الخاتمة
فيما تقدم عرض إجمالي لنظام الحسبة في الشريعة الإسلامية وأثره في الدعاوى الجنائية، وبيان كاف لمعنى دعوى الحسبة وأحكامها، اقتصرت فيه على النقاط الهامة دون خوض في التفصيلات والخلافات الفقهية وأدلتها، مراعاة للإيجاز المطلوب.
والآن أختم كلمتي هذه بالإشادة إلى ما وصلت إليه الشريعة الإسلامية من مستوى عال في المحافظة على مصلحة المجتمع في خلقه ومصالحه، ومن توخ لتأمين الفضيلة والحب والتعاون والعدالة في المجتمع، والمحافظة عليه نقيا نظيفا، إلى جانب المحافظة الكاملة على حرية الفرد في التصرف.
وأشير إلى أن الشريعة الإسلامية تمنع محاربة الجريمة بجريمة أشد منها أو مثلها، ولذلك فهي تمنع التجسس والتفتيش عما لم يعلن من المخالفات والمنكرات، كما تمنع محاربة جريمة تضر بفئة من الناس بجريمة تضر بفئة أخرى، فإن روح العدالة التي تسعى لتنميتها هذه الشريعة تحرِّم ذلك كله، ولذلك نرى أن هذه الشريعة السمحة ترسم لكل جريمة تمس المجتمع عقوبة هدفها تربية نفس المجرم من ناحية، وقطع دابر الإجرام من ناحية أخرى، حفاظا على سلامة المجتمع, وذلك بخلاف العقوبة على الجرائم التي تمس الحق الشخصي للأفراد، فإن هدفها التعويض على صاحب الحق أولا وآخرا، ولذلك لوحظت فيها المساواة بين الجريمة والعقوبة تحقيقا للعدالة، دون الجرائم الأولى، فإنه لم يشترط فيها المساواة بين الفعل والعقاب.
كما أود أن أشير أيضا إلى أن الشريعة الإسلامية هي التي ابتكرت نظام الحسبة وطبقته خير تطبيق في عصورها الذهبية، وبنت به مجتمعا فاضلا نظيفا من الجرائم، ولم تستورده من أي مجتمع أو أي نظام كما يدعي بعض من لا علم له بالفقه الإسلامي وتاريخه، من ذلك قول أحدهم في أحد مؤلفاته (وقد تطلعت الإمبراطورية الإسلامية حولها ونظرت إلى ما فعله من جاء قبلها، فأخذت من ذلك ما أخذت، وطورت هذه النظم حسب حاجتها وضمن إطار نظرتها وفلسفتها، ومن هذه النظم الحسبة والمحتسب).
ولا ضير علينا أن يكون هذا المدعي قد ارتقى منصبا علميا رفيعا فإن الحق بالدليل يعرف لا بالرجال.
وخير دليل على أصالة نظام الحسبة في هذه الشريعة الغراء أنها فريضة على كل مسلم بفرض القرآن نفسه وإن أكثر تفصيلاتها جاءت بها السنة المطهرة نصا كما تقدم ولا إخال أحدا في هذا العصر يدعي أن القرآن مستورد من ثقافات أخرى، أو أن السنة النبوية المطهرة حصيلة تأثرات بالثقافات والنظم السابقة.
وليس معنى كلامي هذا أن المجتمعات القديمة السابقة على الإسلام لم تعرف نظاما شبيها لنظام الحسبة قط .. بل معناه أن نظام الحسبة في الفقه الإسلامي نظام أصيل في جذوره وكل تشعباته، وليس إرثا من حضارات سابقة عليه.
كما أبين أن نظام الحسبة هذا قد بلغ الشأو في التنظيم والدقة والمحافظة على العدالة والنظام والحرية، وأن أمة ما من الأمم لم تصل إلى ما وصل إليه الإسلام في ذلك، حتى في العصور الحاضرة، لم تصل دولة في العالم إلى معرفة نظام الحسبة بهذا الاتساع الشمول، إلا منذ قرن واحد من الزمن، ومع ذلك فقد عرفوه أضيق بكثير مما قرره الإسلام، فهو في أوسع القوانين المتقدمة المعاصرة مقصور على جرائم محدودة، تتركز في إطار الجرائم السياسية غالبا، وهو مقصور أيضا على إخبار السلطة تقريبا، دون مباشرة التغيير باليد واللسان كما عرفه الإسلام.
هذا بالإضافة إلى أن الإسلام جعل الحسبة بكل تفصيلاتها فرضا لازما لا حقا جائزا فقط، وهو ما لم تصل إليه أمة في الدنيا حتى اليوم، ولا غرو في ذلك فالإسلام شريعة الله خالق البشر، العالم بخفايا النفوس ودقائقها، المنظم والمربي لها في كل شؤون حياتها.
هذا ما استطعت جمعه والوصول إليه مما يتعلق بدعاوى الحسبة في المسائل الجنائية، فإن كنت أحسنت فبتوفيق الله تعالى، وإن كنت قصرت أو أخطأت فمني، وذلك لعجزي وضعفي وحسبي أني بذلت الجهد، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
والله تعالى أعلم.