الـعـدة
تعريف العدة:
العدّة في اللغة بكسر العين الإحصاء، يقال عددت الشيء عدّة أحصيته، وبضم العين الاستعداد للأمر والتهيؤ له. وهي في اللغة أيضاً أيام أقراء المرأة، قاله في الصحاح والقاموس والمصباح المنير.
والعِدَّة في اصطلاح الفقهاء بكسر العين: (تربص يلزم المرأة، أو ولي الصغيرة، عند زوال النكاح، أو شبهته)، وعرفها بعضهم بأنها اسم لأجل ضرب لانقضاء ما بقي من آثار النكاح.
تحليل التعريف:
تربص: هو انتظار من المرأة لانتهاء مدة العدة بدون تزوج أو تزين...
يلزم المرأة: ذلك أن العدة خاصة بالمرأة، ولا تلزم الرجل بحال، نعم قد يلزم الرجل ببعض أحكام العدة، كامتناعه عن التزوج بخامسة حتى انقضاء عدة الرابعة، إلا أن ذلك من عدة الزوجة الرابعة، وليس من عدته هو، هذا وقد أحصى الحنفية عشرين موضعاً يلزم الرجل فيها ببعض أحكام العدة الواجبة على المرأة، منها: امتناعه عن التزوج بعمة زوجته أو خالتها أو أختها إلى أن يطلق زوجته وتمضي عدتها منه، وامتناع الأجنبي عن التزوج بالمعتدة من غيره...
أو ولي الصغيرة: معناه يجب عليه أن يربص الصغيرة، ذلك أن الصغيرة ـ دون البلوغ ـ غير مخاطبة بالأحكام من الشارع، ويجب على وليها أن يمنعها من التزين والخروج.. وأن يمتنع عن تزويجها، فإذا لم يفعل أثم لمخالفته أحكام العدة.
عند زوال النكاح: أي بالطلاق أو الفسخ أو الموت، ذلك أن العدة لا تلزم مع قيام النكاح، إلا أنه يرد عليه الطلاق الرجعي، فإنه لا يزول به النكاح قبل انتهاء العدة مع أن العدة واجبة فيه، ولذلك رجح البعض التعريف الثاني: (لانقضاء ما بقي من آثار النكاح).
هذا والمراد بالنكاح هنا النكاح المتأكد بالدخول أو الخلوة، حقيقة أو حكماً، ذلك أن المنكوحة غير المدخول بها، أو المختلى بها، لا عدة عليها، إلا التي مات عنها زوجها، فإنها تعتد مطلقاً، لأن الموت دخول حكماً.
أو شبهته: المراد بشبهة النكاح الوطء بشبهة، والنكاح الفاسد، فإنها تثبت بهما العدة، وكذلك أم الولد([1])، فإنها تعتد، لأن لها شبهة النكاح، أما المزني بها، فلا عدة عليها مطلقاً، ولكن تستبرأ بحيضة، ويصح العقد عليها وإن كانت حاملاً، إلا أنه لا يجوز وطؤها حتى تضع حملها.
سبب وجوب العدة:
سبب وجوب العدة على المرأة أمور:
أولها: النكاح المتأكد بالتسليم وما جرى مجراه، والمراد بالنكاح هنا العقد الصحيح، فلا عدة على المنكوحة بعقد باطل، لأن الباطل كالمعدوم، أما العقد الفاسد فكالصحيح في وجوب العدة إذا حصل بعده دخول فعلاً، وقد أخذ بهذا قانون الأحوال الشخصية السوري في المواد (49، 50، 51، 125) منه، والمراد بالتسليم الدخول بالزوجة فعلاً، وأما ما جرى مجرى التسليم فهو الاختلاء بالزوجة بعد العقد الصحيح اختلاء لا مانع معه من الدخول بها (الخلوة الصحيحة) فإذا كان معه مانع، فإن كان حسياً؛ كالرتق والقرن، لم تجب العدة به، فإذا كان غير ذلك؛ وجبت به العدة، فإذا كان العقد فاسداً لم تجب العدة بالخلوة بعده مطلقاً، ولكن بالدخول فعلاً فقط. وكذلك وفاة الزوج بعد العقد الصحيح، فإنها تجب بها العدة على الزوجة، ولو لم يدخل بها زوجها، أو يختلي بها قبله، ويعتبر الموت دخولاً حكماً في حق وجوب العدة.
وثانيها: الاستيلاد في حق الرقيقة المملوكة بملك اليمين، فإن الاستيلاد كالنكاح في حق وجوب العدة على أم الولد بوفاة سيدها، أو إعتاقه لها في حياته، هذا إذا لم تكن محرمة عليه، وإلا فلا عدة عليها منه، وذلك كأن تكون أخته أو أمه، أو تكون مجوسية مثلاً.
وثالثها: الوطء بشبهة، وهو كل اتصال جنسي بين رجل وامرأة لا عقد بينهما، إذا لم يجب به الحد، فإذا وجب بذلك الاتصال الجنسي بينهما الحد، فهو زناً، وليس وطءاً بشبهة.
شروط وجوب العدة:
شرط وجوب العدة حلول الفرقة بين الرجل والمرأة، سواء أكانت فرقة طلاق رجعي، أم طلاق بائن، أم كانت فسخاً بجميع أسبابه([2])، أم متاركة بعد نكاح فاسد أو وطء بشبهة، أم كانت وفاة الزوج حقيقة أو حكماً، وذلك كله بعد انعقاد سبب العدة بحسب ما تقدم.
ركن العدة:
ركن العدة هو الماهيات التي تتألف العدة منها، وهي حرمات ثلاث هي:
1ـ حرمة التزوج بغير الزوج.
2ـ حرمة الخروج من منزل الزوجية إلا لضرورة.
3ـ وجوب الإحداد وحرمة التزين، وذلك في بعض أنواع العدة دون جميعها.
وسيأتي مزيد تفصيل وشرح لذلك في أحكام العدة.
أنواع العدة:
تنقسم العدة من حيثيات مختلفة إلى أنواع متعددة:
فهي من حيث سببها تنقسم إلى قسمين؛ عدة الطلاق أو الفسخ أو المتاركة، وعدة الموت.
وهي من حيث طبيعتها تنقسم إلى ثلاثة أقسام؛ عدة بالحِيَض، وعدة بالأشهر، وعدة بوضع الحمل.
وهذه الأنواع تختلف فيما بينها من حيث الطبيعة والمدة والأحكام، وإنني سوف أعتمد التقسيم الأول في بيان كل نوع ومدته.
أ ـ عدة الطلاق والفسخ والمتاركة:
إذا كان سبب العدة طلاقاً، رجعياً كان أم بائناً، أم كان فسخاً، أم كان متاركة بعد نكاح فاسد أو وطء بشبهة، فإنها تكون بثلاث حيض أحياناً، وتكون بثلاثة أشهر أحياناً أخرى، كما تكون بوضع الحمل في بعض الأحيان، وذلك حسب التفصيل الآتي:
تبدأ العدة مطلقاً فور انعقاد سببها وقيام شرطها، فعدة الوفاة تبدأ من تاريخ وفاة الزوج، وعدة الطلاق تبدأ من تاريخ وقوع الطلاق، وعدة الفسخ تبدأ من تاريخ حصول الفسخ، وعدة المتاركة تبدأ من تاريخ المتاركة، والمتاركة إما أن تكون بحكم القاضي فتبدأ من تاريخ الحكم، وإما أن تكون بالعزم على ترك الوطء فتكون من تاريخ هذا العزم، سواء في ذلك أكان سبب العدة وشرطها معلومين للزوجة في أول العدة، أم لا.
فمن بلغها أن زوجها المسافر قد مات منذ سنتين اعتبرت عدتها مبتدأة منذ سنتين، وكذلك إذا بلغها أنه طلقها منذ ثلاث سنين، فإن مبدأ عدتها يعتبر من تاريخ الطلاق لا من تاريخ علم الزوجة به، وهكذا... وسواء في ذلك التزمت المعتدة بأحكام العدة أم لا، إلا أنها إذا التزمت بها برت، وإلا أثمت، إلا أن تكون جاهلة بسبب العدة وشرطها وقتئذ، فلا إثم عليها لذلك.
ولا تتأخر العدة عن ذلك كما يظن بعض العوام، إذ يؤخرون البدء بعدة الوفاة إلى اليوم الثالث من الوفاة أو اليوم السابع منها أو اليوم الأربعين... فإنه جهل في الدين لا أصل له.
أما نهاية العدة فمرتبطة بطبيعة العدة ونوعها ومدتها، وذلك يختلف بحسب حال الزوجة.
فإن كانت الزوجة حاملاً في بدء العدة، سواء أكانت العدة من موت أو طلاق أو فسخ أو متاركة، كانت نهاية عدتها وضع حملها بعد ذلك، ولا يهم أمر المدة الزمنية، فإذا وضعت حملها بعد ساعة من بدء العدة انتهت العدة في حقها، وإذا استمر حملها سنة كاملة أو أكثر امتدت عدتها طيلة هذه المدة كلها إلى وضع الحمل. ودليل ذلك قوله تعالى: {وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}([3]).
هذا والمعتبر في الولادة التي تنقضي بها العدة، وضع جميع الحمل، أو أكثره. فإذا وضعت المعتدة الحامل أحد التوأمين وبقي الآخر في بطنها، لم تنته عدتها به ولكن بوضع التوأم الثاني، هذا إذا كان الجنين مستبيناً بعض خلقه، فإذا كان علقة أو مضغة لم يعتبر وضعه ولادة، ولكن إسقاطاً، ولا تنقضي به العدة عند الحنفية، وذهب الشافعية إلى أن وضع المضغة ولادة مطلقاً ما دامت هذه المضغة أصل آدمي بشهادة القوابل.
هذا ولا يجوز أن تتأخر الولادة أكثر من سنتين هجريتين عند الحنفية، وأربع سنين هجرية عند الشافعية، وذهب قانون الأحوال الشخصية السوري في المادة 128 منه إلى اعتبار أعلى مدة الحمل سنة شمسية.
وإن كانت المعتدة حائلاً غير حامل عند بدء العدة، فإنه ينظر إلى حالها:
فإن كانت من ذوات الحيض، فإنها تؤمر بالاعتداد بثلاث حيض، وتنتهي عدتها بطهرها من الحيضة الثالثة، هذا ولا يعتد بالحيضة التي بدأت فيها العدة إن كانت المعتدة حائضاً وقتها، لأن الواجب الاعتداد بثلاث حيض كاملات. وهذا مذهب الحنفية، وذهب الشافعية إلى أنها تعتد بثلاثة أطهار، وتنتهي عدتها عندهم بانتهاء طهرها الثالث، وذلك لقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ} ([4]) فقد فسر الحنفية القرء بالحيض، وفسره الشافعية بالطهر، واللغة تحتمل كلا التفسيرين.
وإن كانت من غير ذوات الحيض، بأن كانت صغيرة دون التاسعة، أو كانت آيسة تجاوزت الخامسة والخمسين (على خلاف بين الفقهاء في تحديد سن الإياس) وانقطع دمها، أو أنها بلغت بالسن ولم تحض بعد، فإنها تعتد بثلاثة أشهر قمرية، وتنتهي عدتها بانتهاء الأشهر الثلاثة من تاريخ بدء العدة في حقها، وذلك مصداقاً لقوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} ([5]).
وإن كانت ممتدة الطهر، بأن حاضت بعد بلوغها ثم انقطع دمها لعلة، فإنها تعتد بالحيض حتى تبلغ سن الإياس، فإذا بلغته ولم تحض أو حاضت مرة أو مرتين فقط ولم تحض الثالثة، اعتدت بثلاثة أشهر بعد بلوغها سن الإياس، وهذا عند الحنفية، وكذلك المذهب الجديد عند الشافعية، والقول القديم للشافعي أنها تعتد بغالب مدة الحمل، وهي تسعة أشهر، لأنها بها تتبين براءة رحمها، وقيل تعتد بأربع سنين، هي نهاية مدة الحمل، وقيل تعتد بستة أشهر، هي أدنى مدة الحمل. وقول الشافعي القديم هذا أرفق بالمعتدات، وإن كان القول الجدي وهو قول الحنفية أقوى دليلاً.
فإن كانت المعتدة ممتدة الدم، بأن لا تطهر أبداً، فقد ذهب الحنفية إلى أنها تعتد بسبعة أشهر، فيقدر لها عشرة أيام للحيض، وشهران للطهر ثلاث مرات، وقيل تعتد بثلاثة أشهر، فيقدر لكل حيضة عشرة أيام ولكل طهر عشرون يوماً. وذهب الشافعية إلى أنها إن كانت ذاكرة لأيام حيضها وطهرها قبل امتداد الدم، (مميزة) فإنها تعتد بما تذكر من عادتها، وإن كانت غير ذاكرة لذلك، فإنها تعتد بثلاثة أشهر، لأن الأشهر الثلاثة لا تخلو عن ثلاثة أطهار في الغالب.
ب ـ عدة الوفاة:
عدة الوفاة إما أن تكون بأربعة أشهر وعشرة أيام، وإما بوضع الحمل، وإما بثلاثة أشهر، أو ثلاث حيضات، وذلك بحسب حال الزوجة، وهو كما يلي:
فإن كانت المرأة حاملاً عند وفاة الزوج، فإنها تعتد بوضع الحمل
كما تقدم في عدة الطلاق، لقوله تعالى: {وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}([6]) فإنه عام يعم المطلقة والمتوفى عنها زوجها جميعاً.
وإن كانت حائلاً غير حامل، فعدتها أربعة أشهر وعشرة أيام لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً}([7]) والأشهر هنا أشهر قمرية.
هذا إذا كان نكاحها من زوجها صحيحاً، فإذا كان فاسداً، أو كانت موطوءة بشبهة، فإنها تعتد من وفاة الزوج والواطئ بثلاث حيضات، أو ثلاثة أشهر، كما تقدم في عدة الطلاق، ولا تعتد بعدة الوفاة أربعة أشهر وعشراً ما دامت حائلاً، فإذا كانت حاملاً اعتدت بوضع حملها.
ويستوي هنا أن تكون المعتدة صغيرة أم كبيرة، مسلمة أم كتابية إذا كان زوجها مسلماً، لأن الاعتداد حق الله تعالى، كما يستوي أن يكون زوجها قد دخل بها قبل وفاته أم لا، لأن الموت دخول حكماً [بخلاف الطلاق والفسخ والمتاركة كما تقدم فإنه لا تجب العدة عليها بها قبل الدخول بخلاف الموت]. هذا إذا كان النكاح صحيحاً، فإذا كان فاسداً ثم توفي عنها، فإنها لا تعتد ما لم يكن قد دخل بها فعلاً، فإذا كان دخل بها فعلاً ثم مات عنها، اعتدت، وإلا فلا.
تغير العدة:
قد يطلق الرجل زوجته رجعياً أو بائناً فتعتد منه، ثم يتوفى عنها وهي في عدتها فهل تبقى في هذه الحال في عدتها الأولى؟
والجواب: أنه إن كانت عند وفاته في عدتها من طلاق رجعي، فإنها تستأنف عدة وفاة من تاريخ الوفاة، وتلغى العدة السابقة في حقها. وإذا كانت في عدتها من طلاق بائن، فإنها تعتد بأبعد الأجلين، فتستمر في العدة الأولى أو تستأنف عدة وفاة جديدة من تاريخ الوفاة، أيهما أبعد أجلاً، هذا إذا كان الطلاق الذي تعتد منه طلاق الفار وتحقق به الإرث لها، فإذا لم يكن طلاق الفار، بأن كان برضاها وطلبها ولم ترث منه، فإنها تستمر في عدتها الأولى فقط، ولا تلزمها عدة وفاة. وكذلك المعتدة من فسخ أو متاركة، فإنها تستمر في عدتها الأولى، ولا تلزمها عدة الوفاة لأنها لا إرث لها.
فإذا توفي الزوج بعد انقضاء العدة، لم يلزمها شيء من عدة الوفاة مطلقاً، لأنها غريبة عنه من كل وجه عند وفاته.
أحكام العدة:
أحكام العدة كثيرة مختلفة، يدخل فيها أركان العدة الثلاثة المتقدمة، وهذه الأحكام في جملتها هي:
1ـ منع المعتدة من التزوج بغير الزوج أو الواطئ بشبهة مدة العدة:
فإنه يحرم على المعتدة من طلاق أو فسخ أو موت أن تتزوج من غير زوجها الذي طلقها، أو فسخ نكاحها منه، أو توفي عنها أثناء العدة، فإذا تزوجت كان زواجها باطلاً أصلاً يجب بالوطء به الحد إذا لم ترافقه شبهة خارجة عنه، وكذلك التعريض بالزواج للمعتدة إذا كانت عدتها من طلاق أو فسخ فإنه حرام، فإذا كانت في عدة الوفاة جاز التعريض لها به، لقوله تعالى: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَـكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ}([8]).
أما خطبة المعتدة فإنها ممنوعة في كل أنواع العدة، سواء أكانت من طلاق، أم فسخ، أم موت، أم متاركة.
هذا في حق غير زوجها، أما زوجها الذي تعتد منه، فإن له أن يعيدها إلى عصمته في عدتها بمراجعة في الطلاق الرجعي، وبعقد جديد في الطلاق البائن بينونة صغرى، والفسخ، فإذا كانت البينونة كبرى لم يجز لزوجها إعادتها إلى عصمته مطلقاً، في العدة وبعدها، حتى تنكح زوجاً غيره بعد عدتها، ويطلقها ذلك الزوج أو يتوفى عنها، وتنقضي عدتها منه. فإذا حصل ذلك، فإن لزوجها الأول بعده أن يعيدها إلى عصمته بعقد جديد، وذلك مصداقاً لقول الله تعالى: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ .... فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}([9]).
2ـ منع المعتدة من الخروج من منزل الزوجية:
من أركان العدة وأحكامها وجوب إقامة الزوجة في مسكن الزوجية الذي كانت تقيم فيه مع زوجها قبل الاعتداد، ولا تخرج منه مطلقاً، سواء أكانت العدة من طلاق، أم فسخ، أم موت، وذلك مدة العدة كلها، وسواء أكان المنزل ملكاً للزوج، أم لم يكن ملكاً له، ما دامت إقامتها فيه ممكنة، فإذا كانت مستحيلة بأن تهدم البيت، أو أجبرها صاحب البيت على إخلائه بالقوة... فإن لها في هذه الأحوال أن تنتقل منه إلى أقرب بيت يمكن لها الإقامة فيه بأمان، وبذلك يكون البيت المنقولة إليه بمثابة بيت الزوجية، فتدخله ولا تخرج منه حتى نهاية عدتها، فإذا امتنع صاحب البيت من الإذن لها بالمقام فيه إلا بأجر المثل وجب عليها دفع أجر المثل له ما دامت تستطيعه.
ثم إذا كان البيت مستقلاً خاصاً لها لا يشاركها فيه غيرها من غير محارمها، فإنها تتجول فيه بين غرفه كيف شاءت، وإن كان مشتركاً مع غيرها من غير محارمها، فإنها تمتنع عن الخروج من غرفتها المخصصة لها إلى غيرها إلا لضرورة.
هذا ويسمح للمعتدة من طلاق أو فسخ بالخروج من المنزل الذي تعتد فيه لضرورات لا بد منها، كالتطبيب وشراء الحاجات إذا لم تجد من يؤمنها لها من محارمها، فإذا وجدت من يؤمن ذلك لها من محارمها، لم يجز لها الخروج.
فإذا كانت معتدة من وفاة جاز لها أن تخرج لضروراتها وللعمل أيضاً إذا لم يكن لها مال تستطيع الاستغناء به مدة العدة، فإذا كان لها مال تستغني به، لم يجز لها الخروج للعمل، وعلى هذا يخرّج أمر الزوجات العاملات اليوم إذا وجبت عليهن العدة، إذا كان لهن مال يستغنين به مدة العدة لم يجز لهن الخروج، وإلا جاز للضرورة، ولكن الضرورة تقدر بقدرها. وهذا بخلاف معتدة الطلاق والفسخ فإنه ليس لها الخروج للعمل مطلقاً، لاستغنائها بوجوب النفقة لها على زوجها مدة العدة.
هذا كله إذا كان الزوج مأموناً على الزوجة، فإذا كان فاسقاً غير مأمون عليها، أو كان البيت يضيق عنهما، فإن كانت العدة من طلاق رجعي لم يتغير الحكم، وتؤمر بالبقاء معه في منزل الزوجية، وإن كانت العدة من طلاق بائن أو فسخ، فإن القاضي يأمر الزوج بمغادرة البيت وتركه للزوجة مدة العدة، أو يأمر امرأة مأمونة بالقيام مع الزوجة أثناء عدتها إذا علم أن ذلك يكفي لصيانتها، وتكون أجرة المرأة المأمونة هذه واجبة في بيت مال المسلمين (الخزانة العامة) ـ إذا طلبت على ذلك أجرة ـ.
3ـ منع الزوج من التزوج بخامسة في عدة الرابعة:
إذا كان للزوج أربع زوجات فطلق إحداهن أو فسخ زواجها منه، أو كان له ثلاث زوجات ووطئ رابعة بشبهة أو عقد فاسد ثم تاركها، فإنه لا يحل له التزوج بخامسة حتى تنقضي عدة المطلقة أو المفسوخ نكاحها أو المتروكة، لأنها ما دامت في عدتها فهي في عصمته بالجملة، فإذا انقضت عدتها تزوج ممن شاء، ممن يحل له من النساء.
4ـ منع الزوج من التزوج بمحارم الزوجة المعتدة، أثناء العدة، ممن لا يجوز له جمعها معها في نكاح واحد:
وذلك كعمة الزوجة وخالتها وأختها وابنة أخيها، لأن المعتدة في عصمة الزوج بالجملة ما دامت في عدتها من فراقه، فإذا تزوج بأختها أو عمتها... وهي في عدتها، كان جامعاً بينهما، وهو ممنوع بالحديث الشريف: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تُنكح المرأة على عمتها، والمرأة على خالتها)، رواه البخاري، وفي رواية لمسلم: (لا تنكح العمة على بنت الأخ، ولا ابنة الأخت على الخالة)، وفي رواية ثانية لمسلم: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع الرجل بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها) ([10])، فإذا انقضت العدة جاز له التزوج ممن شاء، ممن يحل له من النساء.
5ـ وجوب الحداد أو الإحداد على المعتدة:
فقد ذهب الحنفية إلى أن الحداد واجب على المعتدة من وفاة والمعتدة من طلاق بائن، أما المعتدة من طلاق رجعي فلا حداد عليها لبقاء الزوجية حكماً. وذهب الشافعية إلى أنه لا حداد على المطلقة مطلقاً رجعياً كان الطلاق أم بائناً والحداد واجب فقط على المتوفى عنها زوجها، إلا أنهم استحسنوا الإحداد للمعتدة من طلاق بائن، وفي قول قديم للشافعي يجب الإحداد على المبانة كالحنفية. هذا ولا حداد على المعتدة من نكاح فاسد أو وطء بشبهة عند الجميع.
والإحداد هو ترك الزينة في اللباس والحلي وغيرهما، فلا يباح لها لبس الثياب الزاهية الألوان أو المزركشة، ولا لبس الحلي، ولا الامتشاط بمشط ضيق الأسنان. ويدخل في ذلك لبس الثياب السوداء المزينة المزركشة، وكذلك تصفيف الشعر وتزيينه في أيامنا هذه. ويحرم عليها كذلك التطيب، والاكتحال... وهكذا كل ما يعد من الزينة في العرف.
والإحداد معناه إظهار الحزن على الزوجية المنقضية التي هي نعمة كبرى من الله تعالى، والإحداد حق الله تعالى، فإذا خالفته المعتدة أثمت والعدة ماضية على حالها لم تتأثر، وذلك خلافاً لما يشاع لدى بعض العامة من بطلان العدة بذلك.
6ـ جواز مراجعة زوجها لها:
إذا كانت الزوجة معتدة من طلاق رجعي، جاز لزوجها المطلِّق مراجعتها في العدة برضاها، وذلك بأن يقول لها: (راجعتك لعقد نكاحي) أو أن ينال منها فعلاً ما لا يحل لغير الزوج، كالوطء والمس بشهوة، وإن كان ذلك مكروهاً قبل المراجعة اللفظية.
فإذا انقضت العدة قبل أن يراجعها، لم يعد له حق مراجعتها، ولكن يعقد عليها برضاها وبمهر جديد إن شاء، لحلول البينونة بانقضاء العدة.
أما المعتدة من طلاق بائن، فإنه لا يجوز لزوجها مراجعتها في العدة ولا بعدها، ولكن يعقد عليها برضاها وبمهر جديد في العدة وبعدها إن شاء، إذا كانت البينونة صغرى، فإذا كانت بينونة كبرى لم يحل له العقد عليها في العدة ولا بعدها حتى تنكح زوجاً غيره ـ كما تقدم ـ.
7ـ وقوع الطلاق عليها:
إذا كانت الزوجة معتدة من طلاق رجعي، فطلقها زوجها ثانية في عدتها، رجعية كانت الطلقة أم بائنة، وقعت الطلقة الثانية عليها، وضمت إلى الطلقة الأولى، فإن كانت الأولى صارت بها اثنتين، وإن كانتا اثنتين صارتا ثلاثة وبانت منه بينونة كبرى، فإن الطلاق الرجعي يلحقه الرجعي والبائن معاً، عند الحنفية.
وإن كان الطلاق الأول الذي تعتد منه بائناً ثم طلقها زوجها المطلِّق ثانية بائناً، لم يقع الطلاق الثاني عند الحنفية إلا أن يكون طلاقاً على مال، فإنه يقع ويضم إلى الطلاق الأول لأنه صريح. فإذا طلقها ثانية رجعياً وقع الطلاق الثاني، وضم إلى الأول، لأن الرجعي يلحق الرجعي والبائن.
هذا إذا كان الطلاق البائن الثاني أمكن جعله إخباراً عن حال المرأة بعد بينونتها الأولى، بأن أبانها فاعتدت ثم قال لها في عدتها: (أنت حرام علي) أو (أنت مبانة مني) فإنه لا يقع عليها بذلك شيء لإمكان جعل المطلِّق بذلك مخبراً عن بينونتها، فإذا لم يمكن جعله مخبراً عن ذلك بأن أبانها فاعتدت فقال لها في عدتها: (أنت مبانة أخرى) فإنه يقع، ويلحقها، وتجعل مبانة بطلقة بائنة ثانية...
فإذا كانت معتدة من فسخ أو وطء بشبهة، لم يقع عليها الطلاق في عدتها مطلقاً.
هذا كله ما دامت في عدتها، فإذا انقضت العدة ثم أبانها بثانية أو ثالثة، أو طلقها رجعياً، لم يقع عليها شيء، لانقضاء الزوجية تماماً بانتهاء العدة. وسواء في ذلك أن تكون العدة المنقضية عدة طلاق رجعي أو بائن أو فسخ.
وهذا كله أيضاً إذا كان الطلاق منجزاً، أو معلقاً وقد حصل الشرط المعلق عليه الطلاق، فإذا طلقها بطلاق معلق، وقبل وقوع الطلاق طلقها ثانية، وقع عليها الطلاق الثاني مطلقاً، لأنها ما زالت في عصمته، ولم تدخل في العدة بعد.
8ـ إرثها من مطلقها:
إذا طلق الرجل زوجته، أو فسخ نكاحها منه، أو تاركها، ثم توفي عنها وهي في عدتها من فراقه، فهل ترث منه؟
اتفق الفقهاء على أن الزوجة إذا كانت في عدتها من طلاق رجعي، ثم توفي الزوج وهي بعد في العدة، فإنها ترث منه، لبقاء الزوجية بينهما حكماً أثناء هذه العدة.
فإذا كانت المُطلَّقة في عدتها من طلاق بائن، فقد ذهب الحنفية إلى أنها ترث منه إذا كان طلاق الفارِّ، وطلاق الفارّ هو أن يطلقها في مرض موته طائعاً بغير رضاها، فإذا طلقها في صحته أو في مرضه ولكن مكرهاً، أو غير مكره ولكن بناء على طلبها هي، لم يكن فاراً بهذا الطلاق منها ما دام الطلاق بائناً، فإذا كان رجعياً ورثته مطلقاً ـ كما تقدم ـ.
فإذا كانت في عدتها من عقد فاسد أو وطء بشبهة، لم ترث منه مطلقاً، لأن سبب الإرث هو الزوجية الصحيحة، وهي منتفية هنا.
9ـ وجوب النفقة لها على زوجها:
اتفق الفقهاء على أن للمطلقة رجعياً نفقة كاملة على زوجها المطلق مدة العدة، لقيام الزوجية بينهما حكماً، ولأنها محتبسة بسببه، أما المطلقة بائناً، فقد ذهب الحنفية إلى أن لها النفقة كاملة على مطلقها مدة العدة، لأنها محتبسة بسببه، وذهب الشافعية إلى أنها تستحق على المطلِّق السكنى فقط، ولا نفقة لها فيما عدا ذلك، إن كانت حائلاً غير حامل، فإذا كانت حاملاً وجبت لها عليه النفقة كاملة كالحنفية.
وأما المفسوخ نكاحها، فإن كان الفسخ بسبب الزوج، وجبت لها النفقة كاملة، وإن كان بسبب منها، فإن كان السبب معصية كارتدادها ـ والعياذ بالله تعالى ـ، لم يجب لها شيء من النفقة إلا السكنى، وإن لم يكن معصية وجبت لها النفقة كاملة، وهذا عند الحنفية، وذهب الشافعية إلى أن الفسخ إن كان بسبب مرافق للعقد، كالعيب القديم، فلا نفقة لها ولا سكنى، وإن كان بسبب طارئ على العقد، كالردة، والرضاع الطارئ، وجبت لها النفقة كاملة إن كانت حاملاً، فإن كانت حائلاً وجبت لها السكنى فقط كالمبانة، ولا نفقة لها فيما عدا ذلك.
فإذا كانت معتدة من وفاة، لم يجب لها شيء من النفقة مطلقاً، لاستغنائها بالإرث عنها، وذلك باتفاق الفقهاء.
وهذا كله إذا كان عقد نكاحها الأول صحيحاً، فإذا كان فاسداً، أو كان وطءاً بشبهة، لم تستحق النفقة في عدتها على أحد مطلقاً، زوجاً كان أم واطئاً.
هذا وتجب نفقة المعتدة على الزوج على نحو ما تقدم، ما دامت الزوجة في بيت الزوجية، فإذا خرجت منه بدون إذنه وبدون سبب مشروع تكون ناشزاً، وتسقط نفقتها، كالزوجة تماماً، فإذا خرجت بإذنه أو لسبب مشروع، استحقت النفقة عليه مطلقاً.
الحكمة في وجوب العدة على الزوجة والموطوءة:
والمعنى العام لوجوب العدة على الزوجة والموطوءة، بالطلاق أو الوفاة أو المتاركة في الشريعة الإسلامية هو ضمان براءة رحمها، توخياً لحفظ الأنساب، ودفعاً لاختلاطها، وصوناً لنقائها الذي هو قوام سلامة المجتمع، ثم إن فيها صيانة لسمعة الزوجة من أن تلوكها الألسن، وتنويهاً بأهمية النكاح وحرمته وخطره، كما أن فيها تثبيتاً لأواصر الود، واستمراراً لها بين الزوج وأحمائها ذوي المتوفى، حيث تبقى الزوجة مدة في منزل الزوجية قريبة منهم، يستروحون من النظر إليها أريج فقيدهم، وكم ستكون الجفوة كبيرة والحزن عميقاً في نفوسهم لو رأوها متزوجة من آخر بعد وفاة فقيدهم بيوم أو يومين أو شهر مثلاً، وكيف لا يرعى الإسلام مثل هذه المعاني السامية وهو دين الوحدة والأخوة والمحبة والسلام.
ثم إن في مكث المعتدة في منزل الزوجية وعدم التزوج بآخر في عدة الطلاق الرجعي معنى هاماً آخر وهو تمكين الزوج من مراجعة نفسه، والعودة إلى زوجته، واستئناف الحياة الزوجية معها مرة ثانية، ما دامت في عدتها. فإنها تقف أمامه، تساكنه وتؤاكله وتتزين له، ذلك أنه لا حداد على معتدة الرجعي، بل إن من المستحسن للزوجة المعتدة من رجعي أن تتزين لزوجها ترغيباً له في العودة إلى نعمة الزواج معها.
** ** **
([1]) استيلاد الرقيقة هو الاتصال بالجارية المملوكة بملك اليمين اتصال الزوج بزوجته إذا نتج عنه ولد وادعاه السيد وقال: هو ابني، وهنا تسمى المستولدة أم ولد ويثبت لها بذلك سبب الحرية.