مقدمة:
الحمد لله رب العالمين، منزل الإسلام الحكيم على نبيه الأمين، محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، تشريعاً حكيماً ينظم للناس علاقاتهم على أسس العدالة الحقة والنظام القويم، والصلاة والسلام على من بعثه ربه رحمة للعالمين بشيراً ونذيراً، وعلى آله وأصحابه مصابيح الهدى وأئمة الدين الذين اقتدوا بسنته الراشدة، ونشروا شرعه بالحكمة والموعظة الحسنة، فملؤوا الدنيا علماً وعدلاً ويمناً، ومن تبع هداهم وسار على منوالهم إلى يوم الدين.
وبعد: فإن المرأة عبر العصور حظيت باهتمام بالغ وجهد كبير من قبل العلماء والقادة والباحثين على اختلاف نزعاتهم وتعدد مشاربهم، وعلى تنوع تخصصاتهم وعلومهم ومجالات بحوثهم، كما أن الشرائع السماوية المختلفة من عهد آدم عليه السلام إلى خاتم الأنبياء محمد عليه الصلاة والسلام عنيت بالمرأة أشد العناية، وحرصت عليها أشد الحرص، وفي نصوص القرآن الكريم وما سبقه من الكتب السماوية كالتوراة والإنجيل ما يشهده لهذه العناية الكبيرة بها، وهذا الاهتمام البالغ بحقوقها.
إلا أن هذه الدراسات وتلك البحوث الوضعية كانت تختلف فيما بينها في تكوين مفهوم عن المرأة، ورسم صورة واضحة لها، وبالتالي تختلف في بيان ما لها وما عليها من الحقوق والواجبات، وذلك تأثراً بالبيئة والعادات تارة، وانسياقاً مع جموح خيالي ورغبات عاطفية تارة أخرى، وربما تأثراً بمخلفات فكرية قديمة وترسبات عقدية سالفة في بعض الأحيان، وجرياً وراء مصالح مادية آنية في كثير من الأحيان أيضاً.
فبينما أقرت بعض الدراسات حق المرأة في الحياة، وجعلتها إنساناً كالرجل تماماً، نزلت بها دراسات أخرى إلى مرتبة الحيوان المسخر لمصلحة الرجل لا تفترق عنه إلا في أنها تستطيع أن تؤمن للرجل متعة أكبر من الحيوانات الأخرى. وبينما منحتها بعض الأنظمة والقوانين بعض الحقوق قبل الرجل، منعتها أنظمة أخرى كل حق لها حتى حقها في الحياة، فإنه مرهون بيد الرجل، يستبقيها إذا شاء ويعدمها عندما يريد لا لذنب جنته إلا لأنها خلقت أنثى، وعبر هذا الصراع الطويل في طول التاريخ كانت المرأة تكافح وتناضل في سبيل الوصول إلى حقوقها قبل مجتمع الرجال، فكانت مرة تصيب بعض التقدم، وأخرى تخفق في مسعاها وتعاني في أثر ذلك آلام الفشل وضراوة العقاب، وهي في مساعيها هذه تلقى أذناً صاغية وتأييداً من بعض المخلصين من الرجال القادة والعلماء أحياناً، إلا أنها تلقى المحاربة والعداء الشديد من أكثر الرجال الآخرين الذين لا يهمهم إلا توفير مصالحهم وتأمين شهواتهم في أكثر الأحيان، وهؤلاء ربما أظهروا لها المودة والزلفى بادئ ذي بدء، وربما تزيوا بزي المتعاطف معها المؤيد لها، وفي نفوسهم الكيد لها والضحك عليها وتوريطها فيما يؤمن لهم رغباتهم ونزواتهم منها، ويوصلهم إلى ما يريدون بدون جهد ولا تعب فيزينون لها طريق السوء، ويوحون لها بالكشف عن مفاتنها، ومخالطة الرجال في مجتمعاتهم، ومشاركتهم في أعمالهم، والتقدم عليهم في جلساتهم... بدعوى تحريرها ومساعدتها في الوصول إلى حقها في المساواة مع الرجال، ويخفون في أنفسهم الكيد لها، وتوريطها فيما يدمرها ويخرجها عن أنوثتها التي خلقت لها، وتأمين رغباتهم منها، مثلهم في ذلك مثل زوجة الأب التي حملت ابن زوجها الصغير على ظهرها ليل نهار بدعوى حبها له وحرصها عليه، وهي في الواقع إنما تفعل ذلك لعدم تمكنها من النظر إليه كراهية وحقداً.
وقد كانت المرأة في كفاحها ونضالها في سبيل حقوقها عبر الأجيال والحقب، وفي مختلف الظروف والبيئات، تصيب الهدف حيناً فتلقى طلباتها الأذن الصاغية وتخطئه أحياناً كثيرة فتشتط بالطلب وتضل الطريق إلى الهدف الصحيح، فتخبط خبط عشواء وتقع فريسة أهواء ورغبات الشاذين المنحرفين والضالين المضلين من الرجال أصحاب المصالح الخاطئة، فتلقى بذلك الاستنكار والعداء من العقلاء والمفكرين والقادة والمصلحين، لا رفضاً لحقوقها ولكن إنكاراً عليها شططها وخروجها عن حد الاعتدال.
وبقي الأمر كذلك دون استقرار حتى جاء الإسلام الحكيم، شرع الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، بدستوره السماوي العادل، وقرآنه البين الواضح، فوضع الأمور في مواضعها، وأوضح الحقوق لأصحابها، دون هوى أو جموح، أو ميل أو جنوح، فأثبت للمرأة حقوقها وألزمها بواجباتها مثل ما فعل مع الرجال تماماً، فاتضح بذلك الحق وزال الزيف، وانجلى الصراط المستقيم وانمحى الطريق المعوج الأثيم، واستقام الأمر على حده العادل، إلا أن هذا الحق لم يرق لبعض الرجال الآثمين، والشهوانيين العابثين بالمرأة وأقدارها الذين أرادوها سلعة بين أيديهم، وفريسة لأهوائهم ونزواتهم، وزهوراً على موائدهم، فإذا ما ذبلت ألقوا بها في القمامات، وكذلك فإنه لم يرق للنساء اللواتي غوين وهبطن عن مستوى الفضيلة اللائقة بهن، والكرامة المناسبة لهن، فاعتدن الترجل، وهوين الغواية والنزول بمستوى الفضيلة إلى الحضيض دون مبالاة بالحق والعدل الذي يهدر تحت أقدامهن، والأخلاق والمكارم التي تندثر إثر فعلهن، والحضارات والأمم التي تفنى من عملهن وتتهدم بسلوكهن، وهن في الكثير الكثير عالمات بخطورة عملهن وبجنوحهن وانحرافهن، إلا أن تورطهن أغواهن، وجعل من المستحيل عليهن الاعتدال بعد الهبوط، وذلك يظهر في تربيتهن لبناتهن، فإنهن يجنبنهن كثيراً مما وقعن هن فيه من الخطأ، ويبعدنهن عن كثير مما كن ينادين به ويتظاهرن بالإيمان به وبضرورته، زوراً وبهتاناً، وما لذلك من تعليل إلا معرفتهن لخطورة هذا العمل وسوئه.
إلا أن الله تعالى يأبى إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون، فانتشر نور الحق على الآفاق، وخفقت راية الإسلام في البلاد، ودان لها العباد من النساء والرجال، فقامت الحضارة، وعمت المدنية، وانتشر العلم، وتمتع الناس جميعاً بأمنة العدل في كل البلاد التي وصل فيها الإسلام إلى القلوب، وعم بها النفوس وأنار العقول.
إلا أن أعداء الإسلام، أعداء الحق والعدل والاستقرار، لم يعجبهم ذلك الانتصار، ولم يرقهم لما فوت عليهم من مصالح خاصة كانوا يتمتعون بها على حساب العدالة والحق، والحضارة، والطمأنينة، فرفعوا راية العصيان والعداء، وجاهروه بالسلاح والقتال، فحاربهم بالدليل والبرهان وقارعهم بالسيف والسنان، وما لبث كذلك أمامهم عبر الأجيال، ينوع لهم التصحيح بحسب ما ينوعوا له من أساليب العداء، فهو معهم بالدليل كلما لجؤوا إلى الدليل، وهو معهم بالصبر والمصابرة كلما لجؤوا إلى المهادنة، وهو معهم بالسيف والرمح كلما لجؤوا إلى العنف والسلاح، وسيبقى ذلك الصراع قائماً إلى ما شاء الله تعالى.
وقد اقتضاني ذلك الخضم المتلاطم من البحوث والأفكار والمبادئ والأنظمة والتشريعات المختلفة إلى تجلية نظام الإسلام في المرأة، ونظرته إليها، وتنظيمه لحقوقها وواجباتها، بياناً للواقع وإظهاراً للحق بأجلى أسلوب، وبأوضح بيان وبأقصر طريق، على وجه ينتفع به عامة نساء المسلمين فيعرف كل منهن ما له من الحقوق فلا يتعداها إلى ما ليس له، ولا يقصر في طلبها والوصول إليها. وأقصد بعامة النساء، أولئك النساء من العوام اللواتي لم يفزن بقسط جيد من الثقافة، وكذلك النساء المثقفات اللواتي حصلن على قدر جيد من الثقافة العامة غير الشرعية، فهؤلاء جميعاً بحاجة ماسة فيما أظن إلى ما جاء في هذا الكتاب، أما النساء المثقفات ثقافة إسلامية جيدة فهن في غنى عن كتابي هذا في الغالب لقدرتهن على الاطلاع على أمهات الكتب الإسلامية والموسوعات الفقهية المتخصصة التي هي المعين الثر الذي لا ينضب للأحكام الإسلامية.
وتوفية لهذه الغاية وانطلاقاً من الهدف الذي أوضحته عمدت إلى بيان الأحكام مجردة عن التعليل والتعليق والتمهيد، وذلك لا يماني بأن المكتبة الإسلامية غصت بالأفكار الكثيرة والمؤلفات العديدة التي تحوي التبريرات المختلفة القائمة على أسس موضوعية تارة، وغير القائمة على أي أساس تارة أخرى، إلا العواطف والأماني والتبريرات العجفاء مما يعد كلاماً إنشائياً وتعليلات شكلية لا تلبث أن تهوي وتنكشف، ولم يعد في هذه المكتبة زيادة لمستزيد من ذلك، وأن الأمر يقتضينا الاقتضاب ما أمكن والاختصار ما وجدنا إليه سبيلاً,بأن نقدم الحقائق مجردة لا يدعمها إلا ما فيها من حق ورشاد وعدل.
وإنني عمدت في كتابي هذا إلى الإغضاء عن الخلافات المذهبية، بعيداً عن التعصب لمذهب معين تارة، وتوفية وتأميناً لحاجة المقلدين لمختلف المذاهب أحياناً أخرى، فكنت أختار القول الأوفق والأرفق بالمسلمين من المذاهب الأربعة، وأشير أحياناً إلى مواطن الاختلافات المذهبية في النقاط الرئيسية الهامة، ثم إنني لم أذكر الأدلة الفروعية، اختصاراً للوقت والجهد، وليكون هذا الكتاب في يد كل النساء، بل الرجال كذلك يرجعون إليه كلما أغمض عليهم أمر أو التبس عليهم حق، سيما وأنه لم يوضع للمتخصصين في الفقه كما قدمت، إلا أن هذا الأسلوب قد لا يرضي أولئك النفر من المعاندين المجادلين الذين لا يرضيهم رأي لم يقولوا به، ولا مذهب لم يوافق هواهم، وليس في ذلك ضير، فإنهم لن يقنعهم دليل مهما كان صحيحاً، ولا تعليل مهما كان دقيقاً، وعلى كل فإن الموسوعات الفقهية أمامهم، والأدلة والمصادر الشرعية بين أيديهم وفيها كل ما يطلبون ويرجون.
وقد اعتمدت في كتابي هذا على أوثق المصادر وأدق المراجع مما شهد المسلمون جميعاً له بالصحة والدقة، إلا أنني لم أعز إلى هذه المصادر جنوحاً نحو الاختصار أيضاً إلا ما كان منها قرآناً وسنة، فإنني عزوت الآيات الكريمة إلى مكانها من القرآن الكريم، والأحاديث الشريفة إلى مواطنها من كتب الحديث الموثوقة.
وإنني بهذا الأسلوب الذي رأيته أرجو أن أوفي ما قصدت إليه من تجلية حقوق المرأة المسلمة بأوضح صورة، وبذلك أكون قد وضعت مرجعاً مختصراً موثوقاً في يد كل مسلمة مما يجعلها تعرف كل ما لها في الإسلام من حقوق وأحكام مما يملأ قلبها عزة بإسلامها، وحباً به وتقديراً له، كما أن هذا الكتاب يكشف للمرأة المسلمة عن أحكام ضرورية لها كثيراً ما تخجل من السؤال عنها وتفضل الجهل بها على السؤال عنها لظروف وعادات خاصة، مما يتسبب عنه فساد عباداتها لله تعالى وذلك مثل أحكام الحيض والنفاس والاستحاضة، هذا ولا يغني في هذا المقام تلك المطولات والموسوعات الفقهية، لأنها كتب متخصصة كتبت بأسلوب علمي خاص لا يكاد يفهمه إلا المتخصصون، فضلاً عن سعتها.
وإن بحوث كتابي هذا كتب أكثرها على شكل مقالات لتنشر في بعض المجلات الإسلامية، وبعضها قد نشر فعلاً، إلا أنني آثرت جمعها ورصها أخيراً إلى بعضها في كتاب واحد على نشرها في مقالات متلاحقة ليكون وصولها مجتمعة إلى كل مسلمة أوثق وآكد.
وقد قدمت بتمهيد عرضت فيه بعضاً من حال المرأة لدى الأمم القديمة ولدى العرب في الجاهلية قبل الإسلام، ثم حال المرأة في الإسلام إجمالاً لتكون المقاربة بين الحالين أسهل وأوضح.
والله تعالى أسأل أن يجعل ما قدمته خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفع به عباده المتقين، والحمد لله رب العالمين.
15 ربيع الثاني 1400هـ
أ.د. أحمد الحجي الكردي