نظرية انحلال الزواج
لدى الأمم القديمة، وفي القوانين العربية والأجنبية
تمهيد:
لقد قضت حكمة الله جل وعلا أن يستديم الإنسانية على وجه الأرض عن طريق التوالد والاتصال بين الجنسين الذكر والأنثى، فقد خلق الله الناس من ذكر وأنثى، فقال جل من قائل: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}([1]). وذلك ليس خاصاً بالإنسان وحده، ولكنه سنة الله تعالى في خلقه جميعاً، بما في ذلك الحيوان والنبات، فإنها تتألف من أزواج ولا يتم استمرار الجنس فيها إلا بالاتصال بين الزوجين، وقد أفصح القرآن الكريم عن هذا المعنى فقال عز وجل: { فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}([2]),وقال تعالى: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}([3]).
وليتم الاتصال بين الذكر والأنثى ويؤتي ثماره خلق الله الشهوة في نفسيهما كل نحو الجنس الآخر، ليتحقق بذلك السكن النفسي بينهما، والالتئام الخلقي بين جنسيهما، حتى كأنهما جسد واحد ونفس واحدة. وقد أعرب القرآن الكريم عن هذا المعنى بقوله سبحانه: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}([4]).
ولهذا فقد عنيت الديانات السماوية كلها بأمر الزواج، فحضت عليه، ونظمت أحكامه، وآثاره، وطرقه، وأقامته على أسس تكفل للحياة الإنسانية الدوام والسعادة.
ففي الشريعة الإسلامية جاء القرآن الكريم يحض المؤمنين على الزواج، كما جاءت السنة الشريفة ترغب به وتحض الشباب عليه، وتبين لهم محاسنه وأهدافه، قال تعالى: { فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ}([5])، وقال سبحانه: { وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}([6]). وقال صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)([7])، وقال: (تناكحوا تناسلوا تكثروا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة) ([8])، وقال: (النكاح سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني) ([9]).
واستدلالاً واستشهاداً بهذه النصوص الشريفة,ذهب بعض فقهاء المسلمين إلى أن الزواج فرض على كل مسلم ومسلمة، إلا أن جماهير الفقهاء من المسلمين ذهبوا إلى أنه مندوب في الحالات العادية، وفي حالات خاصة قد يصبح فرضاً أو يكون محرماً، ذلك أن النصوص الآمرة بالزواج تعددت من الشارع، فلا أقل من أن تدل على الندب، ولا يمكن أن تدل على الفرضية لأن الزواج يقوم على الرغبة الداخلية والشهوة، وهما أمر خفي يتفاوت الناس فيه، ولا سلطان لأحد على عواطفه ومشاعره الداخلية، فكان في اعتباره فرضاً حرج كبير بالناس، والحرج مرفوع شرعاً.
إلا أنه تعبر النكاح فرضاً إذا زاد الشبق، واشتد الخوف من الوقوع في الزنا بعد توفر أسبابه، كما يعتبر محرماً إذا خاف الرجل على زوجته الظلم ولم يشتد شبقه.
وكذلك الديانة اليهودية فقد حضت على النكاح، ورغبت الشباب فيه، حرصاً منها على زيادة النسل التي هي دعامة للأمة، ومكمن عظمتها وقوتها في كل زمان ومكان. واعتبرت اليهودية الزواج فرضاً على كل يهودي ويهودية مستطيعين له. فقد جاء في التوراة: [ذكراً وأنثى خلقهم وباركهم الله، وقال لهم أثمروا وأكثروا، واملؤوا الأرض وأخضعوها، وتسلطوا على سمك البحر وطير السماء، وعلى كل حيوان يدب على الأرض]([10]) كما جاء في التوراة: [وقال الرب الإله ليس جيداً أن يكون آدم وحده فأصنع له معيناً نظيره، فأوقع الرب الإله سباتاً على آدم فنام، فأخذ واحدة من أضلاعه وملأ مكانها لحماً، وبنى الرب الإله الضلع التي أخذها من آدم امرأة، وأحضرها إلى آدم، فقال آدم: هذه الآن عظم من عظامي ولحم من لحمي، هذه تدعى امرأة لأنها من امرء أخذت]([11]) وقد جاء في التوراة الأمر بالنكاح صريحاً: [فأثمروا أنتم وأكثروا وتوالدوا في الأرض وتكاثروا فيها]([12]).
والمسيحية كذلك رغبت في الزواج ولكن بطريق غير الطريق المباشر التي اتبعتها الشريعتان الإسلامية واليهودية، فقد نزلت المسيحية في عوم عمت فيهم المادية حتى طغت على كل تصرفاتهم، وشغلت كل إمكاناتهم، فقست لذلك قلوبهم، وابتعدت عن المثل الروحية، فكان لزاماً لذلك أن تهتم هذه الديانة بالمثل الروحية، والتنفير من الإغراق في المادية ومتع الحياة وملذاتها، ولما كان الزواج من متع الحياة لما فيه من تخلص من ألم الشهوة، وإفضاء بالعواطف المكبوتة، لهذا فقد انتهجت المسيحية منهجاً خاصاً في الدعوة إلى الزواج، جمعاً بين المصلحة المتوقفة عليه، والمفسدة التي يمكن أن ينتهي إليها بين أولئك القوم ـ بني إسرائيل ـ، ولذلك فقد رغبت فيه، وحضت عليه، ودعت الشباب إليه، وكرمت في نفس الوقت المتبتلين العازفين عن متع الحياة الدنيا وملذاتها، المتفرغين لعبادة الله تعالى، وأحلتهم محلاً مرموقاً في مجتمعها، وذلك ليتسنى لها أن تقوم ما اعوجّ من أمر مجتمع بني إسرائيل بعد سيدنا موسى ـ عليه السلام ـ. وكأني بالمسيحية ترغب في الزواج وتدعو إليه، وتجعل ذلك نظامها الأساسي، ثم لظروف خاصة تكرم الرهبانية دون أن تدعو إليها، وتحض عليها، فإنه لم يرد في الإنجيل ـ فيما أعلم ـ نص صريح يأمر بالرهبانية أو يفرضها على أحد، وكل ما هنالك تفضيل لها وإشادة بالآخذين بها، فقد جاء في الإنجيل: [وجاء إليه ـ أي السيد المسيح ـ عليه السلام ـ الفريسيون ليجربوه قائلين له: هل يحل للرجل أن يطلق امرأته لكل سبب؟ فأجاب وقال لهم: أما قرأتم أن الذي خلق من البدء خلقهما ذكراً وأنثى، وقال من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه، ويلتصق بامرأته ويكون الاثنان جسداً واحداً، إذن ليسا بعد اثنين بل جسد واحد، فالذي جمعه الله لا يفرقه إنسان، قالوا له: فلماذا أوصى موسى أن يعطي كتاب طلاق فتطلق به، قال لهم: إن موسى من أجل قساوة قلوبكم أذن لكم أن تطلقوا نساءكم، ولكن من البدء لم يكن هكذا، وأقول لكم: إن من طلق امرأته إلا بسبب الزنا وتزوج أخرى يزني، والذي يتزوج بمطلقة يزني]([13]).
ثم إن الشرائع السماوية كلها عنيت بتنظيم أحكام الزواج، وطرق عقده وإنشائه، ثم آثاره وحقوق كل من الزوجين قبل الآخر، عناية كبيرة على وجه يوفر للزوجين السعادة والسكن النفسي وللمجتمع كله الاستمرار والتقدم.
إلا أنه رغم تلك العناية كلها قد يفشل الزوجان في تحقيق السعادة والهناء لأسباب وظروف كثيرة، فقد لا يتم بين الزوجين حد أدنى من التناسق والتقارب في الخلق، أو في التدين، وقد يرتكب أحد الزوجين من الأعمال ما يعد إخلالاً بالأمانة الزوجية واعتداء على حق الزوج الآخر والمجتمع كله، كما أنه قد تحل بالزوجين أمراض ومصائب لا يستطيع الزوج الآخر احتمالها والصبر عليها، فينشأ عن ذلك كله وغيره خصام ونزاع بين الزوجين تتحطم معه كل الروابط والوشائج التي من شأنها أن تحقق السعادة والتفاهم بينهما، فتصبح الحياة الزوجية بذلك جحيماً لا يطاق، وناراً لا تصطلي، تعود على الزوجين بأوشم العواقب، وقد لا يقتصر ضرر ذلك على الزوجين وحدهما، بل يتعداه إلى الأولاد والأقارب من أسرتي الزوجين، فيتحتم عند ذلك الخوض في ترتيبات خاصة لإنهاء هذا النفور والخصام، وإعادة الهدوء والتفاهم بينهما، حتى إذا ما فشلت كل الخطط والمحاولات الهادفة لذلك، كان الحكم بالتفريق بينهما هو الحل الوحيد رغم قسوته على نفسيهما وعلى المجتمع كله، ولكنه عند ذلك شر لا بد منه، ولأن ينتهي زواج لم يعد ينتج أهدافه خير ألف مرة من أن يترك على حاله يجني منه الزوجان، والمجتمع كله الويلات والمآسي، فإن آخر العلاج الكي، وآخر الإصلاح البتر، وأبغض الحلال إلى الله الطلاق.
ولهذا فقد اهتمت الشرائع السماوية والوضعية بتنظيم إزالة الخلاف بين الزوجين حتى إذا ما فشلت كل الجهود للوصول إلى توفيق بينهما اتجهت إلى تنظيم أحكام التفريق، على أسس تكفل العدالة، وتحقق النظام، وتوقع أقل حد ممكن من الضرر عليهما وعلى المجتمع، كل منها على طريقتها الخاصة، وأسلوبها الذي ارتضته.
وفي هذا البحث سوف ألقي الأضواء على موقف الشرائع القديمة السابقة على الإسلام من موضوع التفريق بين الزوجين، ومناهجها في هذا التفريق، ليكون ذلك مقدمة وتمهيداً لدراسة التفريق بين الزوجين في التشريع الإسلامي، أكمل الشرائع وأتمها، ثم أتبعه بعرض إجمالي للتفريق وأحكامه في البلدان العربية والأجنبية في العصر الحاضر.
أ- التفريق لدى الشرائع القديمة
1ـ التفريق لدى قدماء المصريين:
لقد كان للمصريين القدامى حضارة تليدة، ونظام قانوني دقيق، ولقد عنوا فيما عنوا بتفصيله وتنظيمه من الأحكام نظام التفريق بين الزوجين، فقد كان الطلاق مشروعاً عندهم، إلا أنه مكروه لديهم، ومرغوب عنه في نفوسهم. فقد قال (نتاخ سحتب) ـ أحد أدبائهم ـ: أنت أيها الشاب الذي أحببت هذه الفتاة وأحبتك وهي عذراء، اعلم أنه إذا تركتها بعد زواجها ارتكبت أكبر الجرائم أمام الله والناس.
ولم يكن الطلاق من حق الرجل وحده عندهم، بل هو حق للرجل والمرأة معاً، وللزوجة أن تطلق زوجها عندهم إذا شرطت ذلك على الزوج في عقد نكاحها، وعصمتها تكون في يدها مدة حياتها([14]) بهذا الشرط.
2ـ التفريق لدى البابليين:
شريعة حامورابي التي اشتهرت عند البابليين من أقدم شرائع العالم، وقد تضمنت هذه الشريعة مجموعة من المواد القانونية وصلت إلى /285/ مادة وهي تبحث في مختلف الموضوعات المدنية والجنائية والأحوال الشخصية وغيرها.
وقد بحثت موضوعات الأحوال الشخصية هذه من زواج وطلاق وحقوق زوجية... في المواد /127ـ162/ من هذه المجموعة، ولا محل هنا لذكرها كلها وتفصيل أحكامها، إلا أنه لا بد من بيان أن هذه الشريعة تبيح للزوج أن يطلق زوجته لأسباب معينة محددة منها: عقم الزوجة، وزناها، وعدم اتفاقها مع زوجها، وسوء تدبيرها لمنزلها، بل إن الزوجة الناشز عن منزل الزوجية، المهملة لشؤون بيتها وتربية أولادها، تستحق أن تلقى في الماء.
وللزوجة أيضاً في حالات خاصة أن تطلب الطلاق من زوجها وتفارقه، مثل ما إذا أثبتت قسوته عليها مع إخلاصها هي له، فإن لها في هذه الحال أن تعود إلى أهلها وتأخذ بائنتها وما عسى أن تكون حصلت عليه لنفسها من المتاع، وذلك وفقاً للمادة /142/ من هذه الشريعة ونصها: [إذا بغضت امرأة زوجها وقالت له: إنني سوف لا أكون لك، فيجب التحقيق عن سبب بغضها لزوجها، فإذا كانت المرأة صاحبة عناية، وليس فيها عيب، وكان لزوجها عين في غيرها، وكان يهملها، فلا لوم على الزوجة، ولها أن تأخذ بائنتها منه، وتذهب إلى بيت أهلها].
3ـ التفريق لدى الفرس:
لقد كان للفرس ديانات كثيرة يتجلى معظمها في عبادة الانر والنور، والنجوم، وغير ذلك، وكان لهم نظام في الزواج والطلاق فيه بعض الغرابة، فهم يجيزون تعدد الزوجات، إلا أن لإحدى الزوجات صفة الامتياز على الأخريات، فيكون ما سواها منهن في مرتبة ثانية بعدها.
والزوجة الممتازة عندهم هي ربة البيت، وما سواها ـ وغالباً يكون من الأرقاء ـ يكون بعدها في الحقوق والواجبات الزوجية وغيرها.
وشرائع الفرس تبيح للزوج طلاق زوجته مطلقاً، فالزواج شركة، وللزوج أن يفسخ هذه الشركة متى شاء، ثم إذا تم الطلاق برضا الزوجة، لا يكون لها الحق في استبقاء الأموال التي كان الزوج قد أعطاها إياها أثناء الزواج، بل تردها عليه، وإذا تم بغير رضاها فلها استبقاء هذه الأموال. وإذا قال الزوج لزوجته: [إنك طالق الآن، تستطيعين التصرف بحرية في شخصك] فإنها لا تخرج بهذا القول من عصمته، إنما يؤذن لها بهذه الكلمة أن تكون زوجة خادمة لزوج آخر، وإذا طلق زوج زوجته من غير أن يمنحها صراحة الحق في التصرف بحرية في شخصها فإن الأولاد الذين تلدهم من الزواج الجديد أثناء حياة الزوج الأول يلحقون بهذا الزوج، وهذا يعني أنها تبقى تحت رعايته، وفي وسع الزوج عندهم أن ينزل عن زوجته أو إحدى زوجاته، ولو كانت زوجة ممتازة إلى رجل آخر قد وقع في الفقر بغير تقصير منه بصورة مؤقتة، وذلك ليستغني بعملها، وليس قبول المرأة ضرورياً في هذه الأحوال، ثم إنه بوسع الزوج الثاني أن يتصرف في أموال الزوجة، والأطفال الذين يولدون من هذا الزواج المؤقت ينسبون لأسرة الزوج الأول، ويعتبرون من أبنائه، وهذا التنازل يتم بعقد قانوني يتعهد بمقتضاه الزوج المؤقت أن يقوم برعاية زوجته طوال هذا الزواج، وهذا العقد من قبيل الإحسان إلى أخ في الدين محتاج إلى المساعدة والمعونة.
4ـ التفريق لدى قدماء اليونان:
عرف اليونانيون القدماء الطلاق، ومنحوا الرجل سلطة واسعة في إيقاعه، فقد كان من السهل عندهم على الرجل أن يطلق زوجته، وكان في وسعه أن يطرها من بيته متى شاء من غير أن يبدي لذلك سبباً، وكانوا يرون عقم الزوجة سبباً كافياً لطلاقها، لأن الغرض من الزواج عندهم هو الإنجاب، فإذا كان الرجل نفسه عقيماً، فإن القانون يجيز له أن يستعين بأحد أقاربه ليتصل بزوجته وينجب منها، والطفل الذي يولد من هذا الاتصال ينسب للزوج العقيم دون قريبه المستعان به.
أما الزوجة، فلم يكن يباح لها أن تترك زوجها متى شاءت، ولكن في وسعها أن تطلب إلى الحاكم أن يطلقها من زوجها إذا قسى عليها أو تجاوز حد الاعتدال في معاملتها.
وكان الطلاق مباحاً إذا تراضى الزوجان عليه، وكان هذا التراضي يتم بإعلان رسمي، فإذا افترق الزوجان، بقي الأولاد مع أبيهم حتى ولو ثبت عليه أنه زاني.
5ـ التفريق لدى الرومان:
لقد أقر الرومان فكرة التفريق بين الزوجين في شتى عصور الدولة الرومانية، ولكن الأمر لم يكن في كل هذه العصور على نمط واحد، بل كان يختلف من عصر إلى عصر سعة وضيقاً.
ففي العصر القديم للدولة الرومانية كان الطلاق حقاً للزوج دون الزوجة، وكان نادراً ما يقع، ولم يقع في أغلب الأحيان إلا إذا ارتكبت الزوجة خطأ جسيماً، فقد كان المجتمع ينظر إلى الطلاق نظرة كراهية واحتقار.
أما في العصر الكلاسيكي، فقد منحت الزوجة حق الطلاق كما هو الحال بالنسبة للرجل، ولقد كثرت حوادث الطلاق في هذا العصر، ولم يكن ثمة أسباب محددة للطلاق، بل كان لكل من الرجل والمرأة أن يطلق الآخر لأي سبب يراه، وكثيراً ما أساء الناس استعمال هذه الحرية المطلقة في إيقاع الطلاق، فقد حدث أن اعتزم أحد الرومانيين طلاق زوجته، ولما أراد بعض أصدقائه إثناءه عن ذلك مثنين على الزوجة بأنها عاقلة وجميلة وولود، رد عليهم قائلاً: (حذائي جديد وجيد الصنع، ومع ذلك فإني أريد تغييره، فليس أحد سواي يعلم أين يؤلمني).
وهكذا استمر الأمر في التشريع الروماني على إباحة الطلاق حتى عصر الامبراطورية السفلى، حيث ظهرت المسيحية بتعاليمها التي تكره الطلاق وتنفر منه، فتغير الأمر عند ذلك ووضعت قيود كثيرة تحد من حرية الزوجين في الطلاق.
فقد أصدر الامبراطور (قسطنطين) في عام 331م دستوراً قصد به إلى تقييد الطلاق، قال في مقدمته: إنه لا ينبغي أن يمكن الزوج أو الزوجة من أن يطلق أحدهما الآخر في طيش أو لأعذار واهية كما يحدث في أغلب الأحوال. ولكن هذا الدستور اصطدم بعادات الشعب الروماني التي جرت على إباحة الطلاق دون قيد أو شرط، فحدثت لذلك محاولات عديدة لإباحته مطلقاً ثانية ورفع القيود عنه، ولكن هذه المحاولات فشلت نظراً للحاجة الاجتماعية الماسة ـ إذ ذاك ـ لفرض القيود عليه.
وأخيراً في عهد (جوستنيان) طرأت على أحكام الطلاق تعديلات جديدة تقضي بفرض قيود مشددة أكثر من الأول على إجراء الطلاق، من أهمها أن الطلاق لا يقع إلا بسبب الزنا من الزوجة، أو محاولة أحد الزوجين الاعتداء على حياة الآخر، وأمثال ذلك.
وكان هنالك الطلاق المشروع والطلاق غير المشروع، فالطلاق المشروع هو ما يستند إلى سبب معقول، كالجنون، أو العجز، أو العقم... والطلاق غير المشروع هو الذي لا يستند إلى سبب مشروع من ذلك.
وأما الطلاق باتفاق الزوجين عليه، فقد كان جائزاً قبل (جوستنيان) فألغاه، لكن خلفه (جوستنيوس) الثاني أعاد إباحته ثانية.
من ذلك نرى أن الطلاق عند الرومان كان حقاً للزوج فقط في العصر القديم، ثم أصبح حقاً مشتركاً بين الزوجين في العصر الكلاسيكي، ولهما مطلق الحرية في إيقاعه دون قيود، ولما فرضت عليه بعض القيود بعد ذلك كان ذلك على الزوجين معاً. وبذلك تكون المرأة في نهاية المطاف قد وقفت مع الرجل على قدم المساواة في حقها في إيقاع الطلاق.
6ـ التفريق لدى العرب في الجاهلية:
لقد عرف العرب في جاهليتهم نظام التفريق بين الزوجين، وكان ذلك عندهم حقاً للزوج وحده دون الزوجة، يوقعه متى شاء، ودونما سبب، فهو حر في ترك زوجته كما كان حراً في التزوج منها. ولكن ليس للزوجة أن تفارق زوجها مطلقاً، ولا أن تطلب طلاقها منه بحال، اللهم إلا أن تشترط لنفسها ذلك الحق في عقد الزواج، فإن لها ذلك عندئذ. وكان الشريفات من الجاهليات هن اللواتي يشترطن لأنفسهن هذا الحق في عقد زواجهن. وممن اشترطن هذا الحق لأنفسهن في الجاهلية سلمى بنت محمد بن يزيد بن لبيد بن حواش الخزرجية، وفاطمة بنت الحرشب الأنمارية، وأم خارجة صاحبة المثل: أسرع من زواج أم خارجة، ومارية بنت الجعيد، وعاتكة بنت مرة، وغيرهن...
وكانت المرأة من هؤلاء إذا أرادت طلاق نفسها من زوجها حولت باب خبائها، فإن كان إلى الشرق جعلته إلى الغرب، وإن كان إلى الشمال جعلته إلى الجنوب، فإذا رأى الزوج ذلك علم أنها طلقت نفسها منه، فلم يأتها.
وقد عرف العرب في الجاهلية عدة أنواع من الطلاق، أظهرها طلاق الظهار، وذلك بأن يقول الرجل لزوجته: أنت عليّ كظهر أمي، أو ظهر أختي، أو أي من محارمه، فتطلق منه، وتحرم عليه بذلك، ومنها طلاق الإيلاء، بأن يقسم الزوج أن لا يقرب زوجته مدة طويلة كانت تصل أحياناً إلى السنة والسنتين، وكذلك الخلع، وهو الاتفاق بين الزوجين على حل أواصر الزوجية مقابل مبلغ من المال تدفعه الزوجة لزوجها.
هذا كله بالإضافة إلى الطلاق الصريح، بأن يقول الزوج لزوجته طلقتك أو أبنتك، أو فارقتك، أو حبلك على غاربك، أو خليت سبيلك، وما في معنى ذلك من ألفاظ التفريق وحل الزواج.
وقد عرف العرب في الجاهلية الطلاق الثلاث، كما عرفوا إلى جانبه الطلاق مرة واحدة أو مرتين، فإذا طلق الرجل زوجته مرة واحدة أو مرتين كان هو الأحق بردها إليه، فإذا طلقها ثلاثاً بانت منه ولم يكن له أن يعود إليها بعد ذلك.
7ـ التفريق في الشريعة الإسلامية:
ولما جاء الإسلام أقر بعض أنواع الطلاق هذه، وألغى بعضها، وعدل أحكام بعض، مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) ([15])، وهاك نظرة موجزة سريعة إلى ما اتجه إليه الإسلام من هذا الموضوع الخطير.
والإسلام قد سلك مسلكاً وسطاً بين الشريعتين السابقتين عليه (اليهودية والمسيحية) فأخذ بمبدأ التفريق بين الزوجين عندما تصبح الحياة الزوجية متعذرة أو متعسرة، غير منتجة ما كان مرجواً منها من سكن نفسي وود بين الزوجين، سواء أكان المتسبب في ذلك هو الزوج أو الزوجة، أو كان السبب أمراً خارجاً عن اختيارهما، كما في إعسار الزوج عن الإنفاق على زوجته، أو غيبة الزوج الطويلة، أو فقده، أو غير ذلك.. لأن الحياة الزوجية التي لا تنتج المرجو منها، يكون حلُّها ـ دون شك ـ أفضل من الإبقاء عليها في حق الزوجين والمجتمع معاً، على ما في هذا الحل من ضرر كبير، إلا أنه أخف الضررين.
ولكن بيَد مَنْ يكون حل الزواج في الإسلام؟ أبيد الزوج، أم بيد الزوجة، أم بيد القاضي، أم بيد إنسان آخر؟..
والجواب أن الإسلام أعطى حق التفريق لكل من الزوج والزوجة والقاضي، كل في حدود ما يصيبه من ضرر من استمرار هذه الزوجية. فإن كان الضرر الناتج عن استمرار الحياة الزوجية واقعاً على الزوج بسبب الزوجة أو غيرها، كان حق حله للزوج بالطلاق، وإن كان الضرر واقعاً على المرأة كان لها حله أيضاً برفع الأمر إلى القاضي وطلب التفريق منه بسبب ذلك، كالإعسار بالنفقة، والغيبة، والفقد.. والقاضي يجيبها إلى ذلك ويفرق بينها وبين زوجها إذا ثبت له قيام الضرر. وإن كان الضرر واقعاً على الأولاد أو على المجتمع، كان أمر حل الزواج للقاضي، سواء أرفع الأمر إليه من الزوجين أم لا، حماية لحق الأولاد والمجتمع، ذلك أن القاضي هو الحامي لمثل هذه الحقوق، فالقاضي يفرق بين الزوجين للردة، ولحلول الحرمة بالرضاع...
وبذلك نرى أن الإسلام اتجه نحو الحل الصحيح في هذه المشكلة، وكان حله هذا وسطاً بين إطلاق اليهود، وتشدد المسيحيين، كما أنه كان الحل العادل الذي أعطى كل الأطراف المتضررة من استدامة الحياة الزوجية الفاشلة حق حلها في حدود ما يصيبها من ضرر، على خلاف اليهودية التي حصرت هذا الحق في الزوج خاصة، والمسيحية التي منعت منه أصحاب المصلحة الحقيقة وأناطته برجل الدين لا غير، تمشياً مع منطقها الخاص في إخضاع الناس جميعاً لسلطان الكنيسة ورجالها.
ب ـ التفريق في القوانين العربية:
تمهيد:
كان معظم الدول العربية في العهد العثماني يخضع لحكم الدولة العثمانية التي يحكمها التشريع الإسلامي، وكان التشريع الإسلامي هذا يحكم هذه الدولة بكل أقاليمها وولاياتها، ويسيطر على جميع جوانب الحياة فيها المدنية، والجنائية، والأسروية... وكان القضاة في شتى محاكم الدولة يرجعون في أحكامهم وأقضيتهم إلى أمهات كتب الفقه ليستندوا إليها في أحكامهم، ويستنبطوا منها الحل لما عرض عليهم من دعاوى، وكثيراً ما كانوا يرجعون إلى المفتي ليستحصلوا منه على فتوى شرعية يبنون عليها حكمهم، وذلك عندما يعجزون عن الوقوف على نص شاف ـ فيما بين أيديهم من كتب ـ ينطبق على الحالة المعروضة أمامهم.
ونظراً لبعثرة الأحكام الفقهية في كتب الفقه على طريقة فروعية، وقصور بعض القضاة عن بلوغ مرتبة التمكن من الاطلاع على كتب الفقه واستخراج الأحكام منها، رأت الدولة تنظيم أحكام الشريعة الإسلامية عامة في الدولة، وتسجيلها على شكل مواد مرتبة، فألفت لذلك لجنة من كبار الفقهاء في ذلك الوقت، فأصدرت هذه اللجنة بعد دراسات واسعة وجهود كبيرة قانوناً مدنياً اسمته: (مجلة الأحكام العدلية) وذلك في عام 1293هـ. وقد اعتبرت هذه المجلة في وقتها القانون المدني للدولة العثمانية بجميع أقاليمها. وقد اقتصر هذا القانون على الأحكام المدنية فقط دون غيرها. كما اقتصر على الاستمداد من الفقه الحنفي دون غيره من المذاهب الفقهية المعتبرة، بله على القول الراجح في المذهب الحنفي إلا في أحكام قليلة خرج فيها عن القول الراجح فيه، وأحكام قليلة أخرى استمدها من المذاهب الإسلامية المعتبرة الأخرى غير المذهب الحنفي.
أما في ميدان الأحوال الشخصية، فقد أصدرت الحكومة العثمانية أول قانون له في عام 1336هـ سمي (قانون حقوق العائلة)، وقد طبق هذا القانون في حينه على جميع الولايات العثمانية أيضاً، واشتمل هذا القانون على كل موضوعات الأحوال الشخصية تقريباً. واستمد أكثر أحكامه من القول الراجح من مذهب أبي حنيفة، إلا أنه أخذ بعض الأحكام الأخرى من المذاهب الإسلامية الأخرى.
هذا بالنسبة للدول العربية الداخلة في نطاق الدولة العثمانية، أما الدول العربية التي لم تدخل مطلقاً في الدولة العثمانية كالمغرب، أو التي دخلت في حكمها ثم انفصلت عنها، أو لم تكن القبضة كاملة عليها كمصر، مثلاً، فإنها كانت تسير في أحوالها الشخصية على كتب الفقه المذهبي، وكان كل قطر من هذه الأقطار يرجح العمل بأحد هذه المذاهب ويفضل الاستمداد منه لانتشاره في ربوعه بين أفراد الشعب، ففي المغرب كان القضاء في الأحوال الشخصية يسير على مذهب الإمام مالك، وفي مصر على مذهب الإمام أبي حنيفة.
وما إن بدأ نجم الدولة العثمانية بالأفول، وسلطانها بالتقلص، حتى اتجهت أكثر الحكومات المحلية للدول العربية، إلى وضع قوانين خاصة بها، شاملة لشتى مناحي القانون، ومنها الأحوال الشخصية، ذلك لأن قانون حقوق العائلة العثماني الذي وقف في جل أحكامه عند القول الراجح من مذهب أبي حنيفة لم يعد كافياً ـ في نظر البعض ـ لمسايرة الحياة الحديثة، سيما وأن الشريعة الإسلامية ليست وقفاً على المذهب الحنفي وحده، بل هي بحق مجموع تلك المذاهب الفقهية المعتمدة، وعلى رأسها المذاهب الأربعة، وإن فيما سوى المذهب الحنفي من المذاهب الأربعة من السعة والمرونة ما يلبي كل مطالب الحياة العصرية، وحري بالقضاء أن يستفيد من ذلك كله.
ومن تلك القوانين الخاصة بالأحوال الشخصية في البلاد العربية التي ظهرت بعد انحسار الحكم العثماني عنها:
1ـ في مصر:
وضع المشرع المصري في عام (1920م) القانون رقم /25/ وكان مؤلفاً من إحدى عشرة مادة، هي النقاط التي خالف فيها القول الراجح من مذهب الإمام أبي حنيفة، وأحال فيما وراء ذلك من أحكام على القول الراجح من المذهب الحنفي.
وأهم ما جاء في هذا القانون مما يتعلق بالتفريق بين الزوجين هو القول بالتفريق للإعسار، والتفريق للعيوب مع شيء من التوسع خلافاً للمذهب الحنفي، والتفريق للغيبة.
وقد وضع هذا القانون بناء على مشروع وضعته لجنة ألفت من شيخ الأزهر الشريف، وشيخ المالكية، ورئيس المحكمة العليا الشرعية، ومفتي الديار المصرية. إلا أن هذا القانون لم يف بالحاجة المرجوة منه نظراً لقلة مواده، وصعوبة الرجوع إلى الراجح من مذهب أبي حنيفة على كثير من قضاة الشرع الذين لم يتمرسوا بدراسة كتب الحنفية.
وفي عام (1929م) صدر القانون رقم /25/ مؤلفاً من /25/ مادة للأحوال الشخصية، تناول فيها بعض مسائل الزواج والطلاق.
وأهم ما جاء في هذا القانون مما يتعلق بالتفريق بين الزوجين عدم وقوع طلاق السكران، وطلاق المكره، وعدم وقوع الطلاق الثلاث إلا واحدة، والتفريق للشقاق، والتفريق للضرر، والتفريق لغيبة الزوج وحبسه.
وقد نصت المادة (1) من القانون /24/ لعام (1929م) على أنه: [تصدر الأحكام طبقاً للمدون في هذه اللائحة ولأرجح الأقوال من مذهب أبي حنيفة ما عدا الأحوال التي نص أو ينص فيها قانون للمحاكم الشرعية على قواعد خاصة فيجب فيها أن تصدر الأحكام طبقاً لتلك القواعد].
وهذا يعني أن تطبق الأحكام التي نص عليها القانونان رقم /25/ لعامي 1920 و1929، وفيما عداهما يرجع إلى الراجح من مذهب الإمام أبي حنيفة.
ولا زال العمل بذلك في مصر إلى يومنا هذا، مع الإشارة إلى أنه جرت محاولات عديدة لتعديل هذين القانونين وإصدار قانون كامل للأحوال الشخصية، إلا أن هذه المحاولات لم يكتب لها الاكتمال لظروف خاصة، وأهم هذه المحاولات محاولة حصلت أثناء قيام الوحدة بين سوريا ومصر، في أثناء العمل على توحيد القوانين بين القطرين الشقيقين.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن أحكام هذه القوانين تطبق في مصر على المصريين جميعاً مسلمين وغير مسلمين، ولا يستثنى من ذلك من المصريين إلا غير المسلمين التمحدون في الملة والطائفة، حيث تطبق عليهم شرائعهم الخاصة في هذه الحال. فإذا كانوا مختلفي الملة والطائفة طبق عليهم من الأحكام ما يطبق على المسلمين، لأن الشريعة الإسلامية تمثل النظام العام في مصر، وذلك طبقاً للمادة /6/ من القانون رقم /462/ لعام (1955م) التي تنص: [على أن المنازعات المتعلقة بالأحوال الشخصية للمصريين غير المسلمين والمتحدي الملة والطائفة الذين لهم جهات قضائية ملية منظمة وقت صدور هذا القانون تصدر فيها الأحكام في نطاق النظام العام طلقاً لشريعتهم].
2ـ في سورية:
خضعت سوريا للدولة العثمانية وكانت ولاية من ولاياتها حتى عام (1916م) حيث قامت الثورة العربية وانفصلت عن الدولة العثمانية، ولهذا فإن القانون المطبق في سوريا قبل هذا التاريخ في ميدان الأحوال الشخصية هو قانون حقوق العائلة العثماني، وقد استمرت سوريا بتطبيق هذا القانون في محاكمها الشرعية حتى عام (1953م) حيث صدر قانون جديد للأحوال الشخصية في سوريا بالمرسوم رقم (59)، وهذا القانون يتألف من /308/ مواد تعالج مواضيع الزواج، والطلاق، والولادة، والنسب، والحضانة، والأهلية، والنيابة الشرعية، والوصية، والمواريث.
وقد خرج هذا القانون عن القول الراجح للمذهب الحنفي في كثير من مواده، وأخذ بآراء من المذاهب الثلاثة الأخرى، كما أخذ بعض أحكامه من المذاهب الإسلامية غير الأربعة، كمذهب ابن تيمية، كما عمد أحياناً إلى ابتكار مواد تنظيمية جديدة رأى أنها لا تنافي الحكم الشرعي.
وقد جاء في المذكرة الإيضاحية لهذا القانون أن اللجنة المشكلة من ممثلين عن القضاء الشرعي وكلية الحقوق لوضع هذا القانون رجعت إلى المصادر التالية:
1ـ قانون حقوق العائلة العثماني.
2ـ القوانين المصرية للأحوال الشخصية.
3ـ الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية لقدري باشا.
4ـ ما رأت اللجنة الأخذ فيه بمذهب غير المذهب الحنفي، وما وضعته من مواد تنظيمية لا تنافي الحكم الشرعي.
5ـ مشروع الأحوال الشخصية لقاضي دمشق الأستاذ الشيخ علي الطنطاوي.
هذا وأهم ما جاء في هذا القانون مما يتعلق بالتفريق، القواعد التالية:
أ ـ وقوع طلقة واحدة بالطلاق المقترن بعدد لفظاً أو إشارة، وذلك أخذاً بما رواه مسلم في صحيحه من أن طلاق الثلاث كان يقع واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبرأي ابن تيمية.
ب ـ عدم إيقاع الطلاق غير المنجز إلا بالنية، لأن القصد هو الأصل في إيقاع الطلاق.
جـ ـ اعتبار كل طلاق رجعياً، سواء أكان صريحاً أو كناية إلا ما استثناه المشروع، كالطلاق على مال، والمتمم للثلاث، وذلك أخذاً من مذهب مالك والشافعي.
د ـ إباحة التفريق للغيبة إذا طلبت الزوجة ذلك، أخذاً بمذهب مالك.
هـ ـ إباحة التفريق لعدم الإنفاق، أخذاً بمذهب الشافعي وأحمد.
و ـ الحكم للزوجة بتعويض على مطلقها إذا كان طلاقه لها تعسفياً أخذاً من أن للحاكم أن يأمر بالمندوب أو المباح إذا كانت فيه مصلحة شرعية.
وقد جاء في المادة /305/ من هذا القانون ما نصه: [كل ما لم يرد عليه نص في هذا القانون يرجع فيه إلى القول الأرجح من المذهب الحنفي].
وقد جاء في المادة /307/ منه ما نصه: [لا يعتبر بالنسبة للطائفة الدرزية ما يخالف الأحكام التالية:
أ ـ يتثبت القاضي من أهلية العاقدين وصحة الزواج قبل العقد.
ب ـ لا يجوز تعدد الزوجات.
جـ ـ لا تسري أحكام اللعان والرضاع على أفراد الطائفة.
د ـ إذا تزوج شخص بنتاً على أنها باكر ثم ظهر أنها ثيب، فإن كان عالماً بذلك قبل دخوله بها فليس له حق المطالبة بشيء من المهر والجهاز، وإن لم يعلم بذلك إلا بعد الدخول بها فله استرجاع نصف المهر إذا أراد إبقاءها في عصمته، وله استرجاع كامل المهر والجهاز إن ثبت أن فض البكارة كان بسبب الزنا وأراد تطليقها.
إذا ادعى الزوج كذباً أنه وجد زوجته ثيباً وطلبت التفريق منه، كان لها أن تستبقي ما قبضته من مهر وجهاز.
هـ ـ إذا حكم على الزوجة بالزنا فللزوج تطليقها واسترجاع ما دفعه من مهر وما بقي من جهاز، وإذا حكم على الزوج بالزنا فللزوجة طلب التفريق وأخذ كامل مهرها المؤجل.
و ـ لا يقع الطلاق إلا بحكم القاضي وبتقرير منه.
ز ـ لا يجوز عودة المطلقة إلى عصمة مطلقها.
ع ـ تنفذ الوصية للوارث ولغيره بالثلث، وبأكثر منه.
ي ـ إن الفرع المتوفى قبل وفاة مورثه تقوم فروعه مقامه، ويأخذ نصيبه كما لو كان حياً.
وتنص المادة /308/ من هذا القانون على أنه يطبق بالنسبة إلى الطوائف المسيحية ما لدى كل طائفة من أحكام تشريعية دينية تتعلق في الخطبة، وشروط الزواج، وعقده، والمتابعة، والنفقة الزوجية، ونفقة الصغير، وبطلان الزواج وحله وانفكاك رباطه، وفي البائنة (الدوطة) والحضانة.
وقد بقي هذا القانون هو المعمول به حتى آخر عام (1975م) حيث صدر قانون جديد عن مجلس الشعب السوري رقم /34/ تاريخ 29 ذي الحجة 1395هـ الموافق 31 كانون الأول سنة 1975م يتألف من /30/ مادة فيها تعديل لبعض مواد القانون السابق، وقد عمل بهذا القانون في شباط من عام 1976 بعد توقيعه من رئيس الجمهورية.
وأهم ما جاء به القانون الجديد من المبادئ ما يلي:
1ـ اعتبار مهر المرأة ديناً ممتازاً يأتي بالترتيب بعد دين النفقة.
2ـ إذا طالبت الأم أو الجدة لأم بحقها في حضانة الصغير فإن على القاضي أن يجيبها إلى ذلك دون قضاء خصومة، وذلك بعد التأكد من قرابتها.
3ـ جعل سن انتهاء الحضانة للأنثى /11/ سنة وللذكر /9/ سنوات.
4ـ يجوز للجدة لأم أن تسافر بالصغير المحضون كالأم.
5ـ يجوز للقاضي أن يحكم للأولاد بالنفقة على أبيهم عن مدة سابقة، بشرط أن لا تتجاوز أربعة أشهر.
هذا ولا بد من الإشارة هنا إلى أن هذا القانون لم تتقدم به لجنة مختصة كما هو المعهود في كل القوانين السابقة، إنما قدم مباشرة من قبل الحكومة، وقد عرض قبيل تقديمه عرضاً سريعاً على بعض من له صلة بهذا التخصص، وقد نتج عن ذلك أن جاءت بعض مواده مصاغة صياغة سريعة، وقد جاء بعضها عن غير قصد مخالفاً للحكم الشرعي، من ذلك مثلاً ما جاء في آخر المادة /4/ منه: [ولا يعتبر المهر المؤجل مستحق الأداء إلا بانقضاء العدة..] مع أن الحكم الشرعي أن يفرق في ذلك بين الطلاق البائن والطلاق الرجعي، فإذا كان الطلاق بائناً استحق المهر المؤجل بمجرد الطلاق، وإن كان رجعياً لم يستحق إلا بانتهاء العدة.
3ـ في الجمهورية العراقية:
أكثر سكان العراق سنيّون، وفيهم عدد كبير من الشيعة الجعفرية، ولهذا فإن القضاء العراقي يفصل في الخصومات المتعلقة بالأحوال الشخصية بين العراقيين وفقاً للمذاهب الفقهية السنية أو المذهب الجعفري، حسب الحالات المرفوعة إليه، وذلك بالرجوع إلى كتب هذه المذاهب دون أن يكون هنالك نظام قانوني في هذه المسائل.
ومنذ مدة طويلة والحكومة العراقية تقوم بمحاولات تشريعية لإصدار قانون للأحوال الشخصية أسوة بسورية ومصر، إلا أن هذه المحاولات لم تنجح، ومنها محاولة عام /1945م/ حيث قدم فيها مشروع باسم (لائحة الأحوال الشخصية).
ولما قامت الثورة العراقية أصدرت قانوناً للأحوال الشخصية في عام /1959م/ استمد جل مواده من المذاهب الفقهية والقوانين العربية دون أن يتقيد بمذهب معين. ولا زال هذا القانون محل العمل في العراق إلى اليوم.
وأهم ما يلفت النظر في هذا القانون مما يتعلق بالتفريق بين الزوجين ما جاء في المادة /39/ منه ونصها: [على من أراد الطلاق أن يقيم الدعوى في المحكمة الشرعية بطلب إيقاعه واستحصال حكم به، فإذا تعذر مراجعة المحكمة وجب عليه تسجيل الطلاق في المحكمة خلال مدة العدة].
4ـ في الجمهورية التونسية:
كان المذهب المالكي هو السائد في تونس كما هو سائد أيضاً في أكثر أقطار المغرب العربي، وكان قضاء الأحوال الشخصية فيها يسير على أحكام هذا المذهب قبل ظهور القوانين المنظمة لهذا الموضوع.
وفي سنة 1956م أصدرت الحكومة التونسية قانوناً للأحوال الشخصية اشتمل على أحكام الزواج والطلاق والمواريث، سمي بمجلة الأحوال الشخصية. ولم يتقيد هذا القانون بالمذهب المالكي وحده ولا بالمذاهب الأربعة فقط، ولكن استمد أحكامه من جميع المذاهب الفقهية الإسلامية. وقد نص في هذا القانون على أن الإسرائيليين يعودون في أمورهم المتعلقة بشؤون الأسرة إلى أحكام ديانتهم، وإلى مجالس الأحبار، ولذلك فإن هذا القانون أصبح خاصاً بالمسلمين وحدهم لديهم.
ومما يلفت النظر في هذا القانون مما يتعلق بأحكام الفرقة ما نص عليه في الفصل الثلاثين من أنه: [لا يقع الطلاق إلا لدى المحكمة].
5ـ في المملكة المغربية:
كان المذهب المالكي هو المعمول به لدى المحاكم المغربية في مسائل الأحوال الشخصية مثل تونس، وكان القضاة يرجعون إلى كتب هذا المذهب في أقضيتهم وأحكامهم دون أن يكون هنالك قانون محدد.
وفي سنة /1958م/ صدر في المغرب قانون خاص بأحكام الأحوال الشخصية، استمد جل أحكامه من المذهب المالكي، وباقي الأحكام أخذها من المذاهب الأخرى الإسلامية. وقد نص فيه على أنه يرجع إلى المشهور من مذهب الإمام مالك فيما لم يرد فيه نص في هذا القانون، وذلك في الفصل /82/ منه.
وأهم ما جاء في هذا القانون مما يتعلق بالفرقة ما نص عليه في الفصول /47 و48 و52/ منه حيث جاء فيها ما يلي:
الفصل47: إذا وقع الطلاق والمرأة حائض أجبر القاضي الزوج على الرجعة.
الفصل48: يجب تسجيل الطلاق لدى شاهدين عدلين منتصبين للإشهاد.
الفصل52: الطلاق المعلق على فعل شيء أو تركه لا يقع.
6ـ في المملكة الأردنية الهاشمية:
كان قانون حقوق العائلة العثماني هو المعمول به في المملكة الأردنية قبل عام (1951م)، وذلك بحكم تبعيتها للدولة العثمانية مثل سوريا. وفي عام (1951م) صدر في الأردن قانون للأحوال الشخصية يحمل اسم (قانون حقوق العائلة). وقد استمد هذا القانون جل أحكامه من المذهب الحنفي، كما استمد أحكامه الأخرى من باقي المذاهب الفقهية الأخرى، وسار في نفس الاتجاه الذي سار فيه قانون الأحوال الشخصية السوري، وفي عام 1976م صدر قانون الأحوال الشخصية الأردني، ويتألف من /187/ مادة، وقد نص في المادة /183/ منه على أن [ما لا ذكر له في هذا القانون يرجع فيه إلى الراجح من مذهب أبي حنيفة].
7ـ في الجمهورية اللبنانية:
طبقت لبنان على المسلمين اللبنانيين قانون حقوق العائلة العثماني عندما كانت خاضعة للحكم العثماني. ولم يزل هذا القانون هو المعمول به لديها إلى اليوم. أما غير المسلمين، وهم نسبة كبيرة في لبنان، فقد طلبت الحكومة اللبنانية منهم تقديم مشروعات لقوانين تحكم أحوالهم الشخصية لإصدارها، وقد تقدم أكثر طوائفهم بمشاريع في هذا الموضوع، لكن الحكومة لم تصدر واحداً من هذه المشاريع إلى اليوم.
8ـ في الجمهورية العربية الليبية:
كانت ليبيا قبل عام (1972م) تسير في قضائها الشرعي على مذهب الإمام مالك كسائر دول المغرب العربي، وكان القضاء يحكم بالمشهور من هذا المذهب، وذلك بالرجوع إلى كتب المذهب المعتمدة دون تقنين خاص بذلك.
وفي عام (1972م) رأت الحكومة الليبية مصلحة في العدول عن مذهب مالك والأخذ ببعض المذاهب الفقهية الأخرى في بعض الأحكام، فصدر لذلك القانون رقم /176/ بتاريخ 2 ذي القعدة 1392هـ الموافق 7 كانون الأول ديسمبر 1972م، ويتألف من /21/ مادة تعالج بعض أحكام أهلية الزواج، والولاية، والتطليق للضرر، والخلع، إلا أن هذا القانون مقصور على بعض الأحكام، ولذلك فإن القضاء الليبي يرجع فيما وراء هذه الأحكام إلى المشهور من مذهب الإمام مالك.
جـ ـ التفريق في القوانين الأجنبية:
تمهيد:
غالبية الشعب في الدول الأوربية والأمريكية يدين بالمسيحية، والملة السائدة في هذه الدول هي الملة الكاثوليكية، وتليها الملة البروتستانتية، أما الأرثوذوكسية فهي أقل انتشاراً من الملتين السابقتين. هذا إلى جانب جماعات من المسلمين مفرقة في أوربا تختلف نسبتها من بلد إلى بلد آخر، وكذلك الحال في أمريكا، وبخاصة الزنوج السود، فإن نسبة الإسلام بينهم تزيد يوماً بعد يوم.
وفي أفريقيا تنتشر المسيحية إلى جانب الديانة الإسلامية وبعض الديانات الأخرى كالبوذية وغيرها. على أن الشمال الإفريقي مسلم كله تقريباً، أما أواسط أفريقيا وجنوبها فإن نسبة المسلمين فيها كبيرة، وهي تختلف من دولة إلى أخرى، وعلى العموم فإن نسبة المسلمين تزيد يوماً بعد يوم.
أما آسيا، فإن كثيراً من سكانها يدين بالإسلام، كما تنتشر المسيحية وبعض الديانات الأخرى كالبوذية والهندوكية والبرهمية وغيرها في كثير من أصقاع هذه القارة. والملة المسيحية السائدة في آسيا هي الملة الأرثوذكسية.
فأما الدول الإسلامية في هذه القارات فتأخذ بأحكام الشريعة الإسلامية في ميدان الأحوال الشخصية، وذلك بالرجوع إلى المذاهب الفقهية دونما تقنينات خاصة بذلك، ـ في غالبية هذه الدول ـ.
وأما الدول غير الإسلامية فإنها تسير في قضائها في مسائل الأحوال الشخصية على وفق مذهب الأكثرية الذين يقطنون أراضيها. وكان أغلب هذه الدول يترك الحرية للأقليات التي يخالف مذهبها أو دينها مذهب الأكثرية في السير على وفق أحكام شريعتها ومذهبها.
ففي الدول الأوربية في عصر سلطة الكنيسة كانت الأحكام الدينية تفرض على القضاء دون مخالف، بل إن مسائل الأحوال الشخصية كان يقوم في القضاء بها رجال الدين بأنفسهم.
لكن ما إن بدأت سلطة الكنيسة تخف، وقبضتها تضعف، وصيحات الحرية ترتفع هنا وهناك، حتى لجأ كثير من الحكومات الأوربية إلى وضع تنظيمات وتقنينات تحكم قضايا الأحوال الشخصية بعيداً عن سلطة الكنيسة ورجال الدين، إلا أن هذه القوانين ما كانت تخرج في أغلب الأحيان عن الأحكام الدينية إلا في نقاط يتعلق معظمها بأمور تنظيمية وإجرائية. كما أن كثيراً من هذه الدول ترك الحرية للزوجين في أن يتزوجا طبقاً للنظام الكنسي وعلى أيدي رجال الكنيسة إذا أرادا ذلك، كما هو الحال في إنكلترا، وبعض هذه الدول يشترط لصحة عقد الزواج أن يستوفي جميع الإجراءات المدنية والدينية معاً.
وفيما يلي لمحة موجزة عن نظام التفريق بين الزوجين المطبق حالياً في بعض هذه الدول غير الإسلامية:
1ـ في المملكة المتحدة:
الملة السائدة الغالبة في بريطانيا هي الملة البروتستانتية، ولم يكن في بريطانيا قانون مكتوب يحكم مسائل الأحوال الشخصية، وكان القضاة يرجعون في أحكامهم إلى العرف وإلى السوابق القضائية، وذلك كله مبني على أحكام الملة البروتستانتية لديهم، وقد يشذ عن هذه الملة في بعض الأحوال.
ولقد كان الطلاق في إنكلترا ممنوعاً إلا لسبب الزنا والارتداد عن المسيحية، وذلك طبقاً لما تقضي به أحكام المذهب البروتستانتي.
وفي سنة (1937م) صدر أول قانون يبيح الطلاق في إنكلترا لغير ذينك السببين. وقد جاء في هذا القانون أن من أسباب الفرقة: زنا أحد الزوجين، والهجر لمدة ثلاث سنوات، وارتكاب بعض الجرائم المخالفة للآداب، والمرض العقلي إذا استمر خمس سنوات.
2ـ في الجمهورية الفرنسية:
اعتبرت الثورة الفرنسية الزواج عقداً مدنياً بعد أن كان يعتبر في فرنسا عقداً دينياً مقدساً يخضع في ترتيب أحكامه لسلطان الكنيسة. وقد أصدرت الحكومة الفرنسية في عام (1772م) قانوناً أجاز الطلاق في الحالات التالية:
1ـ إذا اتفق الزوجان على الطلاق وأقرا بذلك أمام الموظف المختص.
2ـ إذا طلب أحد الزوجين الطلاق لأسباب معينة ذكرها القانون منها:
(ارتكاب بعض الجرائم، وهجر الزوج زوجته، وإهانة أحد الزوجين الآخر، والإضرار به).
3ـ إذا تعذر استمرار الحياة الزوجية، كما لو غاب أحد الزوجين غيبة استمرت خمسة سنوات، أو أصيب بالجنون.
ثم عدل هذا القانون في عام (1804م) بقانون آخر توسع المشرع الفرنسي فيه في أسباب الفرقة، ثم صدر تعديل آخر لذلك في عام (1886م) وتعديل رابع في عام (1945م). وقد أجاز هذا التعديل الأخير الفرقة للأسباب التالية:
1ـ زنا أحد الزوجين.
2ـ الحكم على أحدهما بعقوبة بدنية شائنة.
3ـ إذا أساء أحد الزوجين للآخر إساءة بالغة، أو أهانه إهانة جسيمة مما يتعذر به استمرار الحياة الزوجية المشتركة.
3ـ في الجمهورية الإيطالية:
ينتشر في إيطاليا المذهب الكاثوليكي، ولذلك فإن القانون الإيطالي حرم الطلاق، ومنع التفريق بين الزوجين منعاً باتاً. وإيطاليا بهذا هي إحدى دول ثلاث تحرم التفريق بين الزوجين هي: (إيرلندا، وإسبانيا، وإيطاليا).
وقد مر نظام الطلاق في إيطاليا بعدة مراحل حتى وصل إلى ما هو عليه من التحريم المطلق.
فإن إيطاليا عندما طبقت مجموعة نابليون اعتبرت الزواج عقداً مدنياً، وأباحت الطلاق رغم معارضة الكنيسة لها في ذلك.
وفي إبان عهد موسوليني عقدت الحكومة الإيطالية مع بابا روما معاهدة (لاتران). وبها أصبح الزواج الديني الذي تعقده الكنيسة الكاثوليكية صحيحاً من الناحية القانونية الرسمية على أن يتم تسجيله في السجلات المدنية. ويكون للكنيسة سلطة الإشراف على تنظيم أحكام هذا الزواج، ولذلك فقد أصبح الطلاق ممنوعاً مطلقاً في القانون الإيطالي من ذلك التاريخ. فإذا قامت بين الزوجين أسباب جعلت الزوجية متعذرة الاستمرار، فإنه يلجأ إلى الانفصال الجثماني طبقاً للمذهب الكاثوليكي.
إلا أن معظم الشعب الإيطالي ـ رغم كاثوليكيته ـ لم يرض عن هذا المنع الكامل للتفريق بين الزوجين، فطالب بإباحة الفرقة إذا قامت أسباب تستدعيها، وظهرت صيحات كثيرة تنادي بذلك، وقد حمل لواء هذه الصيحات رجال الفكر والسياسة.
من ذلك ما حدث عام (1948م) عندما ناقشت الجمعية التأسيسية موضوع إباحة الطلاق، فقد حدث يومها مناقشات عنيفة وحادة بين النواب، إلا أنها باءت بالفشل لعدم تأييد أكثرية الأعضاء لها.
وفي عام (1969م) تكررت المطالبة بإباحة الطلاق، وأعيدت المناقشة في الجمعية التأسيسية لهذا الموضوع، وتم الاتفاق على إقرار وإباحة الطلاق بين الزوجين لأسباب محددة هي: الجنون، والسجن لمدة طويلة، والإدانة في جرائم الجنس، والانفصال لمدة خمس سنوات. وذلك على الرغم من اعتراض الفاتيكان، وإقامته الصلاة لتجنيب البلاد مخاطر هذا القرار.
4ـ في الولايات المتحدة الأمريكية:
يجب التفريق في الولايات المتحدة الأمريكية بين القانون النظامي والقانون العادي، فالقانون النظامي يتكون من مجموعة من التشريعات التي تصدرها الهيئات التشريعية في كل ولاية من ولايات أمريكا المتعددة، أما القانون العادي فيتكون من القواعد غير المكتوبة التي جرى على اتباعها الشعوب الناطقة بالإنكليزية.
واختلفت الولايات الأمريكية بين بعضها في بعض أحكام الفرقة وطرقها وأسبابها، إلا أن هذا الخلاف كله يدخل في إطار المذاهب المسيحية ولا يخرج عنها، فكل ولاية من هذه الولايات ترجح العمل بمذهب من مذاهب المسيحية، وذلك حسب اعتناق غالبية الشعب فيها لمذهب معين دون غيره.
5ـ في الاتحاد السوفييتي:
كان المذهب السائد في روسيا قبل الثورة الشيوعية هو المذهب الأرثوذكسي، حيث يدين به غالبية الشعب المسيحي هناك، ومع ذلك كان الأقليات من الروس من غير الأرثوذكس، وغير المسيحيين يتمتعون بحرية تطبيق أحكام مذاهبهم ودياناتهم على علاقاتهم الشخصية.
وفي عام (1917م) قامت الثورة الشيوعية، فأصدرت مرسوماً ألغت بموجبه الأنظمة الدينية، واعتبرت الزواج عقداً مدنياً بحتاً تسري عليه القوانين والتنظيمات الحكومية كما تسري على غيره، دون نظر إلى ديانة المواطن أو ملته أو مذهبه.
وقد أباح هذا المرسوم الطلاق، وجعله حقاً لكلا الزوجين دون قيد
أو سبب.
وفي عام (1918م) صدر قانون فيه تعديل لبعض أحكام المرسوم الأول. كما صدر في عام (1926م) تعديل ثان، وفي عام (1944م) تعديل ثالث.
وأبرز ما في هذا التعديل الأخير مما يتعلق بنظام التفريق بين الزوجين أن الفرقة لا تقع إلا بحكم القاضي، ولكن دون تحديد لأسباب معينة لا يباح طلب الطلاق إلا بعد قيامها، وإنما يترك الأمر لتقدير القاضي. كما أباح هذا التعديل الأخير للزوجين أن يتفقا على التفريق بينهما على أن يكون ذلك أمام القاضي.
** ** **