التكييف الفقهي للخِطبة
وحكم العدول عنها
وأثر ذلك في المهر والهدايا والتعويض عن الأضرار
التكييف الفقهي للخِطبة:
ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الخطبة وعد بالزواج وليست عقداً مستقلاً بنفسه، ولهذا فلا إلزام فيها قضاء، لأن الوعود كذلك عند الجمهور، وأما ديانة فهي ملزمة ما لم يطرأ عليها ما يغير قناعة الخطيبين ببعضهما، أو يجعلهما غير صالحين للزواج، فعندها ينتفي اللزوم عنها ديانة أيضا، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ ثُمَّ رَأَى خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيرْ) رواه مسلمٌ. هذا في الوعد المؤكد اليمين، فكيف بالوعد بغير يمين، فإنه مثله على الأقل، إلا أنه لا كفارة فيه، لأن الكفارة خاصة باليمين، وعلى هذا، فإن لكل من الخاطب والخطيبة أن يعدلا عنها قضاء في أي وقت، لسبب ولغير سبب، سواء وافق على ذلك الطرف الثاني للخطبة أم لا.
وذهب ابن شبرمة إلى أن الخِطبة عقد لازم، وعلى هذا فليس لأحد الخطيبين أن يفسخ الخطوبة بإرادته المنفردة ما لم يوافقه الطرف الآخر على ذلك، فإذا وافق جاز، وإذا لم يوافق لزم إتمام الزواج، إلا أن يحدث بعد الخطبة ما يجعل العقد مستحيلاً، كالموت، أو طرو سبب من أسباب التحريم، كالرضاع أو المصاهرة، وذلك استدلالاً بقوله تعالى: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً) (الإسراء:34).
إلا أن مذهب الجمهور عندي هو الأقوى، لأسباب، منها:
1- جعل الخطبة عقداً لازماً يخرجها عن طبيعتها، فهي فترة ترو وتعرف، فإذا كانت ملزمة لم تكن كذلك.
2- عقد الزواج من العقود الرضائية التي لا تتم إلا بالرضا التام من الزوجين، حقيقة إن كانا بالغين، أو حكماً إن كانا قاصرين، وذلك بموافقة ورضا ولييها، فإذا جعلنا الخطبة عقداً لازماً يجب الزواج بعده، كان الزواج هذا زواجاً بالإكراه لا بالرضا، وهو ممنوع.
أثر العدول عن الخطبة على المهر:
قد تستمر الخطوبة فترة طويلة قبل أن تنتهي بعقد الزواج، وربما سلَّم الخاطب إلى خطيبته المهر أو بعضه في خلال ذلك، ثم طرأ ما حدا بالخاطب أو الخطيبة إلى العدول عن الخطبة، فما أثر هذا العدول على ما سلمه الخاطب من المهر؟
اتفق الفقهاء على أنه ليس للخطيبة مطالبة الخاطب بشيء من المهر قبل عقد الزواج، سواء كانا على خطبتهما أو عدلا عنها باتفاقهما، أو كان العدول من الخاطب وحده، أو من الخطيبة وحدها، وذلك لأن المهر لا يُستحق للمرأة إلا بالعقد، فما لم يتم العقد فلا حق للمرأة في المهر أصلاً.
ولكن إن سلَّم الخاطب المهر أو جزءا منه للخطيبة، فهل له أن يسترد ما سلمه إليها بعد ذلك مع استمرار الخِطبة وبعد فسخها؟
لا خلاف بين الفقهاء في أن للخاطب استرداد ما سلمه للخطيبة من المهر مع استمرار الخطبة وبعد فسخها على سواء، لأن المهر ملكه، ولا ينتقل إلى المرأة إلا بعقد الزواج، فما دام العقد لم يتم فهو ملكه وله استرداده، ولا يختلف الحال بعد فسخ الخطبة عنه قبل فسخها، فإن كان قائماً على حاله استرده كما سلمه، وإن هلك أو استهلك أو ضاع أو سرق أو باعته استرد مثله إن كان مثلياً، وقيمته يوم سلمه لها إن كان قيمياً.
إلا أن الخطيبة إذا اشترت به أشياء خاصة بها، ثم طلبه الخاطب، فهل لها أن تسلمه ما اشترته به، أو أن عليها أن تسلمه المهر الذي قبضته عيناً، ومثله أو قيمته إن هلك.
لم أر من الفقهاء من بحث في هذا الموضوع بتفصيل، وربما كان إغفالهم له بسبب أن عادة القوم كانت أن لا يتصرفوا بالمهر إلا بعد العقد، إلا أن القواعد العامة تقضي بوجوب رده عيناً إذا طلبه الخاطب، سواء كان ذلك في أثناء الخطبة أو بعد فسخها، وسواء كان فسخ الخطبة من جهته أو من جهتها، لأن المهر حقه، فيكون له استرداده في أي حال، وليس لها التصرف فيه إلا بأمره، لعدم تعلق حقها فيه قبل العقد.
إلا أن الخاطب إذا سلم المهر أو بعضاً منه للخطيبة وأذن لها بالتصرف فيه صراحة أو دلالة، كشراء الجهاز وما إليه على نحو معين، فتصرفت فيه على نحو ما أذن لها الخاطب، ثم طلب رده إليه في أثناء الخطبة أو بعد فسخها، فإنه ينبغي أن يكون للخطيبة أن ترد إليه ما اشترته به من الجهاز ونحوه، مادام ذلك في حدود إذنه، لأنها وكيلة عنه في ذلك، وتصرفات الوكيل لازمة للموكل، بل إن هذا واجب عليها وليس حقاً فقط، وإنه ليس لها الاحتفاظ بالمشتريات ودفع المهر عيناً، لأن المشتريات ملك الخاطب، لأنها بماله ووكالته، إلا أن تكون اشترتها لنفسها من مالها، فإنها تكون لها وترد له مهره عيناً، فإذا تجاوزت الخطيبة إذن الخاطب في أثناء الشراء بالمهر، كان الخاطب مخيرا بين استرداد المهر عيناً، أو أخذ المشتريات، لأن شراءها موقوف على إجازته، فإن أجازه نفذ عليه، وإلا نفذ عليها هي، ويستوي في هذا عندي أن يكون ذلك في أثناء الخطبة أو بعد فسخها، باتفاقهما، أو من جهة الخاطب وحده، أو من جهة الخطيبة وحدها، لعدم الفارق في ذلك كله، فإذا سلمها المهر أو بعضاً منه دون أن يأذن لها بالتصرف فيه لا صراحة ولا دلالة، فتصرفت فيه بشراء جهاز وما إليه، فإن كانت اشترت به ما لم تجر العادة على شرائه، كدار أو غيرها، لزمها ما اشترته، وردت إلى الخاطب مهره عيناً، لعدم الإذن بالتصرف، وإن اشترت به ما جرت عادة الناس على شرائه بالمهر كالجهاز، فالأقوى عندي أن يكون ما اشترته للخاطب، تدفعه إليه عند طلب المهر، ولا تجبر على دفع المهر عينا، وذلك إقامة للعرف مقام الإذن، للقاعدة الفقهية الكلية: (المعروف عرفاً كالمشروط شرطا)[1]، هذا إذا لم يمنعها من التصرف فيه بنص صريح، وإلا منعت من ذلك للنص، لأن النص أقوى من العرف، للقاعدة الفقهية الكلية: (لا عبرة للدلالة في مقابلة التصريح) [2].
هذا وقد ذهب قانون الأحوال الشخصية السوري في المادة الرابعة منه مذهباً مشابهاً لذلك، إلا أنه خالفه في بعض الجزئيات الأخيرة، حيث نص على أن فسخ الخطوبة إذا كان من جهة الخاطب خيرت الخطيبة بين رد المشتريات ورد عين المهر المقبوض، وإن كان من جهة الخطيبة ردت عين المهر وجوباً، وهو اتجاه وجيه أيضاً، حيث عد الخطيبة مفوضة من الخاطب ضمناً بالشراء بالمهر بشرط إتمام الخطوبة، فإذا لم تتمها وفسختها هي لغا التفويض، فكان الشراء لها، أما إذا فسخها الخاطب فالتفويض صحيح والمشتريات له.
إلا أنني أرى أن الاتجاه الذي أشرت إليه أولا هو الأقوى، وأن اتجاه القانون فيه بعض الضعف، ذلك أننا إذا عددنا الخطيبة مفوضة من الخاطب بالتصرف بما قبضته من مهر، ترتب علينا عد المشتريات للخاطب، فإذا عدل كان الواجب عليها تسليم المشتريات إليه عند طلب المهر، وليس الخيار بين تسليم المشتريات أو المهر عيناً، إلا أن يرضى الخاطب بعين المهر.
وكذلك إذا عدلت الخطيبة، فإنه ينبغي أن يخير الخاطب بين أخذ المشتريات أو المهر عيناً، لأنها اشترتها بتفويضه الضمني مع الإخلال بشرط هذا التفويض، فيكون الشراء موقوفاً على إجازته، فإن أجازه نفذ ووجب تسليمه إليه، وإلا بطل، فكان لها واسترد مهره عيناً، إلا أن القانون لم يقل بذلك.
وهذا كله إذا كان المشترى بالمهر جهازاً معتاداً، فإذا اشترت به عقاراً مثلاً، وكان ذلك غير معتاد، لم ينفذ الشراء على الخاطب، ويكون له استرداد عين المهر حتماً بالاتفاق، إلا أن يكون قد فوضها بذلك، فيكون العقار له.
أثر العدول عن الخطبة على الهدايا:
كثيراً ما يتبادل الخطيبان الهدايا بينهما أثناء الخطبة، وربما كانت أكثر الهدايا من قبل الخاطب لخطيبته، وهذه الهدايا تختلف أحوالها وقيمتها وأنواعها وطريقة إهدائها باختلاف الأعراف والأزمنة وحال الخطيبين، فإذا عدل الخطيبان أو أحدهما عن الخطبة، فما هو مصير هذه الهدايا بعد العدول، أيكون للمهدي في هذه الحال أن يعود في الهدايا، أم تكون الهدايا ملكا للمهدى إليه، ولا رجوع للمهدي فيها مطلقاً؟
اتفق الفقهاء على أن للهدايا بين الزوجين حكم الهبة، إلا أن بعض الفقهاء عدها هبة مشروطة بإتمام الزواج حكماً، فأمضى عليها حكم الهبة المشروطة، ولم يعتد فقهاء آخرون بهذا الشرط الضمني، فعدوها هبة مطلقة، وأطلقوا عليها حكم الهبة المطلقة، وتفصيل ذلك في الآتي:
1) ذهب الحنفية[3] إلى أن الهدايا بين الزوجين هبة مطلقة، وحكم الهبة المطلقة عندهم بعد قبضها جواز استردادها قضاء، إلا لمانع، وإن كره ذلك ديانة، لما رواه ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَقِيءُ ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ) رواه البخاري.
وموانع الرجوع في الهبة عند الحنفية سبعة هي:
1- زيادة عين الموهوب زيادة متصلة به: كالشاة إذا سمنت، والقماش إذا خيط ثوباً، فإن هذه الزيادة تمنع الرجوع بالهبة، سواء كانت متولدة من الأصل، أو لا، شرط أن تكون زيادة معتبرة، فإن كانت قليلة، فلا حكم لها، ولم تمنع الرجوع في الهبة، ومرد تقدير ذلك إلى القضاء.
2- موت الخاطب أو المخطوبة: لأن موت الواهب أو الموهوب يمنع الرجوع في الهبة عندهم.
3- قبض الواهب من الموهوب له عوضاً عن الهبة: فإذا أهدى الخاطب خطيبته شيئاً ثم قبل منها عوضاً عنها، سقط حقه في الرجوع عليها بما وهبها، وكذلك الخطيبة إذا أهدت خطيبها شيئاً ثم قبلت منه بدلاً عنه، لأن العقد أصبح معاوضة لا هبة، والمعاوضات عقود لازمة على خلاف الهبات، هذا إذا قبض الواهب العوض مع النص على أنه عوض هبة، فإذا قبضه على أنه هبة مبتدأ لا عوض عن هبة سابقة، كان هبة مطلقة، وجاز الرجوع فيه.
4- خروج الموهوب عن ملك الموهوب له بأي طريق كان: كأن باعها أو وهبها لغيره، فإن ذلك يمنع الواهب من الرجوع فيها، لتعلق حق غيره بها.
5- القرابة: وهي هنا القرابة مع المَحرمِيَّة، فلو كان الواهب قريباً محرماً من الموهوب له امتنع عليه الرجوع في الهبة له، خشية قطع الأرحام، فإذا كان محرماً غير قريب، كالأخ رضاعاً، أو قريباً غير محرم، كابن العم، لم يمتنع الرجوع في الهبة، وغني عن البيان أن هذا الشرط لا يتأتى بين الخطيبين، لبطلان خطبة المحارم.
6- الزوجية: وهي هنا العقد الصحيح، وذلك درءاً للقطيعة بين الزوجين، وهذا الشرط غير متأت هنا أيضاً، لأن العدول المفروض بين الخطيبين قد تم قبل العقد لا بعده، وإلا كانا زوجين لا خطيبين.
7- الهلاك: وهو هلاك عين الموهوب، وسواء في ذلك أن يهلك بصنع الموهوب له، كأن يكون طعاماً فيأكله أو ثوباً فيلبسه. ... أو بغير صنعه، كأن يكون سواراً فيسرق منه، أو يضيع، فإنه لا رجوع فيه ولا في قيمته أو مثله.
هذا إذا كان الهلاك كليا، فإذا كان جزئياً، بأن هلك البعض دون البعض، سقط الرجوع في الهالك وبقي في الجزء القائم.
وذهب الشافعية، إلى أن أحد الخطيبين إذا أهدى الآخر شيئاً ونوى فيه الهدية المطلقة وعدم الرجوع فيها، لم يرجع من ذلك بشيء بعد العدول، وإن نوى به الهبة المشروطة بإتمام الزواج، فإن كان العدول عن الخطبة من جهة المهدي، فلا رجوع له أيضاً، لأنه لم يحصل من الطرف الثاني ما يمنع تمام الخطوبة والزواج، وإن كان الرجوع من قبل المهدى إليه، عد هذا إخلالاً بالشرط المنوي، فكان للمهدي الرجوع بالهدية إن كانت قائمة، وبمثلها أو قيمتها إن هلكت أو استهلكت.
هذا والمدار على إثبات نية المُهدي قوله، لأنه لا يعرف إلا من جهته.
3) أما المالكية[4] ففي أصل المذهب عندهم لا يرجع الواهب من الخطيبين في الهبة، سواء كان العدول عن الخطبة من جهته أو من جهة الطرف الثاني، وسواء أكان الموهوب قائماً أو هالكاً، إلا أن في المذهب المالكي قولاً آخر كمذهب الشافعية، يرى التفريق بين ما إذا كان الرجوع عن الخطبة من جهة الواهب أو الموهوب له، فإن كان الرجوع عن الخطبة من جهة الواهب لم يكن له الرجوع بما وهب مطلقا، وإن كان الرجوع من الموهوب له كان للواهب الرجوع في الهبة إن كانت قائمة وبقيمتها أو مثلها إن كانت هالكة أو مستهلكة، لأنها هبة مشروطة ضمناً بإتمام الخطبة، وهذا ما لم يكن هناك عرف أو شرط مخالف لذلك، فإن كان، كان الحكم للعرف والشرط، وهذا هو أعدل الآراء في نظري، وقد أخذ بنحو منه مشروع القانون العربي الموحد للأحوال الشخصية، ونص عليه في المادة (3) منه، ونصها:
المادة (3) : أ- لكل من الخاطبين العدول عن الخطبة.
ب- يرد من عدل عن الخطبة هدية الآخر بعينها إن كانت قائمة، وإلا فمثلها أو قيمتها يوم القبض، ما لم يكن هناك عرف يقضي بغير ذلك.
ج- إذا انتهت الخطبة بالوفاة أو بعارض حال دون الزواج، فلا يسترد شيء من الهدايا.
4) وذهب الحنبلية، إلى أن للمهدي من الخاطبين الرجوع في هديته بعد فسخ الخطوبة إن كان فسخها من قبل المهدى إليه، فإن كانت قائمة رجع بعينها، وإن هلكت أو استهلكت رجع بقيمتها أو مثلها، فإن كان العدول عن الخطبة من المهدي، فلا رجوع له في الهبة مطلقا، وهو قريب من مذهب الشافعية.
وقد نص قانون الأحوال الشخصية السوري في الفقرة الثالثة من المادة /4/ منه على أنه تجري على الهدايا أحكام الهبة، وهو يريد أحكام الهبة في القانون المدني السوري، كما نص عليه فيه في المواد (468 – 472 ) منه، وهو قريب جداً من مذهب الحنفية.
وعلى كل فإن دعاوى الهبة في التشريع السوري سواء كانت بين الخطيبين أو غيرهما تعود إلى القضاء المدني لا القضاء الشرعي، على خلاف المهر، فإن البت في دعاواه يعود إلى القضاء الشرعي.
وقد فصل القانون الكويتي للأحوال الشخصية القول في هذا الموضوع في المواد(4-7) منه وهذا نصها:
المادة 4-
أ- إذا عدل أحد الطرفين عن الخطبة فللخاطب أن يسترد المهر الذي أداه أو قيمته يوم قبضه إن تعذر رد عينه.
ب- يعتبر من المهر الهدايا التي جرى العرف باعتبارها منه.
ج – إذا اشترت المخطوبة بمقدار مهرها أو بعضه جهازا، ثم عدل الخاطب فلها الخيار بين إعادة المهر أو تسليم ما يساويه كلا أو بعضا من الجهاز وقت الشراء.
المادة 5-
إذا عدل أحد الطرفين عن الخطبة وليس ثمة شروط أو عرف:
فإن كان عدوله بغير مقتض لم يسترد شيئا مما أهداه إلى الآخر.
وإن كان العدول بمقتض استرد ما أهداه إن كان قائما أو قيمته يوم القبض إن كان هالكا أو مستهلكا.
المادة 6-
أ- إذا انتهت الخطبة بعدول الطرفين، فإن كان بسبب من أحدهما اعتبر عدول الآخر بمقتض وطبقت الفقرة ب من المادة السابقة، وإلا استرد كل منهما ما أهداه إن كان قائما.
ب- وإذا انتهت بالوفاة أو بعارض حال دون الزواج لم يسترد شيء من الهدايا.
المادة 7-
في جميع الأحوال لا ترد الهدايا التي لا بقاء لها.
حكم الاختلاف في المهر والهدايا:
إذا اختلف الخطيبان بعد فسخ الخطوبة فيما قدمه أحدهما للآخر، أهو هدية أو مهر، فإن كان المقدم هو الخطيبة فهو هدية حتماً، لأنه ليس على الخطيبة مهر، وإن كان المقدِّم هو الخاطب، فأي الخطيبين أقام البينة على دعواه حكم له بها، وإن أقاما البينة، قدمت بينة الخطيبة، لأن دعواها على خلاف الظاهر، وإن عجزا عن البينة، كان الحكم له بيمينه، لأنه يتمسك بالظاهر، وهذا ما لم يكن هناك عرف مستقر، فإن كان هناك عرف مستقر حكم بموجبه مع اليمين عند العجز عن البينة[5].
أثر العدول عن الخطبة على التعويض عن الأضرار:
كثيراً ما تفسخ الخطوبة ولا يلحق نتيجة هذا الفسخ ضرر ما بأي من الخطيبين، لا مادياً ولا معنوياً، إلا أنه في بعض الحالات تلحق الخطيبين أو أحدهما بعض الأضرار المالية أو المعنوية، كما إذا امتدت الخطوبة سنوات تقدمت السن فيها بالخطيبين وقلت الرغبة فيهما ثم فسخت الخطوبة، فربما فات الخطيبين هنا أو أحدهما فرص كثيرة للارتباط بخطبة أخرى، وكان سببها الخطبة الأولى، وربما جهز الخاطب منزل الزوجية وأنفق عليه الكثير من المال، وعندما فسخت الخطوبة أصابه بسبب ذلك ضرر مالي، وربما أعدت الخطيبة ثيابها، وعندما فسخت الخطوبة أصابها بسبب ذلك ضرر مالي أيضاًً.....
فما هو حكم هذه الأضرار، أتلزم صاحبها، ولا يستحق قِبلَ ذلك أي تعويض من الطرف الآخر عليها، أم يستحق عليها تعويضاً؟
لم يتعرض فقهاء السلف إلى هذا الموضوع، وعزا هذا الصمت أكثر المُحدثين من الفقهاء إلى ما كان يلتزم به الخاطبان من العادات والأخلاق الإسلامية، مما يمتنع معه حدوث أي ضرر عليهما بعد فسخ الخطوبة.
وإنني مع تفهمي لهذا التعليل والتبرير، أرى أن هذا الالتزام ليس كافياً لنفي وقوع أي ضرر على الخطيبين بعد فسخ الخطوبة، فهو ينفي احتمال الأضرار المعنوية لا غير، أما الأضرار المادية فلا يمكن أن ينفيها بحال، وكانت موجودة بيقين، فأي خلق إسلامي يحول بين الخاطب وبين إعداده لمنزل الزوجية في أثناء الخطوبة، وأي خلق إسلامي يمنع الخطيبة من إعداد ملابسها وحاجاتها الخاصة في أثناء الخطوبة أيضاً، وربما كان من الآداب والأخلاق بذل الجهد في هذا الإعداد بعد الخطوبة، وفي هذه الأحوال قد تترتب بعض الأضرار المالية إثر فسخ الخطوبة دون شك في الماضي وفي الحاضر، ومع ذلك فإن الفقهاء لم يبحثوا في موضوع التعويض عن هذه الأضرار، ولهذا فإنني أرى أن صمت الفقهاء هذا معناه عدم التسليم منهم بجواز فرض أي تعويض على أي من الخطيبين إثر فسخ الخطوبة، ذلك أننا اعتدنا من الفقهاء البحث في الافتراضات البعيدة الوقوع، فكيف بما هو قريب الوقوع أو الواقع فعلاً.
إلا أن المحدثين من الفقهاء بحثوا في هذا الموضوع، واختلفوا فيه على ثلاثة آراء:
1- لا تعويض للخطيبين عن أي من الأضرار الناتجة عن العدول عن الخطبة، سواء كان المتضرر هو الذي عدل، أو أن الذي عدل هو الطرف الثاني، وذلك اعتمادا على أن التعويض عن الضرر لا مستند له في الفقه إلا العقد أو التعدي، وفسخ الخطوبة حق لا تعدي فيه، ثم إن الخطوبة وعد وليست عقداً عند أكثر الفقهاء، ولهذا فلا تعويض.
2- يجب على من فسخ الخطوبة تعويض الطرف الثاني عما يكون قد لحق به من ضرر مادي أو معنوي، استناداً إلى مبدأ التسبب في الضرر، ومادام العادل عن الخطبة قد سبب بعدوله هذا للطرف الثاني ضرراً ما كان ليحصل لولا هذا العدول، فيعد مسؤولاً عنه، ويجب عليه ضمان تعويضه.
3- لا تعويض عن الأضرار الناشئة عن العدول نفسه، لكن إذا رافق العدول تصرفاتٌ أخرى قوليه أو فعلية من أحد الخطيبين، ونتج عنها أضرار للطرف الثاني إثر العدول عن الخطبة، فإن من الواجب فرض التعويض عن هذه الأضرار على من عدل عن الخطبة دون الأضرار الناتجة عن العدول المجرد نفسه، بدليل أن العدول نفسه حق، وليس على من مارس حقاً فنتج عنه ضرر بالآخرين أي تعويض، إلا أن التصرفات الأخرى أمور خارجة عن هذا الحق، فيجوز فرض التعويض بها إذا نتج عنها ضرر، وذلك كما إذا طلب الخاطب من خطيبته أن تعد ملابسها على نحو معين، فاستجابت له ثم عدل الخاطب عن الخطبة، وكذلك إذا طلبت الخطيبة منه إعداد منزل الزوجية على شكل معين، فاستجاب لها، ثم عدلت، فإنها تضمن ما تضرر الخاطب به، وكذلك الأضرار المعنوية، كما إذا عدل عن خطبتها وأشاع عنها أمورا عدها سبباً للعدول، فلحق بها نتيجة إشاعاته أضرار معنوية، فإنه يضمن هذه الأضرار، لأن الإشاعات هذه خارجة عن طبيعة العدول، وكذلك الخطيبة إذا أشاعت عنه بعد عدولها ما ألحق به أضراراً، فإنها تضمنها.
وفي قضاء المحاكم في مصر تجسيد عملي للآراء الثلاثة السابقة، إلا أن القضاء في مصر استقر أخيراً على الرأي الثالث، فقد ذكر الأستاذ الدكتور عبد الرزاق السنهوري في كتابه الوسيط ذلك، فقال[6]: إن القضاء في مصر انتهى إلى المبادئ الثلاثة الآتية:
1- الخطبة ليست بعقد ملزم.
2- مجرد العدول عن الخطبة لا يكون سبباً موجباً للتعويض.
3- إذا اقترن بالعدول عن الخطبة أفعال ألحقت ضرراً بأحد الخطيبين جاز الحكم بالتعويض. انتهى كلام السنهوري.
وقد اتجه مشروع القانون العربي الموحد للأحوال الشخصية إلى إيجاب التعويض على المتسبب بترك الخطوبة مطلقا،ً فنص في المادة الرابعة منه على ما يلي: (إذا ترتب على العدول عن الخطبة ضرر يتحمل المتسبب التعويض) .
الترجيح:
من استعراض ما تقدم من الآراء نرى رجاحة ما ذهب إليه واستقر عليه القضاء في مصر أخيراً، من جواز الحكم بالتعويض للأضرار المادية والأدبية على من فسخ الخطوبة، إذا كان الضرر ناتجاً عن تصرف رافق العدول عن الخطبة، فإذا كان الضرر ناتجاً عن العدول نفسه فلا تعويض، وذلك لضعف أدلة الآراء الأخرى المخالفة.
لأنه لا طريق إلى إثبات التعويض بإطلاق، لأن العدول حق لكل من الخاطبين بالاتفاق، والقواعد الفقهية والقانونية العامة تنص على عدم جواز فرض تعويض ما على من مارس حقاً فنتج عنه ضرر بالغير، لأن التعويض لا يستحق إلا عن ضرر نتج عن عقد أو عدوان.
كما أنه لا طريق لنفي التعويض عن ضرر لحق نتيجة تصرف الغير خارج نطاق حقه.
إلا أنه لا بد من تقييد هذا الاتجاه، والتنبه إلى أن إطلاقه بدون قيد يخرج به عن دائرة قواعد التعويض عن الضرر.
ذلك أن التصرفات المرافقة للعدول عن الخطبة الخارجة عنه يجب أن تقسم إلى قسمين: تصرفات مباحة شرعاً، وتصرفات ممنوعة شرعاً، فإذا كان التصرف من الممنوعات شرعاً، ونتج عنه ضرر بالطرف الثاني، جاز فرض التعويض عليه للطرف المتضرر إذا طالب به، لأن فعل غير المباح غير مأذون به شرعا، فكان عدوانا، أما إذا كان التصرف من المباحات شرعاً، فلا يجوز فرض تعويض عما سببه من أضرار مطلقاً، إلا إذا قصد به الإضرار فعلاً.
ذلك أن سبب فرض التعويض هنا هو المسؤولية التقصيرية، وهذه المسؤولية مشروط فيها الاعتداء، وليس في فعل المباح اعتداء إذا لم يقصد به الإضرار بالغير، فإذا قصد الإضرار وجب التعويض، وإلا فلا تعويض.
وعلى هذا لو خطبها وطلب منها إعداد ملابسها على نحو معين، ثم فسخ خطوبته معها، فإنه لا يضمن ما خسرته لأن طلبه مباح، هذا مادام جادا في خطبتها عند الطلب، فإذا طلب منها إعداد الملابس بعدما انتوى فسخ خطوبتها بقصد التغرير بها، فإنه يضمن ما خسرته بعد فسخه الخطوبة، لأن التغرير محرم، وهو نوع اعتداء، وكذلك الخطيبة إذا طلبت من الخاطب إعداد المنزل على نحو معين ثم فسخت، وكذلك الحال إذا فسخ خطوبتها وأشاع عنها من السوء ما ألحق الضرر بسمعتها، فإنه يضمن ذلك الضرر، لأنه نتيجة عمل محرم فيه اعتداء، وكذلك الخطيبة.
ويضبط هذا الموضوع قاعدة فقهية كلية، هي: (المتسبب لا يضمن إلا بالتعمد) [7].
والمراد به هنا التعدي، وهو تعمد الإضرار أو تعمد الفعل غير المباح الذي تنتج عنه الأضرار[8] .
وعلى هذا فإنني أري رجاحة القول بتفصيل ما يلي:
إذا عدل أحد الخطيبين عن الخطبة ولحق بنتيجة هذا العدول نفسه ضرر بالطرف الآخر، لم يجز فرض تعويض ما عن هذا الضرر.
إذا عدل أحد الخطيبين عن الخطبة ولحق بالطرف الثاني ضرر ناتج عن تصرف قام به الطرف الأول زائدا عن العدول، وليس عن العدول نفسه، فرض على من فسخ الخطوبة تعويض مناسب عن الضرر للطرف المضرور، بشرط أن يكون التصرف الزائد تصرفاً محرماً شرعا، أو قصد به الإضرار، وإلا فلا تعويض.
هذا ولم يبحث القانون السوري في موضوع التعويض عن الضرر من فسخ الخطوبة، فوجب لذلك الرجوع إلى الراجح من مذهب الحنفية، وفقاً للمادة /305/ منه، وقد تقدم أن الحنفية وفقهاء السلف جميعاً لم يبحثوا في موضوع التعويض، وأن سكوتهم يدل على رفضهم لمبدأ التعويض هنا أصلاً، إلا أن ذلك لا يمنع القضاء في سورية من الأخذ بما انتهيت إليه من الرأي، لأنه مخرَّج على قواعد الفقهاء عامة، وقواعد الحنفية خاصة، وقواعد المذهب عند سكوت المذهب بمثابة النص عليها فيه.
وكذلك القانون الكويتي لم يبحث فيه أيضا، فوجب الرجوع فيه إلى المشهور من مذهب الإمام مالك وفقا للمادة (343) منه، وهو لا يخرج عما تقدم تفصيله.
ــــــــــــــــــ
ـــــــــ
ـ
[1] انظر المادة /43/ من مجلة الأحكام العدلية، وكتابنا المدخل الفقهي ص60.
[2] انظر المادة /13/ من مجلة الأحكام العدلية، وكتابنا المدخل الفقهي ص76.
[3] ابن عابدين 3/153.
[4] الدسوقي 2/219.
[5] ابن عابدين 3/151
[6] انظر الوسيط 1/830 , وانظر حكم محكمة النقض المصرية الصادر بتاريخ 14/12/1939.
[7] انظر المادة /93/ من مجلة الأحكام العدلية.
[8] انظر كتابنا المدخل الفقهي ص112-114.