من حيث أثر العفو على إسقاط الجريمة:
يتفق الفقهاء على سقوط الدعوى الشخصية وسقوط العقوبة بها بعفو صاحب الحق، لأنها ما أقيمت إلا حفاظا على حقه، فإذا أسقطه لم يعد ثمة مكان للعقوبة، فتسقط، وسواء في ذلك أكان العفو قبل الحكم أم بعده.
أما دعاوى الحسبة، وهي الدعاوى التي تقام حفاظا على حق الله تعالى خالصا أو غالبا، فما كان منها خالصا لله تعالى كما في الزنا وشرب الخمر فلا يسقط بعفو أحد أنا كان، لا قبل الإثبات ولا بعده، لأنه لا حق لأحد من العباد فيها حتى يسقطه، وحق الله تعالى لا يستطيع أحد أن ينوب عنه في إسقاطه، حتى إن الحاكم لا يجوز له العفو عن العقوبة بعد ثبوتها، وهو ملزم بالتنفيذ، وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( تَعَافَوْا الْحُدُودَ قَبْلَ أَنْ تَأْتُونِي بِهِ فَمَا أَتَانِي مِنْ حَدٍّ فَقَدْ وَجَبَ) رواه النسائي.
وما كان منها حق الله فيه هو الغالب كما في السرقة والقذف، فمجمل آراء الفقهاء أنها تقبل السقوط من صاحب الحق الشخصي فيها قبل الترافع والإثبات والحكم، وهو المسروق منه والمقذوف، وذلك بالنسبة لحقه فقط، وأما حق الله تعالى فيبقى بعد الترافع، أما قبله فإنه يسقط، لا للعفو، ولكن لأن الخصومة شرط لإقامته، ولا خصومة مع العفو، وكذلك إذا سقط حق العبد بعد الترافع بالعفو انقلبت العقوبة من الحد إلى التعزير المتروك تقديره للقاضي، ينظر فيه بمنظار المصلحة العامة.
أما بعد الرفع إلى القاضي وإثبات الحق بطرق الإثبات التي يقبلها ذلك الحق، والحكم به وقبل تنفيذ العقوبة، فقد اختلف الفقهاء إلى مذهبين، فذهب الحنابلة وجماعة من الفقهاء إلى أنهما لا يسقطان بعد الحكم لغلبة حق الله فيهما، وذهب الشافعية إلى أن حد السرقة لا يسقط بالعفو بعد الحكم لغلبة حق الله فيه على حق العبد، أما حد القذف فيسقط بعد الحكم به بالعفو لغلبة حق العبد فيه عندهم كما تقدم، فيكون حاله حال القصاص، وهو يسقط بالعفو مطلقا باتفاق الفقهاء.
من ذلك ننتهي إلى أن العفو مقصور على حق العبد فقطأ أما حق الله تعالى فلا يسقط بعفو العبد بالاتفاق، ويثبت فيه بالتعزير من القاضي إذا سقط الحد.
أما الدعاوى في الجرائم التي يكون حق العبد فيها هو الغالب، فتقبل السقوط بالعفو من صاحب الحق مطلقا باتفاق الفقهاء، كالقصاص وغيره، والعفو فيها مقصور على حق العبد أيضا عند أكثر الفقهاء، أما حق الله فلا يسقط بالعفو، ويكون للقاضي التعزير به، وذهب بعض الفقهاء إلى أن حق الله فيها مغلوب فيسقط تبعا لسقوط حق العبد.
هذا مجمل ما تتميز به دعاوى الحسبة عن الدعاوى الشخصية، وهو كاف في نظري لتجلية معالم دعوى الحسبة وبيان أحكامها.
ولقد قال الكاساني رحمه الله في بيان ما هو حق الله وحق العباد من الجرائم، وأن ذلك كله لحماية المجتمع: (إن الحدود وجبت للمصالح العامة، وهي دفع فساد يرجع إليهم، ويقع حصول الصيانة لهم، فحد الزنا وجب لصيانة الأبضاع عن التعرض، وحد السرقة وقطع الطريق وجب لصيانة الأموال والأنفس، وحد الشرب وجب لصيانة الأنفس والأموال والأبضاع في الحقيقة بصيانة العقول عن الزوال والاستتار بالسكر، وكل جناية يرجع فسادها إلى العامة ومنفعة جزائها تعود إلى العامة يكون الجزاء الواجب فيها حق الله تعالى على الخلوص تأكيدا للنفع والدفع كيلا يسقط بإسقاط العبد، وهو معنى نسبة هذه الحقوق إلى الله تبارك وتعالى) البدائع 7/56.