم الإثبات فيه بالتقادم القصير.
ب - سقوط التنفيذ بهذا التقادم بعد ثبوت الحق.
أ- من حيث سقوط الحق بتقادم الإثبات فيه:
انقسم الفقهاء في ذلك إلى أربعة مذاهب:
فذهب المالكية والشافعية والحنبلية إلى أنه لا أثر لهذا التقادم مطلقا على ثبوت الحدود والجرائم التي يكون حق الله فيها غالبا أو خالصا، مثلها مثل الجرائم الشخصية تماما، سواء ثبت الحق فيه بعد ذلك بالبينة أو الإقرار أو النكول على حد سواء، فإذا رفعت الشهادة بالزنا القديم لدى القاضي قبلت، ونُفِّذ الحد، وكذلك إذا رفعت بالشرب أو السرقة أو غير ذلك.
وعلى الحكم نفسه لو أقر المجرم بجريمته بعدما تقادمت الجريمة، فإنه يقبل إقراره وتنفذ العقوبة عليه.
ودليل هؤلاء عدم وجود فارق معتبر في ذلك بين حق الله تعالى وحق العبد، إذ إن الدعاوى الشخصية لا تسقط بهذا التقادم القصير باتفاق الفقهاء، فكذلك دعاوى الحسبة.
وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى أن الدعوى تسقط بالتقادم إذا ثبت بعد ذلك الحق بالشهادة، فإذا ثبت بالإقرار لم تسقط الدعوى، ويقبل الإقرار ويحكم به وتنفذ العقوبة على صاحبها، وهذا بالنسبة لحدي الشرب والزنا خاصة، أما حد القذف فلا يؤثر فيه التقادم، وكذلك حد السرقة في حق المال دون الحد.
وذهب محمد بن الحسن إلى ما ذهب إليه الشيخان أبو حنيفة وأبو يوسف في كل ذلك، وخالفهما في ثبوت حد الشرب بالإقرار، وقال إن الإقرار لا يقبل بالشرب القديم، تفريقا للشرب عن سائر الحدود الأخرى، لأنها تثبت بالقرآن، وحد الشرب ثبت بالإجماع، ولذلك اعتبر تأخر الإقرار فيه شبهة مسقطة له.
وحجة الحنفية في ذلك أن التأخير في أداء الشهادة يجعل الشاهد متهما بالكذب، وشهادة المتهم شبهة يقسط بها الحد، أما شبهة اتهامه فمحلها أن الشاهد في هذه الحدود مأمور بأحد أمرين، كلاهما حسبة لله تعالى:
الأول: أداء الشهادة حسبة لله تعالى إقامة لحق الله منعا للفساد في الأرض.
والثاني: الستر على المؤمن عملا بقوله صلى الله عليه وسلم: ( وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) متفق عليه.
والمؤمن أمين على حق الله تعالى والمجتمع، في الإقدام أو الستر، وواجبه أن يختار فورا أحدهما، فإن تأخر مدة عن الاختيار حتى تقادمت الجريمة ثم أقدم على إقامتها كان ذلك منه مظنة إثارة حقد أو ضغينة، وهذا شبهة تسقط بها شهادته بالحد، وقد صرح بذلك عمر رضي الله عنه بقوله:(أيما شهود شهدوا على حد لم يشهدوا عند حضرته فإنما شهدوا على ضغن فلا شهادة لهم) انظر فتح القدير 5/279.
وأما حد القذف فلا تسقط الشهادة فيه بالتقادم، لكبر حق العبد فيه من وجه، ولأن الشهادة فيه لا تسمع بغير خصومه، فكان تأخر الشاهد عن الشهادة فيه لعدم الخصومة وهي عذر يرفع عن الشهادة الشبهة.
وكذلك حد السرقة، فإن الحد فيه يسقط بالتقادم، إلحاقا له بحد الزنا والشرب، بجامع غلبة حق الله تعالى في كل، وأما المال فهو حق العبد، فلا يسقط بالتقادم قياسا على حقوق العباد الأخرى.
هذا بالنسبة إلى سقوط العقوبة بالشهادة، وأما بالنسبة لعدم سقوطها بالإقرار في جريمة قديمة، فلأن الشبهة المتأتية في الشهادة غير متأتية في الإقرار، لأنه لا يعقل الكذب على النفس وتحمل العقوبة من غير جريمة تستحقها.
وذهب ابن أبي ليلى إلى قول رابع، وهو سقوط جميع الحدود بالتقادم، سواء ثبت بعد ذلك بالإقرار أو بالبينة على حد سواء، وحجته أن هذه العقوبات إنما شرعت للزجر، وتأخير المعاقبة عليها يذهب بمعنى الردع الذي شرعت من أجله، ولذلك تسقط بذلك؟
ب- من حيث سقوط العقوبة بتقادم تنفيذها بعد ثبوتها:
إذا ثبتت العقوبة على المجرم بطرق الإثبات السابقة، وحكم القاضي بها، ثم تأخر تنفيذها لسبب من الأسباب، كمرض المجرم المانع من تنفيذا العقوبة، أو هربه من وجه السلطة، أو غير ذلك، مدة التقادم، فهل يؤثر ذلك التقادم في إسقاط العقوبة؟
ذهب الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد ابن حنبل رضي الله عنهم ومعهم زفر من الحنفية إلى أن التقادم بعد الحكم لا يؤثر في إسقاط العقوبة مهما كان سبب هذا التقادم، وذلك جريا على قولهم في التقادم قبل الثبوت.
وذهب الحنفية إلى أن التقادم بعد الحكم بالعقوبة يسقطها مهما كان سبب التأخير.
ومجمل حجة الرأي الأول: أن العقوبة قد ثبتت بالحكم بها، ولذلك فإن إسقاطها بالتقادم يعتبر تعطيلا للحدود، وهو محرم شرعا.
ومجمل حجة الرأي الثاني: أن الحد إنما شرع لتطهير نفس المجرم أولا، وتأخير التنفيذ بعد القضاء بالحد مظنة التوبة من المجرم، لأنه الغالب في حقه في مثل هذه الحال، وبذلك ينتفي المعنى من الحد، فيسقط.
وليس معنى سقوط الحد هنا سقوط العقوبة كليا، بل معناه سقوط الحد إلى التعزير، وهو عقوبة أخف من الحد بدون شك.
ج- من حيث المدة المعتبرة في التقادم:
تقدم أن المدة المعتبرة للتقادم في الحقوق الشخصية المحضة هي خمسة عشر عاما، وهذه معتبرة أيضا في إسقاط الحقوق الشخصية الغالبة في العقوبات أيضا، عند جميع الفقهاء، وكذلك في دعاوى الحسبة الناتجة على حماية حقوق الله تعالى خالصة أو غالبة، حتى عند من لا يرى سقوط هذه الحقوق بالتقادم القصير، إذ أن التقادم بخمسة عشر عاما تقادم سلم به لدى الجميع، وهو شامل لكل أنواع الحقوق والدعاوى، والخلاف منحصر في التقادم الخاص القصير كما تقدم.
وأما من يرى سقوط دعاوى الحسبة بالتقادم القصير وهم الحنفية كما تقدم فإنهم فضلا عن اتفاقهم على سقوطها بالتقادم المعروف في الدعاوى الشخصية المحضة، قالوا بسقوطها بتقادم خاص كما تقدم، ولكنهم اختلفوا في تحديد مدته.
ففي المذهب الحنفي ثلاث روايات عن أبي حنيفة في تحديد هذه المدة:
الرواية الأولى: تدل على أنه رفض تحديد ذلك بمدة معينة، وترك أمر ذلك للقاضي يحدده بحسب الظروف والأحوال والقرائن.
الرواية الثانية: تشير إلى أنه حدده بستة أشهر.
وهناك رواية ثالثة عن الإمام أبي حنيفة تفيد أنه حدده بشهر واحد، لأنه في الفقه أدنى الآجل وأكثر العاجل في الديون، وهذه الرواية أسندت إلى أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى أيضا، وارتضاها أكثر الفقهاء.
هذا بالنسبة لحدي الزنا والسرقة، أما حد الشرب، فقد ذهب محمد إلى أنه كحدي الزنا والسرقة، يسقط بشهر اعتبارا بهما، وذهب الشيخان أبو حنيفة وأبو يوسف إلى أنه يتقادم بذهاب الرائحة من فم الشارب عند أداء الشهادة، فلو شهدا بعد زوال رائحة الخمر من فيه لم يقبل ذلك لتقادمه، إلا أن يكون زوال ريحها من فيه بسبب بعد المسافة بينه حين الشرب وبين القاضي، ففي هذه الحال تقبل الشهادة بشرط أن يذكر الشهود أنهم أخذوه والريح منبعث من فيه.
مجمل دليل الشيخين أن حد الشرب ثبت بالإجماع، والإجماع الذي ثبت فيه هذا الحد هو في حال أخذ فيها الشارب وهو سكران، أو رائحة الخمرة تنبعث من فيه، فلا يزاد عليه.
هذا ولا بد من الإشارة هنا إلى أن القوانين الوضعية تساير المذهب الحنفي وتوافقه في مبدأ قبول الجريمة للسقوط بسبب التقادم من حيث الإدعاء بها وإثباتها، ومن حيث سقوط العقوبة من بعد إثباتها والحكم بها، فلا تقبل الدعوى العامة في الجرائم في القوانين الوضعية وهي ما يقابل (دعوى الحسبة) في الشريعة الإسلامية إذا مضت مدة معينة (بينتها القوانين) على انتهائها، وكذلك تسقط العقوبة إذا مضت مدة معينة بعد القضاء بها من غير تنفيذ.
إلا أن القوانين الوضعية تفترق عن المذهب الحنفي في ذلك في نقطتين هما:
أ - القوانين الوضعية تعتبر التقادم مسقطا للجريمة، سواء كانت اعتداء على حق المجتمع أو اعتداء على حق آحاد الناس، بخلاف المذهب الحنفي، فإنه يعتبر التقادم مسقطا لعقوبة الجرائم التي هي حق الله تعالى، أما حقوق العباد، فلا تسقط بالتقادم كما في القذف.
ب - عبارات علماء القانون تفيد بمجموعها أن التقادم يسقط الجريمة من أصلها ويعتبرها كأن لم تكن، أما علماء المذهب الحنفي فإن عباراتهم تفيد أن التقادم يسقط العقوبة فقط دون الجريمة، بدليل أنهم ينصون على أنه لو شهد أربعة على رجل بالزنا ثم تبين أن الزنا كان قديما، فإنه لا يحكم على الزاني بحد الزنا، ولكن لا يحكم على الشهود بحد القذف أيضا، وهذا دليل على عدم سقوط الجريمة، لأنها لو سقطت لكان المتهم محصنا يجب بقذفه الحد. هذا بالإضافة إلى تصريحهم بجواز تعزير المتهم إذا ردت شهادة الزنا عليه بالتقادم، وهذا دليل آخر على عدم براءته من الجريمة بالتقادم.