الحقوق المتعلقة بالتركة
إذا مات الإنسان تعلق بتركته ـ بحسب التعريف السابق لها ـ حقوق متعددة متفاوتة في الدرجة، فإذا اتسعت التركة لكل تلك الحقوق، أخرجت منها جميعاً، وإذا ضاقت عنها، كان لا بد من تقديم بعضها على بعض بحسب الأولوية، وقد اتفق الفقهاء على ترتيب لهذه الحقوق، إلا جزئيات صغيرة اختلفوا فيها، وذلك حسب الترتيب الآتي:
1 ـ قضاء الديون المتعلقة بأعيان من التركة([1]):
إذا كان في التركة ديون متعلقة بأعيان التركة أو ببعض أعيانها، كما إذا كان بعض التركة مرهوناً، أو محتجزاً بثمنه، أو محتجزاً بأجرته لدى الأجير الذي لعمله أثر فيه... فتستخرج هذه الحقوق من التركة ـ في حدود قيمة العين التي تعلق الحق بها ـ أولاً، ولم يقدم عليها شيء من الحقوق الأخرى، هذا ما ذهب إليه جمهور الفقهاء، وذهب الحنبلية والحنفية في قول ضعيف، إلى أن سداد الديون مطلقاً، سواء أكانت شخصية أم متعلقة بأعيان من التركة، يكون بعد التجهيز والتكفين، لا قبله.
استدل الجمهور بأن الديون المتعلقة بأعيان من التركة متعلقة بها قبل الوفاة، والتجهيز والتكفين يتعلق بالتركة بالوفاة، فكان تعلقه بالتركة بعد تعلق الديون الأولى بها، فكان بعدها في الاستيفاء، على خلاف الديون العادية، فإنها متعلقة بذمة المدين لا بماله، ولا تنتقل إلى المال إلا بالوفاة، فلا تكون بذلك مقدمة على التجهيز والتكفين، على خلاف الديون المتعلقة بأعيان من التركة.
واستدل الحنبلية لمذهبهم، بأن التجهيز والتكفين حاجات ضرورية بشخصه، وهي مقدمة على الديون في الحياة، فكذلك بعد الموت.
وقد ذهب قانون الأحوال الشخصية السوري مذهب الحنبلية، فنص في المادة (262) منه على تأخير الديون مطلقاً عن التجهيز والتكفين. وكذلك قانون الإرث المصري فقد نص على ذلك في المادة الرابعة منه.
2 ـ تجهيز الميت وتكفينه([2]):
يلي إخراج الديون العينية في الاستحقاق، تجهيز الميت وتكفينه، وهما مقدمان على سائر الديون الأخرى لدى جماهير الفقهاء، لم يخالف في ذلك إلا الظاهرية، ودليل الجماهير هنا، أن التجهيز والتكفين حاجة ضرورية للميت، فتقدم على سائر ديونه العادية، كما تقدم حاجاته الضرورية على ديونه في حياته، وهي مخالفة للديون العينية، ذلك أن الديون العينية تعلقت بعين المال قبل الوفاة التي بها تعلق حق التجهيز والتكفين، أما الديون العادية فلا تتعلق بالمال إلا بالوفاة، فلا تكون مقدمة على التجهيز بخلافها، ولما كان التجهيز والتكفين أضر منها كان مقدماً عليها.
هذا والتجهيز والتكفين المقصودان هنا، هما المعتادان في حدود السنة، وهما مختلفان باختلاف حال الميت في حياته، يساراً وإعساراً من حيث القيمة، وذهب بعض الحنفية، إلى أن التركة إذا استغرقت بالدين، وطلب الغرماء التضييق في التجهيز والتكفين، يجابون إلى طلبهم، وينزل به إلى كفن الضرورة، وهو ثوبان للرجل، وثلاثة أثواب للمرأة.
ويشمل التجهيز والتكفين هنا قيمة الأكفان، وأجرة الحفر، وأجرة التغسيل وأجرة الحمل إلى المقبرة... وما يلحق بذلك في العرف، بما لا يخرج عن نطاق السنة، ومحله كتب العبادات.
وقد ذهب جمهور الفقهاء، إلى أنه كما يقدم تجهيز الميت وتكفينه على ديونه العادية، يقدم عليها أيضاً ما يلزمه من تجهيز غيره وتكفينه إذا مات قبله، وهو من تجب عليه نفقته في حياته، كزوجته، وخادمه. وذهب الحنبلية إلى أن المقدم على الديون عامة هو تجهيزه هو وحده، أما من يلزمه تجهيزه إذا مات قبله، فلا يخرج من تركته إلا بعد إخراج الديون العينية، وقد نص المالكية على أن الذي يلزم الميت من تجهيز غيره، هو ما ثبت عليه بغير القرابة، أما تجهيز الأقرباء فلا يلزمه.
وقد نص قانون الأحوال الشخصية السوري في المادة (262) على تقديم التجهيز والتكفين على الديون مطلقاً، وهو مذهب الحنبلية كما تقدم، أما قانون الإرث المصري فقد نص في المادة (4) منه على تقديم التجهيز والتكفين، وكذلك تجهيز وتكفين من تلزمه نفقته من الموت إلى الدفن. على خلاف القانون السوري وهو تجاوز لمذهب الحنبلية الذي اعتمد عليه في ذلك، نعم أن الجمهور يذهبون إلى وجوب تجهيز من تلزمه نفقته، لكنهم يؤخرون التجهيز أصلاً عن سداد الديون العينية، على خلاف القانون المصري.
3 ـ قضاء الديون العادية([3]):
الديون العادية هي الديون المتعلقة بذمة المدين، دون أن يكون لها أي تعلق بعين المال، كالقرض، وهي مقدمة بالجملة لدى جميع الفقهاء على ما عداها من الحقوق، سوى الديون العينية والتجهيز والتكفين، كما تقدم، إلا أن للديون أنواعاً مختلفة، للفقهاء فيها تفصيل، فهي إما أن تكون للعباد كالقرض، وإما أن تكون لله تعالى كدين الزكاة، ونفقة الحج الواجب، والنذور، والكفارات، وفدية الصلاة المتروكة، والصيام الفائت...
فأما ديون العباد، فواجبة الوفاء بعد التجهيز باتفاق الفقهاء، سواء أوصى بها المدين أم لا ما دامت ثابتة.
أما ديون الله تعالى، فقد ذهب الحنفية إلى أنها لا تلزم الورثة، ولا يجب إخراجها من التركة، إلا إذا أوصى بها المتوفى، فإنها تخرج حينئذ من ثلث التركة على أنها وصية، وذهب الجمهور إلى أنها ديون يجب وفاؤها من كل التركة كديون العباد تماماً، أوصى بها أم لم يوص على السواء، بل إنها مقدمة على ديون العباد في الإخراج عند الشافعية.
وذهب المالكية، إلى أن ديون الله يجب إخراجها كديون العباد، إلا أن المتوفى إن أشهد عليها في حياته أخرجت من كل التركة، فإن لم يشهد عليها أخرجت من الثلث فقط، وهي على أي حال مؤخرة عندهم عن ديون العباد.
وقد قسم الحنفية ديون العباد إلى قسمين مرتبين في الإخراج، فالقسم الأول هو ديون الصحة، وهي الديون الثابتة بغير إقرار الميت، أو بإقراره في حال صحته، سواء أثبتت عليه في صحته أم مرضه.
والقسم الثاني هو ديون المرض، وهي الديون الثابتة بإقراره في مرضه لا غير، فيقدم في الإخراج دين الصحة أولاً، ثم دين المرض لتهمة المحاباة فيه، فإذا ضاقت التركة عنهما، قضي دين الصحة دون دين المرض، هذا ويدخل الحنفية في دين الصحة الدين الثابت بإقرار المريض إذا كان له سبب معروف، كقيمة دواء، أو طعام، أو أجرة مسكن، احتاجها في مرضه..
أما جمهور الفقهاء، فيسوون بين ديون الصحة وديون المرض، ولا يفرقون بينهما في حق الإخراج من التركة.
وقد ذهب قانون الأحوال الشخصية السوري في المادة (262) إلى وجوب وفاء الديون بعد التجهيز والتكفين دون تفصيل. أفيرجع في تفصيل ذلك إلى الراجح من المذهب الحنفي، أم يرجع فيه إلى القانون المدني السوري؟ الثاني هو الذي عليه شرّاح القوانين، لأن الديون أمور مالية، والمرجع فيها إلى القانون المدني، هذا فيما يتعلق بديون العباد، أما ديون الله تعالى فلا تدخل في الديون هنا أصلاً؛ لعدم تعرض القانون المدني لها، ولعدم اعتداد الحنفية بها أيضاً، هذا إذا لم يوص المتوفى بها، فإذا أوصى بها، فهي وصية، وسوف يأتي بيان وجوبها بعد الديون.
هذا وقد فرق القانون المدني بين نوعين من الديون، ديون ممتازة وديون عادية، وجعل إخراج الأولى مقدماً على إخراج الثانية، على وفق ما صنع الحنفية في ديون الصحة وديون المرض، هذا ومن الديون الممتازة في القانون مهر المرأة، وقد نص قانون الأحوال الشخصية السوري في المادة (54) منه على ذلك: (يعتبر مهر المرأة ديناً ممتازاً يأتي في الترتيب بعد دين النفقة المستحقة المشار إليه في المادة (1120) من القانون المدني).
4 ـ إنفاذ الوصايا:
بعد سداد ديون العباد، بجميع أنواعها، تنفذ الوصايا الصحيحة، فإذا ترك الميت وصية صحيحة أُنفذت من التركة بعد سداد الديون، سواء أكانت لإنسان معين أم للفقراء والمساكين، وسواء أكانت تبرعاً منه، أم وفاء لواجب ديني عليه، كدين الزكاة والكفارات.. وهذا مذهب الحنفية، وذهب الجمهور ـ كما تقدمت الإشارة إليه ـ إلى أن وفاء الواجبات الدينية دين كسائر الديون، يخرج من التركة قبل الوصايا وإن لم يوص بها، ما دامت ثابتة.
هذا والوصية بجميع أنواعها حدودها القصوى ثلث التركة، فلا تنفذ من أكثر من ذلك، وقد تقدم هذا في شروط الوصية فإذا جاوزت الوصايا ثلث التركة، أُنفذ منها ما خرج من الثلث، وتوقف الباقي على إذن الورثة الكبار العاقلين إن أجازوه نفذ وإلا بطل، ويقدم في الثلث بعض الوصايا على بعض، وقد تقدم ذلك في باب تزاحم الوصايا.
وقد وافق قانون الأحوال الشخصية السوري مذاهب الفقهاء في ذلك ونص عليه في المادة (262) منه، إلا أنه قدم في الوصايا ما يسميه (الوصية الواجبة) على سائر الوصايا الأخرى، مهما كان نوعها، وقد أشرنا إليه في باب تزاحم الوصايا أيضاً، كما فعل قانون الإرث المصري ذلك في المادة (4) منه، وفي المادة (78) من قانون الوصية فيما يتعلق بتقديم الوصية الواجبة على سائر الوصايا الأخرى، وكذلك القانون الأردني في المادة (182) منه.
5 ـ المواريث:
بعد إنفاذ الوصايا في الحدود المتقدمة، إذا بقي من التركة شيء فهو للورثة، بحسب أولوياتهم، وفروضهم التي بيّنها القرآن والسنّة، وقعّدها ونسّقها الفقهاء، وسوف يأتي تفصيلها.
وقد نص قانون الأحوال الشخصية السوري على ذلك في المادة (262) منه وكذلك قانون الإرث المصري في المادة (4) منه.
6 ـ استحقاق من أقر له المتوفى بنسب على غيره لم يثبت:
إذا لم يكن للمتوفى وارث بفرض أو تعصيب أو رحم، دفع المال لمن أقرّ له بنسب على الغير لم يثبت، إن وجد، على أنه أولى به من غيره، لوجود النسب بالجملة، كمن أقرّ لآخر بأنه أخوه، فنفى الأب ذلك، ثم مات المقرّ، ولم يكن له وارث، دفع المال إلى الأخ المقرّ له، ولو لم يثبت نسبه بهذا الإقرار. فإذا ثبت النسب هنا بالإقرار لموافقة الأب، أو لأن النسب مباشر وليس فيه تحميل على الغير، ورث المقرّ له بنسبه ضمن الورثة، ولم يؤخر عنهم.
وقد نص على ذلك قانون الأحوال الشخصية السوري، في الفقرة (2) من المادة (262) ونصها:
"آ ـ استحقاق من أقر له الميت بنسب على غيره"
إلا أنه لم يقيد ذلك بعدم ثبوت النسب، وإن كان أراده ضمناً، وكان الواجب تقييده، والنص عليه، لإزالة اللبث، كما فعل قدري باشا في الفقرة (8) من المادة (584) من كتابه الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية، وقد وافق القانون السوري في ذلك القانون المصري، حيث نص على ذلك في المادة (4) منه.
7 ـ الموصى له بما زاد عن ثلث المال:
إذا لم يكن للمتوفى وارث، ولا مقرّ له بنسب على الغير لم يثبت، وكان هنالك موصى له بما زاد عن ثلث التركة، نفذت الوصية كلها له، لعدم وجود مستحقّ من الورثة، لأن ما زاد عن الثلث من الوصية يعتبر صحيحاً موقوفاً على إجازة الورثة، توفيراً لحقّهم، فلما لم يكن هنالك وارث ما، نفذت الوصية لعدم المعارض، هذا فيما زاد عن الثلث، أما ما هو ضمن الثلث فهو نافذ مطلقاً، وُجد وارث أم لا، ما دامت الوصية صحيحة مستوفية لشروطها.
وقد نص على ذلك قانون الأحوال الشخصية السوري في الفقرة (2) من المادة (262)، وهو موافق لنص الفقرة (ثانياً) من المادة (4) من قانون الإرث المصري.
8 ـ بيت المال:
إذا لم يكن في التركة وارث ولا مقرٌّ له بنسب على الغير لم يثبت، ولا موصى له بما زاد عن الثلث، وضعت التركة في بيت المال (الخزانة العامة) على أنها مال لا مالك له، كاللقطة، لا على أنه وارث لمن لا وارث له.
وقد نص على ذلك قانون الأحوال الشخصية السوري في الفقرة (3) من المادة /262/ وكذلك القانون المصري في الفقرة (ثانياً) من المادة (4).