شروط الزواج
تمهيد:
الشرَط في اللغة بفتح الراء العلامة، ويجمع على أشراط، ومنه أشراط الساعة أي أماراتها، وتسكن راؤه ويجمع على شروط[1].
والشرط في الاصطلاح الفقهي: ما توقف وجود غيره على وجوده وكان خارجاً عن ماهيته، فهو مثل الركن، لا وجود للشيء بدونهما، إلا أنه خارج عن ماهية الشيء، بخلاف الركن، فهو داخل في ماهيته.
وشروط الزواج أربعة أنواع، بحسب المتوقف عليها منه.
فإن توقف عليها انعقاده فهي شروط انعقاد، وإن توقف عليها صحته فهي شروط صحة، وإن توقف عليها نفاذه فهي شروط نفاذ، وإن توقف عليها لزومه فهي شروط لزوم.
وهذا في مذهب الحنفية.
وقد سوى عامة الفقهاء بين شروط الصحة والانعقاد، ولم يفرقوا بينهما، ولم يعترفوا للعقد إلا بمرتبتين، هما: الانعقاد أو عدم الانعقاد، على خلاف الحنفية، الذين جعلوا الصحة مرتبة وسطى بينهما، حيث يعترف للعقد غير الصحيح ببعض الأحكام، ويسمونه الفاسد، دون غير المنعقد، ويسمونه الباطل.
وهذا في العقود عامة، أما عقد الزواج، فقد اختلف الحنفية أنفسهم في التفريق فيه بين باطل وفاسد، وبالتالي التفريق بين شروط الصحة وشروط الانعقاد فيه، إلا أن الاتفاق تم بين الفقهاء في عقد النكاح غير المستوفي لشروطه، على أن يفرق فيه بين عقد منعدم الأثر بالكلية، وعقد منعدم الأثر قبل الدخول وله بعض الآثار إذا تم بعده دخول بين الزوجين، وقد اختلفوا في تسمية كل نوع من هذين النوعين، فأطلق بعض الحنفية على الأول باطلاً، وعلى الثاني فاسداً، وسوى باقي الحنفية وعامة الفقهاء بينهما في التسمية، وإن كانوا يميزون بينهما في الحكم.
هذا ومناط التفريق بين هذين النوعين في عقد النكاح خاصة هو الاتفاق والاختلاف بين الفقهاء في مخالفتهما للحكم الشرعي، فما اتفق الفقهاء من عقود النكاح على مخالفته للحكم الشرعي عدوه منعدم الأثر بالكلية، وسماه بعض الحنفية باطلاً، وما اختلفوا من العقود على مخالفته الحكم الشرعي، عده من قال بمخالفته للحكم الشرعي منعدم الأثر قبل الدخول فقط، فإذا حصل بعده دخول اعتبر له بعض الآثار، وهو ما يسميه بعض الحنفية فاسداً.
وإننا هنا سوف نمشي على اصطلاح بعض الحنفية في التفرقة في التسمية بين هذين النوعين من عقود الزواج، فنسمي الأول باطلاً، ونسمي الثاني فاسداًً، وذلك تيسيراً وتسهيلاً، مع التنويه بأن التفرقة بين هذين النوعين على هذا النحو هي غير التفرقة بين الفاسد والباطل في سائر عقود المعاوضات في كثير من الأحكام، وما تم اللجوء إليها هنا إلا للتيسير فقط، وقد اعتمد هذا الاختيار قانون الأحوال الشخصية السوري، ونص عليه في المادة /48/ منه، وكذلك القانون الكويتي في المادة (43) منه.
1- شروط الانعقاد:
شروط انعقاد الزواج هي الشروط التي إذا انتقصها العقد أو انتقص واحداً منها عد باطلاً لا وجود له في نظر الشارع أصلاً، وهذه الشروط موزعة على مقومات العقد، مدرسيا لتسهيل الدراسة، فبعضها متعلق بالعاقدين، وبعضها بمحل العقد، وبعضها بركنه، وبيان ذلك في الآتي:
شروط الانعقاد المتعلقة بالعاقدين:
يشترط في العاقدين لينعقد العقد بهما شرطان، هما:
1-الأهلية.
2-سماع كل من العاقدين كلام الآخر وفهم معناه.
وذلك على التفصيل الآتي:
1- الأهلية: والمراد بالأهلية هنا أهلية الأداء، والمقصود به أصلها دون كمالها، فلو كان العاقدان أو أحدهما مميزا انعقد النكاح، لأن للميز أهلية أداء ناقصة، فلو كان مجنوناً أو صغيراً غير مميز، لم ينعقد العقد به، لأنه عديم الأهلية، وكذلك السكران والنائم، فإنهما كالمجنون، لانعدام أهليتهما، وأما كمال الأهلية، فهو شرط نفاذ كما سوف نرى، وليس شرط انعقاد.
2- سماع كل من العاقدين كلام الآخر وفهم معناه: فلو كان أحد العاقدين نائماً عند الإيجاب، ثم استيقظ بعده فقبل، لم ينعقد، لأنه لم يسمع الإيجاب، وكذلك إذا كان بعيداً فلم يسمع كلامه، ومثله الأطرش الذي لم يسمع الإيجاب، فإنه لا عبرة بقبوله.
وكذلك فهم كل من العاقدين كلام الآخر الذي يسمعه منه، فإنه شرط انعقاد ، فلو سمع أحد العاقدين كلام الآخر ولكنه لم يفهمه لأن لغته غير لغته، أو لأن لهجته مغايرة للهجته، فقبل، لم ينعقد العقد بقبوله، إلا أن الفهم المشترط هنا هو الفهم العام دون الفهم الدقيق، وذلك بأن يعلم بأنه يريد الزواج، فإذا علم القابل ذلك من الموجب انعقد العقد بقبوله، وإن لم يفهم دقائق معنى الإيجاب، وتساهل بعض الحنفية أكثر من ذلك، ونصوا على انعقاده وإن لم يفهم أحد العاقدين كلام الآخر، إذا جرى الإيجاب والقبول باللفظ الصريح، وذكر الحصكفي صاحب الدر المختار ذلك، فقال: (ولا يشترط العلم بمعنى الإيجاب والقبول فيما يستوي فيه الجد والهزل) وعلق على ذلك ابن عابدين، فقال: (أي فيما كان بلفظ تزويج ونكاح، بخلاف ما كان كناية. ........لكن قيد في الدرر عدم الاشتراط بما إذا علما أن هذا اللفظ ينعقد به النكاح، أي وإن لم يعلما حقيقة معناه، قال في الفتح: لو لُقِّنت المرأة: (زوجت نفسي) بالعربية ولا تعلم معناها، وقبل الزوج، والشهود يعلمون ذلك أولاً يعلمون، صح، كالطلاق، وقيل لا، كالبيع، كذا في الخلاصة) [2].
وهل يشترط تعدد العاقدين؟ أكثر العلماء على وجوب تعدد العاقدين في كافة العقود، فإذا عقدها واحد بطلت، إلا أنهم اتفقوا على استثناء النكاح وبعض حالات أخرى من ذلك، فأجازوها بعاقد واحد، وذلك لأن النكاح مما تعود فيه أحكام العقد للزوجين لا العاقدين، على خلاف سائر العقود، وعلى ذلك لو زوج ولي قاصرين مشمولين بولايته أحدهما من الآخر. بعبارته جاز، وكذلك إذا وكلته بزواجها ممن يشاء، ووكله آخر بزواجه ممن يشاء، فزوج الأولى من الثاني بعبارته جاز.
شروط الانعقاد المتعلقة بالمحل:
محل العقد هو مرتكزه ومحل ثقله الذي يتعلق به موضوعه، ففي البيع المبيع، وفي الإجارة منفعة المأجور..... لأن موضوع البيع نقل ملكية المبيع ببدل هو الثمن، ومحل الإجارة نقل ملكية المنفعة إلى أجل ببدل هو الأجر.
وعلى هذا يكون محل الزواج هو ملك الاستمتاع بالزوجة، وقد أشير إلى ذلك في تعريف الزواج.
هذا ويشترط في المحل لينعقد الزواج عليه شروط، هي:
1- أن تكون الزوجة أنثى محققة الأنوثة.
2- أن تنتفي بين الرجل والمرأة المحرميَّة المتفق عليها بين الفقهاء.
3- أن تكون الزوجة معلومة أثناء العقد.
4- أن لا تكون الزوجة مُشْركة.
وذلك حسب التفصيل الآتي :
1- أن تكون الزوجة المعقود عليها أنثى من بني آدم محققة الأنوثة، فإذا كانت خنثى، فإن كان الغالب من حالها الأنوثة انعقد العقد عليها لهذا الغالب، فإن كانت خنثى مشكلاً لم ينعقد عليها نكاح، فإن كان الغالب من حالها الذكورة، جاز أن تكون زوجاً فتعقد على أنثى محققة الأنوثة، ولم يجز تزويجها برجل.
وكذلك زواج الرجل من الرجل، فإنه باطل لانتفاء الشرط، وكذلك المرأة من المرأة، وزواج الرجل من الجنية باطل أيضاً، لأنها قد تكون ذكراً تشبَّه في صورة أنثى، لأن لهم قدرة على التشبه.
2- أن تكون المرأة معلومة أثناء العقد للعاقدين والشهود، فإذا كانت مجهولة عندهم، أو عند بعضهم، فإن كانت الجهالة فاحشة بطل العقد، كما إذا قال له: زوجتك إحدى ابنتي، وله بنتان يصلحان له، فإنه باطل، أو زوجتك هندً، وكان هنالك أكثر من واحدة بهذا الاسم، فإذا كانت الجهالة يسيرة، كأن قال له: زوجتك إحدى ابنتي، وله بنتان إحداهما متزوجة، فإن العقد ينعقد على الثانية، وكذلك إذا قال له زوجتك هند وأشار إليها وهي في المجلس، أو كان الحديث والخطبة لها قبله، والشهود يعلمون ذلك، فإن كان الشهود لا يعلمون لم ينعقد[3].
فإذا اتفقا على تزويج الصغرى فأخطأ فذكر اسم الكبرى لم ينعقد لواحدة منهما، لأن الكبرى غير مرادة، والصغرى غير مذكورة، فلا ينعقد لذلك[4].
3- أن لا تكون المرأة محرماً للرجل محرميَّة متفقاً عليها لدى الفقهاء، فإذا كانت محرماً محرميَِّة متفقاً عليها بين الفقهاء، كالأم، والأخت، وأم الزوجة، والبنت رضاعاً إذا استوفى الرضاع شروط التحريم لدى الفقهاء جميعاً، فإن العقد عليها باطل. أما المحرم عند بعض الفقهاء دون بعض، كمن رضعت من زوجته مرة أو مرتين، فإنها محرَّمة عليه عند الحنفية والمالكية، دون الشافعية والحنبلية -كما سوف يأتي- فإن العقد عليها منعقد، وليس باطلاً، وهذا عند من لا يقول بالتحريم بالرضعة والرضعتين، أما من يقول بالتحريم بهما، فهو باطل عنده ولكن له بعض الأحكام، لوجود الخلاف فيه، وهو ما يسميه بعض الحنفية فاسدا -كما تقدم- لعدم التحريم المتفق عليه.
وسوف يأتي بحث المحرميَّة بأسبابها وطرقها وشروطها ومحل الاختلاف فيها في مبحث خاص بعد شروط العقد.
4- أن لا تكون المرأة مشركة بالله تعالى، والمشركة هنا هي غير المسلمة والكتابية، والكتابية هي النصرانية أو اليهودية، وذلك كالبوذية والمجوسية والوثنية والملحدة التي لا دين لها.....فإن العقد على هؤلاء باطل أصلاً، وأما المسلمة والنصرانية واليهودية، فالعقد عليها صحيح للرجل المسلم، لقوله تعالى: (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (المائدة:5) وأهل الكتاب هم اليهود والنصارى، وهذا في حق الرجل المسلم، أما غير المسلم، فلا تحل له المسلمة بالإجماع، كتابياً كان أو غير كتابي، وزواجه منها باطل، لقوله تعالى: (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (البقرة:221).
هذا والمشرك عند الإطلاق ينصرف إلى غير المسلم مطلقاً، فيدخل فيه الكتابي وغيره.
شروط الانعقاد المتعقلة بالركن:
تقدم أن ركن النكاح هو الرضا المعبر عنه بطريق معتاد من طرق التعبير عن الرضا، وهي أربعة حصراً: القول، والكتابة، والإشارة، والتعاطي، وقد أجمع الفقهاء على عدم انعقاد النكاح بالتعاطي، خلافاً لعقود المعاوضات، وذلك لالتباسه بالزنا، كما أجمعوا على انعقاده بالطرق الثلاثة الأخرى: القول، والكتابة، والإشارة، إلا أن لكل طريق من هذه الطرق شروطها التي لا تقوم إلا بها، وهي:
أولاً ) القول: القول هنا هو ذكر الإيجاب والقبول مشافهته، وذلك بإيراد قولين من المتعاقدين يعربان بهما عن رضاها وعزمها على العقد، وقد اختلف الفقهاء في التمييز بينهما، فذهب الحنفية إلى أن الإيجاب هو الأول من قولي طرفي عقد النكاح مطلقاً، والقبول هو الثاني، وذهب الشافعية إلى أن الإيجاب هو قول ولي المرأة أو من يمثله، سواء كان هو الأول أو الثاني، والقبول هو قول الرجل أو من يمثله، سواء كان هو الأول أو الثاني[5].
شروط الإيجاب والقبول بالقول:
يشترط لانعقاد الإيجاب والقبول بالقول شروط كثيرة، اتفق الفقهاء في بعضها واختلفوا في أمر البعض الآخر، وهذه الشروط هي:
1- اتحاد مجلس الإيجاب والقبول.
2- تطابق القبول مع الإيجاب.
3- بقاء الموجب مقراً على إيجابه حقيقة وحكماً حتى صدور القبول.
4- تنجيز الإيجاب والقبول.
5- أن يكون الإيجاب والقبول بلفظ النكاح أو الزواج.
6- أن يكون الإيجاب والقبول باللغة العربية الفصحى.
7- أن يكون الإيجاب والقبول بلفظ الماضي.
8- أن يخلو الإيجاب والقبول عن اشتراط التوقيت.
9- خلوه عن الخيار.
وتفصيل ذلك في الآتي:
1- اتحاد مجلس الإيجاب والقبول: من شروط انعقاد العقد الشرعي عامة تلاقي الإيجاب والقبول حقيقة، قياساً على العقد المادي، فإن الحبل لا ينعقد بالحبل إلا إذا لاقاه ومسه فعلاً، وكذلك العقد الشرعي، إلا أن تلاقي الإيجاب مع القبول حقيقة متعذر أو متعسر، فأقيم كونهما في مجلس واحد مقام تلاقيهما حقيقة، وذلك وفقاً للقاعدة الفقهية الكلية: (المجلس يجمع المتفرقات).
والمجلس هو الوحدة الزمنية التي يكون فيها العاقدان مقبلين على موضوع العقد مهما طال الزمن، فإذا التفتا عنه إلى غيره من الحديث انقطع المجلس، ولا تؤثر وحدة المكان هنا، وعليه فإذا تعاقدا وهما في سفينة جاز وهما مجلس واحد حكماً ماداما في الحديث عن موضوع العقد، فإذا افترقا فمشى كل منهما في اتجاه غير اتجاه الآخر، انقطع المجلس، لما فيه من قطع الحديث[6].
2- تطابق القبول مع الإيجاب: فإذا قال الموجب زوجتك فلانة، فقال القابل قبلت زواج أختها، لم ينعقد العقد، لعدم التطابق، وكذلك إذا قال له: زوجتك فلانة بألف، فقال قبلت زواجها بخمسمائة، فإنه لا ينعقد، ولو قال قبلت زواجها بألفين جاز، لأنه اختلاف صوري لا يعتد به.
3- بقاء الموجب مصراً على إيجابه حقيقة وحكماً حتى صدور القبول: فإذا سحب الموجب إيجابه بقول صريح، كأن قال رجعت عن إيجابي، أو بدلالة الحال، كأن أعرض عن القابل، لم ينعقد العقد، سواء قبل بعد ذلك أو لا، لأن الإيجاب لا يلزم صاحبه ما لم ينعقد به القبول، فيكون له الرجوع عنه، فإذا ارتبط به القبول أصبح عقداً لازماً.
هذا في البقاء الحقيقي على الإيجاب، أما البقاء الحكمي عليه، فبأن يبقى الموجب أهلاً للإيجاب حتى صدور القبول، فلو جن الموجب بعد الإيجاب، ثم قبل القابل لم ينعقد العقد، لأن الإيجاب سقط وعد الموجب راجعاً عنه حكما بسقوط أهليته.
فإذا أوجب الموجب ثم جن ثم آفاق فقبل القابل، لم ينعقد كذلك، لسقوط الإيجاب بالجنون، هذا ما لم يوجب الموجب ثانية بعد إفاقته من الجنون، ثم يقبل الآخر، وإلا انعقد العقد بالإيجاب الثاني مع القبول، وكذلك لو قبل القابل بعد إفاقة المجنون الموجب، فوافق المفيق على هذا القبول ثانية، فإن العقد يتم، ويعد القبول الأول إيجاباً، والموافقة على هذا القبول قبولاً، وينعقد العقد بهما.
4- تنجيز الإيجاب والقبول: والعقد المنجز هو العقد المنعقد في الحال، ويقابله المعلق والمضاف إلى المستقبل، فإذا قالت امرأة لرجل: زوجتك نفسي، كان ذلك منجزاً، وإذا قالت: زوجتك نفسي إن رضي أبي مثلاً، فهو معلق على شرط، هو هنا رضا أبيها، ولو قالت: زوجتك نفسي بدءاً من أول الشهر القادم، كان مضافا إلى المستقبل.
وقد أجمع الفقهاء على بطلان النكاح المعلق على شرط محتمل الوجود في المستقبل، وكذلك النكاح المضاف إلى المستقبل، فإذا علق النكاح على شرط موجود حين الإيجاب، كأن قالت: زوجتك نفسي إن نجحت في الامتحان، وهي ناجحة قبل الإيجاب، انعقد العقد، لأنه منجز في الواقع، وليس معلقاً، وكذلك إذا علقته على شرط غير موجود، ولكنه وجد في مجلس العقد، كأن قالت زوجتك نفسي إن عاد أخي من سفره سالماً، فعاد أخوها في المجلس نفسه، فإنه ينعقد، للقاعدة الفقهية الكلية: (المجلس يجمع المتفرقات)، حيث يعد كالشرط الموجود مع الإيجاب فينعقد[7].
ولو علقت الزواج على شرط في المستقبل مستحيل الوجود، كأن قالت زوجتك نفسي إن قام أبي من قبره، وكان أبوها ميتا،ً لم ينعقد أيضاً، لعدم التنجيز.
5- أن يكون الإيجاب والقبول بلفظ النكاح والزواج[8]:
أجمع الفقهاء على انعقاد الزواج بلفظ النكاح ولفظ الزواج وما اشتق منهما، فلو قال أب المرأة زوجتك بنتي، أو أنكحتك بنتي، فقال الرجل تزوجتها أو قبلت نكاحها، انعقد بالاتفاق، سواء تقدم لفظ ولي الزوجة أو لفظ الزوج.
وهل يشترط ذكر هذين اللفظين أو أحدهما في الإيجاب والقبول معاً؟ ذهب الشافعية إلى ذلك، فلو قال زوجتك بنتي فلانة، فقال الزوج قبلت، لم ينعقد، ولا بد من قوله: قبلت زواجها، أو قبلت نكاحها.
وذهب الحنفية إلى عدم اشتراط ذلك، فلو قال: زوجتك ابنتي فلانة، فقال الرجل قبلت انعقد.
وهل يصح الزواج بغير هذين اللفظين أصلاً؟
ذهب الشافعية، والحنبلية، والمالكية في قول صاحب المقدمات، إلى عدم انعقاد الزواج بغير هذين اللفظين، لأنه عبادة، ولم يرد في القرآن سواهما، فلزم ذلك.
وذهب الحنفية، والمالكية في قول الأكثرين منهم إلى جوازه بهما، وبكل لفظ وضع لتمليك عين كاملة، إلا أنه بهما يكون صريحاً، فينعقد بغير نية، وبغيرهما يكون كناية، فلا ينعقد إلا بالنية أو بدلالة الحال، وقد قسموا الألفاظ التي يتأتي النكاح بها إلى أربعة أقسام:
القسم الأول: ألفاظ ينعقد النكاح بها بالإجماع، وهي لفظا النكاح والزواج، وما اشتق منهما.
القسم الثاني: ألفاظ ينعقد النكاح بها لدى الحنفية بإجماعهم دون غيرهم، وهي ألفاظ: الهبة والصدقة والتمليك والجعل والسلم والصرف والصلح، وكل ما أفاد التمليك بدون توقيت.
والقسم الثالث: ألفاظ اختلف الحنفية أنفسهم في انعقاد العقد بها، مع اتفاق الغير على بطلان العقد بها، كالإجارة والوصية.
والقسم الرابع: اتفق الحنفية مع غيرهم من الفقهاء على بطلان العقد بها، كالإباحة والإعارة والإحلال والرهن والتمتع والإقالة.
ودليله على ذلك القاعدة الفقهية الكلية: (العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني) [9].
وقد أخذ قانون الأحوال الشخصية السوري باتجاه الحنفية، ونص عليه في المادة (6) منه، وهذا نصها:
المادة (6) يكون الإيجاب والقبول في الزواج بالألفاظ التي تفيد معناها لغة أو عرفاً).
ومثله القانون الكويتي في المادة (9) منه ونصها:
أ- يكون الإيجاب والقبول في الزواج مشافهة بالألفاظ التي تفيد معناه عرفا أو بأي لغة.
ب- ويجوز أن يكون الإيجاب بين الغائبين بالكتابة أو بواسطة رسول.
ج- وعند العجز عن النطق تقوم مقامه الكتابة، فإن تعذرت فبالإشارة المفهمة.
6- أن يكون الإيجاب والقبول باللغة العربية الفصحى:
إذا عجز العاقدان عن اللغة العربية انعقد عقدهما بأي لغة يستطيعانها لدى الحنفية، لأن ركن العقد هو الرضا المعبر عنه بالإيجاب والقبول عندهم، وليس الإيجاب والقبول نفسهما، كما تقدم في ركن العقد.
وفي المذهب الشافعي ثلاثة أقوال، قول بالجواز بأي لغة كان، كالحنفية، وقول بعدم الجواز مطلقاً بغير العربية، وقول بالجواز بأي لغة عند العجز عن العربية، فإن قدرا على العربية لم ينعقد العقد بغيرها، والأصح عندهم القول الأول كالحنفية[10].
وهل ينعقد النكاح باللغة العامية، مثل قولهم جوزت بدلاً من زوجت؟
اتفق الفقهاء على انعقاده بها مادامت لغة معروفة منتشرة، فإن كانت غير منتشرة واستعملت جهلا، لم ينعقد العقد بها[11].
7- أن يكون الإيجاب والقبول بلفظ الماضي:
اتفق الفقهاء على انعقاد العقود المدنية جميعا -ومنها عقد النكاح- بلفظ الماضي في كل من الإيجاب والقبول، فإذا قالت: زوجتك نفسي، فقال: قبلت، انعقد العقد بالإجماع، لأن الماضي يدل على الجزم والقطع.
وهل ينعقد بغير الماضي؟ في ذلك تفصيل:
فقد اتفق الفقهاء في العقود المدنية عامة على أنها تنعقد بالفعل المضارع في الإيجاب والقبول كليهما أو أحدهما أيضاًُ بشرطين:
آ- أن لا يكون المضارع ممحضاً لفظاً للاستقبال، فإذا قال له: سأبيعك، فقال له سأشتري، أو اشتريت، لم ينعقد، لدخول السين عليه، لأنها تجعله ممحضاً للاستقبال.
ب - أن تحف به قرينة أو نية ترجح احتماله للماضي، كالتقابض بالأيدي، أو كونهما في متجر إذا كان عقد البيع، أو نقده الثمن فيه، فإذا قال رجل لآخر: أبيعك هذا الكتاب ودفعه إليه، فقال الآخر أرضى أو رضيت، انعقد، وإن لم يكن هناك قرينة أو نية ترجح احتماله الماضي لم ينعقد به، لأن المضارع يحتمل الماضي ويحتمل المستقبل بوضعه اللغوي، فإذا ترجح أحدهما بقرينة انصرف إليه، فإذا انعدمت القرينة لم ينعقد العقد، لعدم المرجح.
هذا في العقود المدنية عامة، واستثنى الفقهاء منها عقد النكاح، فإنه ينعقد بالمضارع غير الممحض للاستقبال مطلقاً، دون حاجة إلى نية أو قرينة حال، ذلك أنه مما لا يجري فيه الهزل، وهو قرينة على ترجح احتماله الماضي، فلا حاجة إلى قرينه أخرى.
كما اتفق الفقهاء على انعقاد النكاح بلفظ الأمر في الإيجاب إذا كان القبول بلفظ الماضي أو المضارع غير الممحض للاستقبال، فإن قالت له: تزوجني، فقال تزوجتك، انعقد العقد، وكذلك لو قال لها: زوجيني نفسك، فقالت زوجتك، فإنه ينعقد، وذلك بخلاف العقود المدنية، فإنها لا تنعقد بلفظ الأمر، وذلك لأن الأمر يعد هنا توكيلاً، فينعقد العقد بالقبول وحده، ويعد إيجاباً وقبولاً من شخص واحد، وهو صحيح في النكاح دون العقود المدنية الأخرى، لأن تعدد العاقدين شرط انعقاد فيها دون النكاح[12].
فإن كان الإيجاب بلفظ الاستفهام، لم ينعقد النكاح ولا غيره به أصلاً، سواء كان القبول بالماضي أو غيره، كأن تقول له: أتتزوجني؟ فيجيب: تزوجتك، وذلك لأن الاستفهام طلب وليس إيجابا،ً فلا يحتمل الماضي بحال، ثم هو ليس توكيلاً، على خلاف الأمر.
8- خلو الإيجاب والقبول عن التوقيت:
من عقود المعاوضات ما يعد التوقيت شرطا فيه، كالإجارة، ومنها ما يعد التوقيت مبطلاً له، كالبيع، وعقد النكاح من النوع الثاني، فلا ينعقد إلا بصيغة خالية عن التوقيت، فإن أقت بزمن معين، طال الزمن أم قصر، لم ينعقد، فلو قالت له: زوجتك نفسي شهرا أو سنة أو مئة سنة، فقال: قبلت، لم ينعقد في مذهب جماهير الفقهاء، وخالف زفر بن الهزيل من الحنفية، فقال: ينعقد العقد ويلغى الشرط، ووافقه الإمام أبو حنيفة في رواية الحسن عنه إذا كانت المدة المشروط طويلة لا يعيشان لمثلها غالباً، لأنها في معنى المؤبد، إلا أنها ضعيفة، والرواية الثانية عنه بالمنع مطلقاً أصح[13].
استدل الجماهير لقولهم بقياسه على نكاح المتعة، وهو باطل عندهم، فكذلك النكاح المؤقت، إذ لا فارق بينهما غير الصيغة والشهود، إذ المتعة بلفظ التمتع وهذا بلفظ الزواج، والمتعة تخلو عن الشهود غالبا،ً وهذا لا يخلو عنهم، إلا أن الفارق في الصيغة فارق غير مؤثر، وبخاصة في مذهب الحنفية الذين لا يشترطون لانعقاد النكاح لفظا خاصا به، وكذلك الشهود، فهم شرط صحة لا شرط انعقاد، والبحث هنا في الانعقاد خاصة.
واستدل زفر بالقاعدة الفقهية القائلة: (عقد النكاح لا يفسد بالشروط الفاسدة، ولكن ينعقد النكاح ويلغوا الشرط الفاسد)، ورد على قياسه على النكاح المتعة بأنه قياس باطل، لأن المنع من المتعة تعبدي، فلا يقاس عليه.
إلا أن الجمهور مراعاة لخلاف زفر، وتطبيقاً للقاعدة الفقهية الكلية: (كل نكاح اختلف الفقهاء في انعقاده فهو فاسد لا باطل عند من يقول بعدم صحته)، وقالوا بفساده لا بطلانه، وعلى ذلك فإن عقد الرجل على زوجته نكاحاً مؤقتاً ودخل بها وأنجب منها لزمه نسب الأولاد بشروطه، ولزمه مهر المثل، ووجب عليها العدة بعد مفارقته. .. على خلاف العقد الباطل الذي لا يترتب عليه حكم ما.
أما المتعة فهي باطلة، ولا يترتب عليها حكم ما بعد الدخول أو قبله على سواء، ولا عبرة بخلاف الشيعة الجعفرية في ذلك، لأنه خلاف خال عن الدليل المعتبر، كما سوف يأتي.
وتتميماً للموضوع، فسوف أعرف في آخر البحث ببعض الأنكحة الحديثة، والأنكحة الممنوعة، ومنها نكاح المتعة، وأبين حكمها لدى عامة الفقهاء.
9-خلوه من خيار الشرط:
تقدم بطلان النكاح المعلق على الشرط والمضاف إلى المستقبل، وكذلك النكاح المشروط فيه خيار الشرط، سواء كان الخيار للزوج أو للزوجة أولهما أو لغيرهما، وذلك لما فيه من تأخير حكمه عن ساعة انعقاده، فإذا اشرط فيه الخيار ثم أسقط الخيار في المجلس، كأن قال لها تزوجتك على أني بالخيار، فقالت: قبلت، فقال في المجلس: أسقطت خياري، فإنه ينعقد، وكأنه بات لا خيار فيه، للقاعدة الفقهية الكلية المتقدمة: (المجلس يجمع المتفرقات)، وقد تقدم مثل ذلك في النكاح المعلق على شرط.
هذا عند الحنبلية في أرجح القولين، وذهب الحنفية إلى أن النكاح صحيح والخيار لاغ مطلقا[14].
وهل يشترط لانعقاد النكاح خلوه عن الشرط التقييدي غير الصحيح؟
اتفق الفقهاء على الالتزام بالقاعدة الفقهية السابقة: (عقد النكاح لا يفسد بالشروط الفاسدة، ولكن ينعقد النكاح ويغلو الشرط الفاسد)، وعلى ذلك فإن النكاح المقيد بشرط صحيحٌ مطلقاً، ثم إن كان الشرط صحيحاً صح العقد ولزم الشرط، وإن كان الشرط غير صحيح صح النكاح ولغا الشرط، وسوف يأتي بتفصيل بيان الشروط التقييدية الصحيحة وغير الصحيحة، ومذاهب الفقهاء واختلافهم فيه.
إلا أن بعض الفقهاء استثنى من هذه القاعدة حالتين، عد العقد المقيد فيهما بشرط غير منعقد، وهما: (نكاح الشغار) و(نكاح المحلِّل) ولذا فإنني سوف أعرف بهما وأبين مذاهب الفقهاء في حكمهما، ثم أبين الشروط المقيدة للزواج، ومدى إلزاميتها للزوجين.
النكاح المقيد بالشروط:
تقدم أن النكاح المعلق على شرط، والنكاح المضاف إلى المستقبل باطلان بالإجماع، أما النكاح المقيد بالشرط فصحيح بالاتفاق، مهما كان نوع الشرط المقيد به، سوى نكاح الشغار ونكاح المحلِّل، إلا أن بعض الشروط المقيدة يعد صحيحاً فيلزم مع صحة العقد، وبعضها يعد غير صحيح فيلغو مع صحة العقد، ولا بد من بيان الشروط الصحيحة اللازمة، والشروط غير الصحيحة، في مذاهب الفقهاء، حيث اختلفوا فيها، على مذهبين[15].
الأول: مذهب جمهور الفقهاء، وهم الحنفية، والشافعية، والمالكية، ويأخذون بمبدأ عدم صحة الشروط الجَعلية المقيِّدة للعقد، إلا ما كان منها مما يقتضيه العقد، أو يلائمه، أو ورد الشرع بجوازه بنص خاص، أو جرى العرف عليه، وما سوى ذلك فشروط غير صحيحة.
الثاني: مذهب الحنبلية، ويأخذون بمبدأ إباحة الشروط الجملة المقيدة للعقد، إلا ما كان منها مخالفاً لمقتضى العقد، أو ورد دليل خاص من الشارع بتحريمه أو المنع منه، وما سوى ذلك فشروط صحيحة.
الأدلة :
استدل الجمهور لمذهبهم بأدلة، منها:
1- ما روي عَنْ ابْنِ شِهَابٍ (أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعَودٍ ابْتَاعَ جَارِيَةً مِنْ امْرَأَتِهِ زَيْنَبَ الثَّقَفِيَّةِ وَاشْتَرَطَتْ عَلَيْهِ أَنَّكَ إِنْ بِعْتَهَا فَهِيَ لِي بِالثَّمَنِ الَّذِي تَبِيعُهَا بِهِ، فَسَأَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ عَنْ ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لا تَقْرَبْهَا وَفِيهَا شَرْطٌ لأَحَد) رواه مالك في الموطأ.
2- ماروه عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ قَالَ: (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْعُرْبَانِ) رواه أبو داود وابن ماجه وأحمد ومالك، وقَالَ مَالِكٌ وَذَلِكَ فِيمَا نَرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ يَشْتَرِيَ الرَّجُلُ الْعَبْدَ أَوْ يَتَكَارَى الدَّابَّةَ ثُمَّ يَقُولُ أُعْطِيكَ دِينَارًا عَلَى أَنِّي إِنْ تَرَكْتُ السِّلْعَةَ أَوْ الْكِرَاءَ فَمَا أَعْطَيْتُكَ.
3- ما روي أن عائشة رضي الله عنها سَاوَمَتْ بَرِيرَةَ فَخَرَجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلَى الصَّلاةِ فَلَمَّا جَاءَ قَالَتْ إِنَّهُمْ أَبَوْا أَنْ يَبِيعُوهَا إِلا أَنْ يَشْتَرِطُوا الْوَلاءَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: (إِنَّمَا الْوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَق) رواه البخاري ومسلم.
4- ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنه (نهى عن بيع وشرط) [16].
وأما إباحة ما ورد به دليل خاص، فلوجود دليل، ولأن الخاص مقدم على العام.
وأما ما كان ملائماً لمقتضى العقد، فإنه دليل إباحته القياس على ما هو من مقتضى العقد.
وأما ما ورد العرف به، فلقوله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (الأعراف:199).
واستدل الحنبلية لمذهبهم بما يلي:
1- بما رواه الترمذي وأبو داود عن كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: (الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِلا صُلْحًا حَرَّمَ حَلالا أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا، وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ إِلا شَرْطًا حَرَّمَ حَلالا أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا).
2 – ما ذكره البخاري عنوانا في بَاب الشُّرُوطِ فِي الْمَهْرِ عِنْدَ عُقْدَةِ النِّكَاحِ َفقَالَ: قال عُمَرُ: (إِنَّ مَقَاطِعَ الْحُقُوقِ عِنْدَ الشُّرُوطِ وَلَكَ مَا شَرَطْت).
3- إن أحكام العقد شرعت لمصلحة العاقدين، فيكون لهما تغييرها توفية لهذه المصلحة.
وأما المنع من الشروط التي ورد الدليل على تحريمها أو المنع منها، فلهذا الدليل الخاص، وكذلك المنع من الشرط المخالف لمقتضى العقد، لأن مقتضى العقد من وضع الشارع، فم يكن للعاقدين تغييره ومناقضته دون الزيادة عليه.
هذا في المعوضات عامة، وكذلك في عقد الزواج، لأنه عقد معوضة –كما تقدم- فيتأتى فيه ما يتأتى فيها.
إلا أن الشروط غير الصحيحة في العقود عامة منها ما يفسد العقد به، ويسمونه بالشرط الفاسد، ومنها ما يلغو فيه الشروط ويصح العقد، ويسمونه بالشرط الباطل[17]، أما عقد النكاح فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه لا يفسد بالشرط غير الصحيح، ولكن يصح العقد ويلغو الشرط، إلا في نكاح الشغار ونكاح المحلل، حيث جرى الاختلاف فيهما.
وخالف المالكية في أرجح الأقوال عندهم وقالوا: إنه يفسد الشرط ويفسد العقد به قبل الدخول، فإذا دخل بها مضى العقد ولغا الشرط[18].
أما الشرط الصحيح، فالاتفاق على أن العقد معه صحيح، ولكن هل يلزم الوفاء بالشرط؟
ذهب الحنبلية إلى وجوب الوفاء بالشرط الصحيح في النكاح على من التزم به، فإن لم يف به، جاز للذي وجب الشرط لمصلحته أن يطلب فسخ النكاح، وذلك لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(أَحَقُّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ) رواه البخاري ومسلم، هذا ما لم يمكن تنفيذه جبراً، وإلا وجب لها الشرط جبراً، كما لو تزوجها واشترطت عليه أن لا تخرج من دارها فرضي، فإن لها أن لا تخرج منها، ولها النفقة، ولا تعد ناشزاً[19].
وذهب المالكية إلى أنه إن كان الشرط صحيحاً غير مكروه وجب الالتزام به، وإلا كان للطرف الثاني فسخ العقد، كالحنابلة، وإن كان الشرط مكروها كأن شرط لها أن لا يخرجها من بلدها، ندب له الالتزام به دون وجوب، فإن وفى به فبها، وإلا لم يكن للآخر طلب فسخ الزواج، هذا ما لم يعلق عليه الطلاق، وإلا كان يميناً وطلقت[20].
وذهب الحنفية إلى ندب الوفاء بالشرط الصحيح دون وجوب، فإذا لم يف به لم يكن لها فسخ النكاح، ولا تنفيذ الشرط جبرا، لعدم لزومه ووجوبه.
إلا أن الحنفية نصوا على أن الزوجة إذا شرطت على زوجها عدم إخراجها من بيتها فرضي، فإن وفى لها به فبها، وإلا لزمه مهر مثلها إن كان أكثر من المسمى، فإن كان أقل منه لزمه المهر المسمى لا يزاد عليه ولا ينقص منه، وذلك لأن رضاها بالأقل كان على أساس الشرط، فإن فات الشرط فات رضاها بالمسمى، ففسد المهر، فوجب لها مهر المثل.
وهذا ما لم يفارقها قبل الدخول والخلوة، فإن فارقها قبلهما ثبت لها نصف المسمى مطلقاً[21].
هذا وقد سكت القانون المصري هنا، فكان معناه الأخذ بمذهب الحنفية، لأنه الواجب عند السكوت في هذا القانون.
أما القانون السوري فقد خالفه في ذلك، واتجه إلى الأخذ بمذهب الحنبلية، وفرق بين نوعين من الشروط الصحيحة، نوع ينفذ جبراً على صاحبه، ونوع يكون للطرف المشروط له طلب فسخ النكاح عند امتناع الآخر عن الوفاء بالشرط، ونص على ذلك في المادة /14/منه، ونصها كما يلي:
المادة /14/
أ - إذا قيد عقد الزواج بشرط ينافي نظامه الشرعي، أو ينافي مقاصده، أو يلتزم فيه ما هو محظور شرعاً، كان الشرط باطلاً والعقد صحيحاً.
ب- وإذا قيد بشرط يلتزم فيه للمرأة مصلحة غير محظورة شرعاً، ولا تمس حقوق غيرها، ولا تقيد حرية الزوج في أعماله الخاصة المشروعة، كان الشرط صحيحاً ملزماً.
ج - وإذا اشترطت المرأة في عقد النكاح ما يقيد حرية الزوج في أعماله الخاصة، أو يمس حقوق غيرها، كان الاشتراط صحيحاً، ولكن ليس بملزم للزوج، فإذا لم يف الزوج به فللزوجة المشترطة طلب فسخ النكاح.
وأنا أميل إلى رجحان مذهب الحنفية والجمهور في المنع من الشروط في الزواج، إلا ما أباحه الجمهور من الشرط الملائم لمقتضى العقد، كاشتراط كفالة والد الزوج بالمهر، والشرط الذي ورد العرف به، كاشتراط تأجيل جزء من المهر بحسب العرف، والشرط الذي جاء نص بإباحته، كأن يكون أمرها بيدها، وما سوى ذلك فشرط غير صحيح، وذلك للأدلة التي أوردها الجمهور، ولما فيه من المصلحة الغالبة، ذلك أن في تكبيل الزواج بالشرط ضرر بالزوجين، وبذر لبذور الشقاق والخلاف بينهما، وهذا الترجيح هو ما اتجه إليه العلامة المحقق الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله تعالى، وقد ذكر فيه من المصلحة ما يجعله راجحا، وسوف أورد ما ذكره تعليقاً على مشروع قدم في مصر يميل إلى الأخذ بمذهب ابن حنبل: قال رحمه الله تعالى: (إننا نرى أن الأولى والصالح أن تبقى الشروط في الزواج خاضعة لمذهب أبي حنيفة، إذ هو مذهب الجهور، ولو أننا أخذنا بمذهب أحمد في الشروط المقترنة بالزواج، لكانت آثار عقد الزواج متأثرة بإرادة العاقدين، وذلك يذهب عن الحياة الزوجية ما يحاط بها من قدسية، ويقارب الزواج الإسلامي من الزواج المدني الذي يعقد في المدن اللاهية اللاعبة في أوربا وأمريكا، حيث يعقد لرغبة عارضة، ويفسخ لمثلها، ولأننا لو جعلنا باب الشروط مفتوحاً والوفاء بها لازماً لاضطربت الحياة الزوجية أيما اضطراب، ولنضرب لذلك مثلاً شرطا نص عليه في المادة السابقة التي نقلناها عن المشروع، وهو: ألا ينقلها من بلدها، فإذا كانت مثلاً في القاهرة لا ينقلها إلى طنطا أو أسيوط أو أسوان، فإذا اضطره عمله إلى الإقامة في أسوان، فإنه لا يسوع له أن ينقل زوجته وولده إليها، وتستمر العشرة الزوجية على هذا النظام، هي في الشمال، وهو في الجنوب، لا يتلاقيان إلا بشق الأنفس، فأي زواج هذا؟ وأي بيت يتكون من هذين العشيرين المتنائيين؟ أو كيف تكون رعاية الأولاد بين هذين الأليفين المتباعدين؟ إن ذلك أمر قد اختاره وارتضاه واضعو ذلك المشروع، ولقد أحسن أولياء الأمر في مصر إذ رفضوا الأخذ به على الوضع الذي كان مقترحا، وعلى ذلك تقرر أن آثار عقد الزواج في مصر كلها من عمل الشارع، ولا أثر لما يشترطه الزوجان، إلا إذا قام دليل من الشارع على وجوب الوفاء به) انتهى كلام الإمام أبي زهرة[22].
كما روي عن مالك رحمه الله تعالى قوله: (إن الاشتراط معيب، وإن على مريد الزواج أن يحسن الاختيار، فيستغني عن الاشتراط) [23].
هذا وقد اتجه مشروع القانون العربي الموحد للأحوال الشخصية إلى الأخذ بمذهب الحنبلية أيضا،ً على غرار القانون السوري، إلا أنه لم يفصل الموضوع بمثل ما جاء في القانون السوري، فنص في المادة (6) منه على ما يلي:
أ- الأزواج عند شروطهم إلا شرطا أحل حراماً أو حرم حلالاً.
ب- إذا اقترن العقد بشرط ينافي غايته أو مقاصده، فالشرط باطل، والعقد صحيح.
ج- لا يعتد بأي شرط إلا إذا نص عليه صراحة في عقد الزواج.
وقد اتجه القانون الأردني للأحوال الشخصية اتجاه المذهب الحنبلي أيضاً، إلا أنه نص على التسوية بين الرجل والمرأة في الاشتراط، على خلاف القانون السوري، ونص على ذلك في المادة (19) منه.
ومثل ذلك في القانون الكويتي في المواد (40-42) منه.
الشروط المتعلقة بالإيجاب والقبول بالكتابة:
اتفق الفقهاء -كما تقدمت الإشارة إليه- على انعقاد النكاح بالكتابة عند العجز عن القول، لخرس، أو بعد مسافة بين الموجب والقابل.....، كما اتفقوا على عدم انعقاده بغير القول كتابة أو إشارة إذا كان العاقدان في مجلس واحد وكانا قادرين على الكلام، لأن مبنى الزواج على الإعلان، والكتابة مع القدرة على الكلام تعد إسراراً، فنافت مقاصده، فلم يصح بها، بخلافه عند العجز عن الكلام.
ويشترط لانعقاده بالكتابة كل ما يشترط لانعقاده بالقول، وقد تقدم ذلك، ويزاد عليه شروط خاصة بالكتابة، كما إن لبعض الشروط المتفق عليها بينهما طبيعة خاصة مع الكتابة، وسوف نبين ذلك في الآتي:
1- العجز عن القول: فإذا قدر العاقدان على القول، بأن كانا قادرين على الكلام، وكانا في مجلس واحد يضمهما لم يصح منهما النكاح بغير الكلام، فإذا عجز أحدهما عن الكلام دون الآخر كالأخرس، اشترط لانعقاده من القادر على الكلام قوله، واكتفى من الثاني بكتابته، فإذا عجزا عن الكلام معاً، بأن كانا أخرسين، انعقد النكاح بكتابتهما، فإذا كتب له مثلاً: (زوجتك بنتي فلانة، فكتب إليه الثاني قبلت) انعقد النكاح.
فإذا كانا بعيدين عن بعضهما، انعقد عقد النكاح بالكتابة من أحدهما للثاني وإن لم يكونا أخرسين، فإذا كتب إليه: (زوجتك ابنتي فلانة، فقال الثاني عند وصول الكتاب إليه أمام شاهدين: قبلت) انعقد النكاح، ولو كتب إليه الثاني قبلت كتابة لم ينعقد، لاشتراط الشهود ووحدة المجلس، وسوف يأتي بيان ذلك.
2- وحدة المجلس: تقدم في شروط القبول اشتراط وحدة المجلس من الإيجاب والقبول، وإلا بطل النكاح، ووحدة المجلس بين الغائبين حقيقة مستحيلة، ولهذا نص الفقهاء على أن المجلس المراد هنا هو مجلس القبول فقط، فلو وصلها الإيجاب كتابة فقالت أمام شاهدين: قبلت، لم يصح، حتى تذكر أمام الشهود الكتاب الذي فيه القول نصاً أو معنى، كأن تقول: كتب فلان يخطُبني فاشهدوا أني قد رضيت، أو تقرأ عليهم الكتاب نفسه ثم تقول: رضيت أو قبلت. فلو جاءها الكتاب فقرأته ولم يكن في المجلس شهود، فانتظرت مجلساً آخر فيه شهود فقرأت الكتاب وأعلنت القبول جاز، لأن الإيجاب باق إلى ذلك المجلس، هذا ما لم تكن أعلنت عن رفضها صراحة أو دلالة في مجلس فيه شهود قبل ذلك، وإلا سقط الإيجاب بالرفض الأول، ولم ينعقد بعد ذلك، إلا أن قبولها الثاني يعد إيجاباً جديداً، فإن لحق به قبول في المجلس صح، فإذا رفضت في مجلس لا شهود فيه، لم يعتبر الرفض، والإيجاب قائم.
فإذا أرسل لها رسولاً[24] يخطُبها مشافهة بدون كتابة، فإن أجابت بالرضا في مجلس بلوغ الرسول أمام شهود انعقد، فإن فات المجلس قبل رضاها بطل الإيجاب، سواء كان مجلساً فيه شهود أو لا، على خلاف الكتابة.
هذا ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الإشهاد شرط صحة لا شرط انعقاد، ولهذا لو قرأت الكتاب أو سمعت الرسول فأجابت في المجلس بالموافقة انعقد مطلقا،ً سواء وجد الشهود أم لا، ولكن ينعقد صحيحاً مع الشهود، وينعقد فاسداً بدون شهود، كالمشافهة تمامًا.
3- أن تكون الكتابة مستبينة: أي ثابتة باقية، كأن تكون على ورق أو خشب أو حجر.....، فإن كانت على الهواء أو الماء، لم ينعقد بها العقد.
4- أن تكون الكتابة مرسومة: أي أن تكون مكتوبة على الطريقة المألوفة في الالتزام، لأن من شروط الإيجاب والقبول الدلالة على القطع والجزم، والرسم أمر يتعلق بالعرف، فإذا كانت مكتوبة بغير التزام الرسم المعتاد، لم ينعقد بها العقد، لانتفاء دلالتها على الالتزام الجازم.
5- أن تكون بلغة يفهما كل من الموجب والقابل والشهود: لأن من شروط الإيجاب والقبول -كما تقدم– فهم كل من الموجب والشهود والقابل كلام الآخر، فإذا كتب عربي إلى أعجمي بالعربية، وكان الأعجمي لا يفهم ما كُتب إليه، فقال قبلت، لم ينعقد، هذا والمراد هنا الفهم العام لمعنى الكلام، دون الفهم الجزئي التفصيلي، فإنه غير مشروط لما تقدم.
الشروط المتعلقة بالإيجاب والقبول بالإشارة:
اتفق الفقهاء على انعقاد النكاح بالإشارة من العاقدين إذا كانا عاجزين عن القول والكتابة، كما اتفقوا على عدم انعقاده بالإشارة مع القدرة على القول.
وهل ينعقد بالإشارة مع القدرة على الكتابة؟
في المذهب الحنفي روايتان:
الأولى: ينعقد لاستوائهما في البدلية عن القول، وقد سار عليها قدري باشا في المادة (10) من كتابه الأحوال الشخصية.
والثانية: لا ينعقد، وهي رواية الأصل، وقد أخذ بها قانون الأحوال الشخصية السوري في المادة /10/ منه، وعلى ذلك مذهب أكثر الشافعية.
وقد اشترط الفقهاء لانعقاد النكاح بالإشارة شروطا أخرى إضافة إلى الشروط التي وردت في القول، والتي يجب توافرها كلها في الإشارة أيضاً، وهذه الشروط هي:
1- العجز عن القول والكتابة: فإذا كان العاقدان أخرسين وعاجزين عن الكتابة، انعقد النكاح بإشارتهما بالاتفاق، كما تقدم، فإذا كانا قادرين على الكتابة، فقولان عند الحنفية، تقدم بيانهما، فإذا كان أحدهما أخرس عاجزا عن الكتابة والثاني قادرا على الكلام، أو قادرا على الكتابة، صح من الأول بإشارته بالاتفاق، وأما الثاني، فلا يقبل منه إلا القول أو الكتابة، بشرط أن يفهم الأول أن المراد منها النكاح.
2- أن تكون الإشارة مفهومة: أي دالة على إرادته النكاح بوضوح، وذلك عند العاقد الثاني، فإذا لم تكن مفهومة عنده لم ينعقد النكاح بها بالاتفاق، وأما فهم الشهود لها أيضا،ً فهو شرط صحة لا شرط انعقاد، لأن الانعقاد يتم بغير شهود أصلاً، كما سوف يأتي.
2 - شروط الصحة:
أ- انتفاء المحرمية المختلف فيها بين الزوجين.
ب- أن يتولى العقد ولي المرأة.
ج - الإشهاد، ويشترط فيه شروط ، وهي :
1)) العقل.
2)) البلوغ.
3)) الحرية.
4)) الإسلام.
5)) التعدد.
6)) سماع كل من الشاهدين كلام الآخر وفهم معناه إجمالاً.
7)) العدالة.
8)) أن يكون الإشهاد في مجمل التعاقد.
د- عدم تقييد الصيغة بالوقت .
هـ- عدم الإكراه.
و - عدم الإحرام بحج أو عمرة.
ز - عدم نفي الصداق.
ح - عدم المرض المخوف.
ط - الكفاءة ومهر المثل.
ي - شروط النفاذ.
ك - شروط اللزوم.
أ- انتفاء المحرمية المختلف فيها بين الزوجين:
تقدم في شروط الانعقاد أن انتفاء المحرميَّة بين الزوجين المتفق عليها بين الفقهاء شرط انعقاد، وعلى ذلك فلو تزوج الإنسان بأمه أو ابنته نسباً كان عقده باطلاً، لاتفاق الفقهاء على تحريم هاتين المرأتين عليه، لورود النص القرآني صريحاً بذلك في قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ ........) (النساء:23)، سواء في ذلك أكانا عالمين بالتحريم وقت العقد أو لا، فإن ذلك لا يغير من بطلانه.
فإذا كانت المحرمية مختلفاً فيها بين الفقهاء المعتد بخلافهم، عد العقد معها صحيحاً عند من يقول بانتفاء المحرمية، وفاسداً لا باطلا عند من يقول بقيامها، سواء في ذلك المحرمية الدائمة أو المحرمية المؤقتة، سواء أيضاً أن يكونا عالمين بها عند العقد أو غير عالمين بها عنده، وذلك مثل الزواج بالخامسة في عدة الرابعة من طلاق بائن، فإنه صحيح عند الشافعية، فاسد عند الحنفية، وكذلك الزواج بمن رضعت من أمه مرة واحدة، فإنه فاسد عند الحنفية، للمحرمة المؤبدة بالرضاع، وصحيح عند الشافعية والحنبلية، لانتفاء المحرمية أصلاً، لأن الرضاع عندهم لا يثبت التحريم به بأقل من خمس رضعات، وهكذا.....، فما من زواج فاسد إلا وقد قال بصحته أحد الفقهاء المعتد بخلافهم، ولولا ذلك الخلاف لكان باطلاً، ولا يرد على هذا زواج المتعة الذي خالف الجعفرية فيه، فهو باطل عند الفقهاء رغم مخالفة الجعفرية فيه، لأن هذه المخالفة ساقطة الاعتبار، لمخالفتها للنصوص القوية الناهضة، وقد مر بيان ذلك.
ب- أن يتولى العقد ولي المرأة:
فقد ذهب الشافعية والحنبلية والمالكية، إلى أن عقد الزواج لا يتم بعبارة النساء أصلاً، ولا بد أن يقوم به عن المرأة وليها، فلو عقدته بعبارتها كان غير صحيح، وخالف الحنفية في ذلك، فأجازوا النكاح بعبارة المرأة كالرجل تماما، كما في سائر عقود المعاوضات، وعلى هذا فلو زوجت المرأة البكر البالغة نفسها بعبارتها، كان عقدها فاسداً عند الجمهور، وليس باطلاً، لخلاف الحنفية فيه، وأما الحنفية فالعقد عندهم صحيح إذا ما استكمل شرائطه الأخرى، وسوف يأتي مزيد تفصل لأحكام الولي.
ج- الإشهاد:
ذهب جماهير الفقهاء إلى القول باشتراط الإشهاد في النكاح، ثم اختلفوا فيما بينهم في بعض شروط الإشهاد كما سوف يأتي، وخالف ابن أبي ليلى، وأبو ثور، وأبو بكر الأصم، وتبعهم في ذلك الشيعة الجعفرية، وقالوا بعدم اشتراط اِلإشهاد في النكاح أصلاً، وعدوا نكاح السر نكاحاً صحيحا[25].
الأدلــــة :
استدل الجمهور لمذهبهم بالسنة الصحيحة، من ذلك:
1- ما رواه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (الْبَغَايَا اللاتِي يُنْكِحْنَ أَنْفُسَهُنَّ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ) أخرجه الترمذي .
2- ما رواه أبو الزبير المكي (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أُتِيَ بِنِكَاحٍ لَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ إِلا رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ، فَقَالَ هَذَا نِكَاحُ السِّرِّ وَلا أُجِيزُهُ وَلَوْ كُنْتُ تَقَدَّمْتُ فِيهِ لَرَجَمْتُ) رواه مالك في الموطأ.
3- ما رواه عمر ابن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل) رواه أحمد[26].
4- ما روته عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل، فإن تشاجروا فالسلطان ولي من لا ولي له) رواه الدر قطني[27].
5- كما استدلوا بأن الفارق المؤشر بين النكاح والسفاح هو الإشهاد، فكان لا بد منه لدفع اللبس، فكان واجباً.
واستدل النافون لشرطية الإشهاد، بأن الآيات القرآنية في شأن الزواج جاءت مطلقة وعامة لم يشترط فيها الإشهاد، من مثل قوله تعالى: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا) (النساء:3)، وقوله سبحانه: (وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (النور:32).
وأما ما ورد من السنة الشريفة السابقة فهو أحاديث آحاد لا يجوز تقييد مطلق الكتاب بها.
إلا أن الجمهور ردوا على ذلك بأن أخبار الآحاد هذه تعددت طرقها واشتهرت بين الصحابة، فجاز تقييد مطلق الكتاب بها، كما جاز تخصيص العام بها أيضاً.
وقد أخذ قانون الأحوال الشخصية السوري بقول الجماهير، ونص على اشتراط الشهادة لصحة النكاح، في المادة /12/ منه.
شروط الشهود:
يشترط لصحة الإشهاد شروط، اتفق الفقهاء في بعضها واختلفوا في بعضها الآخر، على الشكل الآتي:
أ- العقل: فقد اتفق الفقهاء على إلغاء شهادة المجنون والمعتوه، لأن الشهادة للإشهار والإعلام، وهذان لا يثق الناس بقولهما، فلا يحصل به إعلام، ثم إن في الشهادة نوع سلطة وولاية، وهذان لا ولاية لهما على أنفسهما، فأولى أن لا يليا على أحد، وكذلك فإن في الشهادة الاهتمام بالزواج، وأي اهتمام يكون إذا لم يحضره غير المجانين.
ب- البلوغ: كما اتفق الفقهاء على إلغاء شهادة الصغار، مميزين كانوا أو غير مميزين، للسبب الذي اشترط من أجله العقل نفسه.
ت- الحرية: فإذا كان الشهود عبيداً لم تصح شهادتهم، لأن العبد ناقص الأهلية كالصغير، فلا يعتد بشهادته، وقد قال باشتراط الحرية عامة الفقهاء، وخالف الإمام أحمد، وجوز العقد بشهادتهم[28].
ث - الإسلام: فقد اتفق الفقهاء على اشتراط إسلام الشهود إذا كان الزوجان مسلمين، لأن في الشهادة معنى الولاية، والله تعالى يقول: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً)(النساء: من الآية141).
فإذا كان الزوج مسلماً والزوجة كتابية، فقد ذهب الجمهور إلى اشتراط إسلام الشاهدين أيضاً كالمسلمَين، وخالف أبو حنيفة وأبو يوسف، وذهبا إلى جواز كون الشاهدين كتابيين من دين الزوج أو من دين آخر.
وقد اتجه قانون الأحوال الشخصية السوري إلى مذهب الجمهور، فنص في المادة /12/ منه على ما يلي: (يشترط في صحة عقد الزواج حضور شاهدين رجلين أو رجل وامرأتين مسلمين عاقلين بالغين سامعين الإيجاب والقبول فاهمين المقصود بهما).
ونص قانون الأحوال الشخصية الكويتي على ما يلي:
المادة 11
آ – يشترط في صحة الزواج حضور شاهدين مسلمين بالغين عاقلين رجلين سامعين معا كلام المتعاقدين فاهمين المراد منه.
ب – وتصح شهادة كتابيين في زواج المسلم بالكتابية.
ج - التعدد: فقد اتفق الفقهاء على صحة العقد بشاهدين رجلين، كما اتفقوا على عدم صحته بشهادة النساء وحدهن بدون الرجال، مهما بلغ عددهن، وعلى عدم صحته بشهادة رجل واحد لا ثاني معه، أو كان معه امرأة واحدة.
إلا أنهم اختلفوا في صحته بشهادة رجل واحد وامرأتين على قولين:
فذهب المالكية والشافعية والحنبلية، إلى عدم صحته بذلك احتجاجاً بقوله صلى الله عليه وسلم (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل)، ولأن الحكمة من الشهادة هي تكريم العقد وإشهاره، وذلك لا يتحقق إلا بشهادة الرجال.
وذهب الحنفية إلى صحته بشهادة رجل وامرأتين، قياساً على الشهادة في الأموال وسائر المعاوضات، في قوله تعالى: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى.....) (البقرة:282).
وعلى هذا فلو وكل الأب آخر بعقد زواج ابنته، فعقده مع الزوج بشهادة رجل واحد، فإن كان الأب الموكل حاضراً مجلس العقد صح العقد، وعد الأب مباشرا للعقد بنفسه حكما، وعد الوكيل شاهداً مع الشاهد الثاني فصح، ولو كان الأب غائباً عن مجلس العقد، لم يصح، لأن الأب لا يمكن عده مباشرا لغيبته، ولا الوكيل شاهدا،ً لمباشرته العقد حقيقة وحكماً.
وكذلك لو زوج الأب ابنته البالغة بأمرها ورضاها، وكانت حاضرة بنفسها مجلس العقد، فإنه يصح بمحضر شاهد واحد معهما، رجل أو امرأة ، لأن الأب يعد الشاهد الثاني هنا، وتعد البنت عاقدة بنفسها حكما -وهو جائز عند الحنفية- بخلاف ما لو كانت غائبة أو قاصرة، فإنه لا يصح.
هذا ولا بد من تعدد الشهود في المجلس الواحد، فلو زوجها بشاهد واحد، ثم كرر الزواج في مجلس آخر بشاهد آخر غير الأول، لم يصح العقد، لأنه لا بد من شاهدين في المجلس الواحد.
ح - سماع كل من الشاهدين كلام العاقدين وفهم معناه ولو بالجملة، فإذا كان الشاهدان أو أحدهما أصم أو نائماً أو سكران لا يعي ما يقال، لم يصح العقد، لإلغاء شهادته، هذا إذا كان العقد قد جرى باللفظ، فإذا جرى بالإشارة للخرس، اشترط رؤيتهما الإشارة، فإذا كانا أو أحدهما أعمى لم يرها، لم يصح.
وكذلك فهمها كلام العاقدين، فإنه شرط صحة العقد، لأن الغاية من الشهادة لا تتم إلا به، إلا أن الفهم المطلوب هنا هو الفهم العام، بأن يعلما أن هذا الكلام يدل على الزواج ولو لم يفهما دقائق معناه، فإذا كانا لا يفهمان لغة المتعاقدين، ولم يفهما أنهما أرادا الزواج أصلاً، لم يصح العقد، لعدم الاعتداد بشهادتهما هنا.
خ - العدالة: العدالة هي ملازمة التقوى والبعد عن الدناءات، وقد اشترط العدالة في الشهود جمهور الفقهاء، وخالف الحنفية، فقالوا يصح الزواج بشهادة العدل والفاسق.
الأدلـــــة:
استدل الجمهور لمذهبهم بما تقدم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل).
ثم بأن الشهادة في الزواج إنما اشترطت لإشهاره وتكريمه، وهذا لا يحصل بشهادة الفاسق.
واستدل الحنفية لمذهبهم، بأن الشهادة لصحة الزواج غيرها لإثباته، ولهذا صح بشهادة الابن، ولم يثبت عند الإنكار بشهادة الابن، فلم يقس عليه، ثم إن الفاسق يصح أن يعقد لنفسه، وهو ركن، فيصح أن يشهد لغيره، وهو شرط في الركن، ثم إن التكريم يحصل بشهادة الفاسق كالعادل، وأجابوا عن الحديث الشريف السابق، بأنه للإرشاد والنصح لا للإيجاب.
وقد مشى قانون الأحوال الشخصية السوري على قول الحنفية، كما مشى عليه المشرع المصري أيضاً، وكذلك القانون الكويتي.
د - عدم التواطؤ على كتمان العقد[29]:
فإذا أوصى الزوج الشاهدين بكتمان العقد مطلقاً، أو مدة من الزمان، أو كتمانه عن امرأة معينة، أو أهل منزل معين، لم يصح العقد، ووجب فسخه عند المالكية خاصة، وذهب الحنفية والشافعية والحنبلية إلى صحته مطلقاً، لأن وجود الشهود أنفسهم إشهار يصح العقد به، ويخرج عن السر إلى العلن، فلا يشترط ما رواءه، ثم إن وصية الزوجين الشاهدين بالكتمان لا تلزمهما، ويكون لهما إذاعته، فيحصل المراد.
فإذا كان الموصِي بالكتمان غير الزوج، كالزوجة أو وليها، أو كان الموصي به غير الشهود، صح العقد بالاتفاق.
ذ - أن يكون الإشهاد في مجلس التعاقد:
فقد اتفق الجمهور أن وقت الإشهاد هو مجلس التعاقد، فإذا تعاقدا بدون شهود، ثم أعلنا ذلك بعد المجلس، لم يصح، وخالف المالكية، وقالوا: الإشهاد في مجلس التعاقد مستحب، ولكنه واجب قبل الدخول، فإذا دخل بها قبل الإشهاد والإعلان، فسد العقد وفرق بينهما، وإذا أشهدا وأعلنا قبل الدخول، فلا شيء عليهما، وبذلك يكون الإشهاد والإعلان شرط تمام عندهم، وليس شرط صحة.
وقد أخذ قانون الأحوال الشخصية السوري في هذا بمذهب الجمهور، واشترط الإشهاد في مجلس التعاقد وإلا فسد العقد، ونص على ذلك في المادة / 12 / منه[30]، وكذلك القانون الكويتي في المادة (11) منه.
ح- عدم توقيت العقد:
فإذا وقت العقد بمدة، بأن قال تزوجتك إلى شهر أو سنة أو عشرين سنة، لم يصح، مهما طالت المدة، وخالف زفر من الحنفية، وقال: بل يصح ويلغو الوقت، مشياً على القاعدة الفقهية الكلية: (عقد النكاح لا يفسد بالشرط الفاسد).
الأدلــــة:
احتج الجمهور بأن النكاح المؤقت مثل المتعة، لا فارق بينهما غير اللفظ، فهذا بلفظ النكاح وتلك بلفظ المتعة، وهو غير مؤثر، فتكون مثله، والمتعة باطلة بالاتفاق كما تقدم، ولا قيمة لخلاف الجعفرية فيها، لسقوط الدليل في كون الزواج المؤقت غير صحيح مثلها، إلا أن هذا خالف فيه زفر، فيكون فاسداً لا باطلاً، على خلاف المتعة.
خ- عدم الإكراه:
فإذا زوج الأب ابنته غير القاصر، أو الوكيل موكلته، أو الإنسان نفسه من غيره مكرهاً بوسيلة من وسائل الإكراه المعنوي أو المادي، السلبي أو الإيجابي، وقع العقد فاسداً عند جمهور الفقهاء، وخالف الحنفية، وقالوا هو صحيح[31].
الأدلــــة:
استدل الجمهور لمذهبهم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ) رواه ابن ماجه.
واستدل الحنفية بالقياس على الهازل، فإن نكاحه صحيح مع عدم قصده، لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ثَلاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ النِّكَاحُ وَالطَّلاقُ وَالرَّجْعَةُ) رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه، فكذلك المكره.
د- عدم الإحرام بحج أو عمرة:
اتفق المالكية والشافعية والحنبلية على أن الزوج أو الزوجة أو ولي الزوجة إذا كانوا أو أحدهم محرماً لم يصح العقد، وكذلك وكيل كل منهم، وعلى هذا فلو كان الزوج محرماً وعقد لنفسه، أو وكل غيره قبل إحرامه ثم أحرم، فعقد الوكيل العقد وهو محرم أو حلال، لم يصح العقد، فإذا وكل الزوج الحلال، آخر ثم لم يحرم، ولكن الوكيل هو الذي أحرم، فإن عقد الوكيل العقد وهو محرم لم يصح، سواء في ذلك الإحرام بالحج أو بالعمرة أو بهما معاً، وذلك لأن الإحرام نوع تزهد وبعد عن ملذات الدنيا، والزواج واحد منها، وسواء في ذلك طالت مدة الإحرام أو قصرت، فلو شهد المحرم على عقد غيره جاز، وإن كره ذلك تنزيها، لأن العقد ليس له.
وخالف الحنفية في ذلك، وقالوا بصحة زواج المحرم مطلقاً، أصيلاً كان أو وكيلاً أو ولياً.
واستدلوا لذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم: (تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ) رواه البخاري، وفعله صلى الله عليه وسلم يدل على الجواز ما لم يقم دليل الخصوصية، ولم يقم دليل الخصوصية هنا.
هذا كله في حق العقد، وأما الدخول والوطء، فهو محرم على المحرم بالاتفاق، ومفسد لإحرامه.
ذ - عدم نفي الصداق:
اتفق الفقهاء على صحة الزواج مع السكوت عن الصداق، على خلاف السكوت عن الثمن في البيع، فإنه مفسد له، وفي هذه الحال يجب مهر المثل بالدخول، ويسمى زواج التفويض، وتسمى الزوجة مفوّضة، وإن كان ذكر المهر مستحب، وذلك لأن الصداق أثر من آثار العقد، وليس شرطاً فيه.
إلا أنهم اختلفوا في نفي المهر، فإذا نص في العقد على أن لا مهر للزوجة، فقد ذهب الجمهور إلى صحته أيضاًَ، ويثبت للزوجة بالدخول بعده مهر مثلها، كما في التفويض، وخالف المالكية في ذلك، وقالوا لا يصح العقد، وكذلك لو ذكر في العقد ما لا يصلح مهراً، كالخمر والخنزير، فإنه لا يصح عند المالكية، ويصح عند الجمهور.
وقد أخذ قانون الأحوال الشخصية السوري بقول الجمهور، ونص عليه في المادة (53) منه وهذا نصها: (يجب للزوجة المهر بمجرد العقد الصحيح، سواء أسمي عند العقد أم لم يسم أم نفي أصلاً).
وكذلك فعل القانون الكويتي في المواد(52-55).
ر- عدم المرض المخوف:
إذا كان الزوج أو الزوجة حين الإقدام على العقد مريضاً مرضاً مخوفاً، وهو الذي يؤدي للهلاك غالباً، كالسل والسرطان و.... إذا وصل إلى درجة تعذر فيها علاجها، فغالب الظن أن الغاية منه ليست الائتناس والإنسال، وهي غاية الزواج الأصلية، وإنما الخدمة أو المشاركة في التركة.....، وهي غايات تخالف غاية الزواج، وتبتعد عنه، ولهذا ذهب المالكية إلى أن الزواج في هذه الحال غير صحيح، لانتفاء غايته الأصلية، ويجب فسخه والتفريق بين الزوجين فوراً، فإن فسخ قبل الدخول فلا شيء للزوجة، لفساد العقد، وإن فسخ بعده كان للمرأة المهر المسمى لها فيه، فإذا مات الزوج قبل فسخه كان لها الأقل من ثلاثة، هي ثلث التركة، أو المهر المسمى، أو مهر المثل.
وذهب الجمهور إلى صحة هذا الزواج، مادام مستكملاً شروطه الظاهرة، ولا عبرة بالنيات.
ز- الكفاءة ومهر المثل:
الكفاءة ومهر المثل شرط لزوم في الزواج، وليسا شرط صحة فيه، وسوف يأتي تفصيل أحكامهما في مبحث مستقل في الكلام على الخيارات آخر شروط الزواج، إلا أن الكفاءة ومهر المثل يكونان شرط صحة في حالة معينة خاصة لا بد من الإشارة إليها هنا، تتميماً للبحث، وهي حالة ما إذا كان الزوج أو الزوجة أو كلاهما قاصراً، وقد زوجه وليه بحق الولاية، ففي هذه الحال يعد مهر المثل والكفاءة شرط صحة فيه، فإذا فاتا أو فات واحد منهما عد العقد فاسداً.
هذا إذا كان الولي هو غير الأب والجد والابن، فإن كان الولي واحدا من هؤلاء الثلاثة، صح العقد بدون اشتراط أي من مهر المثل أو الكفاءة، وذلك لما يظن فيهم من كمال الشفقة والحرص على المصلحة، فيقدر أن وراء هذا التساهل مصلحة غالبة، فيصح لهذه المصلحة المظنونة، وذلك ما داما معروفين بالأمانة وحسن التصرف، وإلا اشترط لصحة عقدهما مهر المثل والكفاءة كسائر الأولياء.
هذا مذهب أبي حنيفة.
وذهب الصاحبان من الحنفية، إلى أن الكفاءة ومهر المثل شرط لزوم في حق الصغار إذا كان المزوج الأب أو الجد أو الابن، وشرط صحة إذا كان المزوج غيرهما من الأولياء.
3- شروط النفـــاذ:
شروط النفاذ هي الشروط التي إذا افتقدها العقد عد صحيحاً موقوفا،ً فإذا ما توافر الشرط المفقود بعد ذلك نفذ العقد بأثر رجعي إلى تاريخ انعقاده، وشروط نفاذ الزواج تجتمع في شرط واحد هو الولاية، ونقصد بها هنا أن يكون كل من العاقدين مفوضاً بإجراء العقد، ومسلطاً عليه، سواء كان العقد لنفسه أو لغيره.
والقاعدة الأساس هنا، أن كل عاقل بالغ حر هو مسلط على تزويج نفسه، مع الإشارة هنا إلى خلاف جمهور الفقهاء في ولاية المرأة على نفسها، وسوف يأتي بتفصيل في مبحث الولاية.
فإذا زوج البالغ العاقل الحر نفسه زواجا مستكملا لشروط انعقاده وصحته، كان زواجه صحيحا نافذا،
أما إذ زوج نفسه بدون ذلك، فإن كان عديم الأهلية، كالمجنون وغير المميز، كان زواجه باطلاً، لما تقدم، من أن أصل الأهلية شرط انعقاد، وإن كان ناقص الأهلية كالمميز، كان زواجه صحيحاً موقوفاً، لانعدام ولايته على نفسه.
أما تزويج الإنسان غيره، فلا سلطان له عليه إلا بتفويض من الشارع، أو ممن له الولاية على العقد.
أما الأول فيكون بتزويج الولي من تحت ولايته من القاصرين، بشروطه التي سوف تأتي في الولاية، كتزويج الأب ابنه، والأخ أخته......
وأما الثاني فيكون بتزويج الوكيل موكله، بشروطه التي سوف تأتي في مبحث الوكالة في الزواج.
فإذا خلا الزواج عن الولاية في أي من صورها السابقة، كان موقوفاً.
4- شروط اللزوم:
شروط اللزوم هي الشروط التي إذا فاتت أو واحد منها كان العقد غير لازم، والعقد غير اللازم عقد صحيح نافذ، إلا أن لمن ثبت سلب اللزوم لحقه من العاقدين أو غيرهما حق فسخه بإرادته المنفردة.
ذلك لأن الأصل في عقد الزواج أن يكون لازما لا خيار فيه لأحد، لأن غايته وهي السكن النفسي والإنسال لا تتم إلا بذلك، ولهذا لم يثبت فيه خيار الرؤية ولا خيار العيب ولا خيار الشرط -كما تقدم – إلا أن عقد الزواج قد يمس حقاً للعاقدين أو غيرهما، وفي هذه الحال لا بد من حماية صاحب الحق، ولهذا أثبت الفقهاء انتفاء اللزوم عن عقد الزواج في حالات متعددة، اتفقوا في بعضها واختلفوا في بعضها الآخر، وذلك حماية لهذه الحقوق.
لهذا نستطيع القول بأن شرط لزوم عقد النكاح هو انتفاء الحق في فسخه، أو انتفاء الخيار في فسخه، وسوف نبين في مبحث لاحق الخيارات أو الحالات التي يثبت فيها حق الفسخ لأي من العاقدين أو غيرهما، وأحكام ذلك.
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن كلاً من البطلان والفساد والتوقف لا يكون إلا مطلقاً، أما سلب اللزوم فهو نسبي، ونعني بذلك أن البطلان والفساد والتوقف إذا ثبت أي منها كان ثبوته مطلقا في حق كل من له علاقة بالعقد، فإذا تزوجت مسلمة بمجوسي كان العقد باطلاً في حق الرجل، وفي حق المرأة، وفي حق الغرباء ولهذا جاز لأي من المسلمين بعد هذا العقد أن يعقد على هذه المرأة، لبطلان العقد في حقه، وكذلك لو تزوج مسلم مسلمة بدون شهود، فإن العقد فاسداً في حقهما، وحق غيرهما، ولهذا فإن الواجب على الزوج فسخ العقد، وكذلك الزوجة، وكذلك القاضي إن علم به، دون حاجة إلى رفعه من أحد إليه، وكذلك في التوقف.
أما سلب اللزوم فيكون في حق من ثبت هذا الحق لمصلحته دون غيره، فلو عقد رجل لأخته القاصر على بالغ عاقل كفء بمهر المثل، كان العقد صحيحا غير لازم في حق الزوج فقط، فيكون لها الخيار بالبلوغ، أما الزوج فالعقد في حقه لازم، ولا خيار له في فسخه مطلقاً.....
[1] المغرب ومختار الصحاح والمصباح مادة (شرط).
[2] ابن عابدين 3/15.
[3] ابن عابدين 3/15.
[4] ابن عابدين 3/26.
[5] ابن عابدين 3/9 , 4/506 , ومغني المحتاج 3/139 – 140 , وكتابنا فقه المعاوضات 1/178.
[6] انظر كتابنا فقه المعاوضات 1/188 , وابن عابدين 3/14.
[7] الدر المختار 3/53 , ومغني المحتاج 3/141.
[8] مغني المحتاج 3/140, وابن عابدين 3/16.
[9] انظر المادة /3/ من مجلة الأحكام العدلية، وكتابنا المدخل الفقهي ص18.
[10] انظر نهاية المحتاج 6/212.
[11] انظر ابن عابدين 3/18-19.
[12] انظر كتابنا فقه المعاوضات 1/185.
[13] أبو زهرة ص51 عن تبيين الحقائق للزيلعي.
[14] المغني 7/16, وأبو زهرة ص65، وعمر عبد الله ص79.
[15] انظر كتابنا فقه المعاوضات /200 وما بعدها.
[16] أخرجه الحاكم عن أبي حنيفة، وفي السنن مثله بألفاظ مقاربة، نصب الراية 4/17-18.
[17] انظر كتابنا فقه المعاوضات /207 وما بعدها.
[18] شعبان ص109-110.
[19] أبو زهرة ص167.
[20] شعبان ص109-110 وابن جزيء ص242.
[21] ابن عابدين 3/124.
[22] أبو زهرة ص167-169.
[23] أبو زهرة ص167.
[24] الرسول غير الوكيل، وأحكامهما مختلفة في المعاوضات جميعاً, فإذا قالت له أبلغ فلاناً أني قد زوجته نفسي، فهو رسول, ولو قالت زوجني من فلان، كان وكيلاً.
[25] انظر شلبي ص105 عن كتب الشيعة.
[26] نيل الأوطار 6/142
[27] نيل الأوطار 6/143
[28] المغني 6/485.
[29] انظر الدسوقي 2/236.
[30] ابن رشد 2/18.
[31] ابن عابدين 3/21 .