طفل الأنابيب
قرأت مقالاً نشرته مجلة الوعي الإسلامي في العدد 167 منها عن طفل الأنابيب للدكتور أحمد شوقي إبراهيم، فتحفزت مرات وأنا أقرأ إلى مناقشته، إلا أنني تصبرت، وما إن أتممت قراءة المقال حتى وجدت في آخره ملاحظة للوعي الإسلامي ترحب فيها بتلقي المناقشات حوله كي يتضح الأمر وتسطع شمس الحقيقة، فتأكدت لدي عند ذلك الرغبة في المناقشة والاستدراك.
وأشير إلى أنني قبل بضعة أشهر قرأت في العدد 232 من مجلة العربي الكويتية مقالاً للدكتور يوسف القرضاوي تحت عنوان: (قضايا علمية تنتظر أحكامها الشرعية) في الموضوع المطروح هنا نفسه، وقد أثار ذلك المقال وقتها في نفسي من المشاعر والرغبة في المناقشة مثل ما أثاره هذا المقال، إلا أن الوقت لم يسعفني للقيام بالواجب.
إنني أقرر أن هذا الموضوع جديد ولم يطرقه أحد من فقهاء السلف ـ فيما أظن ـ ولهذا كان من الصعوبة بمكان البت فيه بحكم قاطع جازم، إلا أنه ليس لهذه الصعوبة أن تثني فقهاء العصر عن الخوض فيه، وبذل الجهد في الوصول إلى حكمه في الشريعة الإسلامية، بل إن الخوض فيه أصبح واجباً بعد ما تم إحراز تقدم كبير في بحوثه لدى الطب الحديث، وقد كنت ناديت بذلك قبل بضع سنوات في مقال نشرته مجلة الوعي الإسلامي في عددها ذي الرقم 85 أو 84 ـ فيما أظن ـ تحت عنوان: (حكم الإسلام في التلقيح الصناعي).
والحل الأمثل عندي أن لا يبت في هذا الموضوع الخطير برأي شخصي مهما بلغ صاحبه من العلم والنزاهة والتقى، وذلك لخطورة الموضوع وصعوبته وتشابه الأدلة فيه، ولكن يجري البحث فيه من قبل جماعة من الفقهاء المتخصصين المأمونين في دينهم، يجتمعون من أجل ذلك، ثم يعمل فيه بما ينتهون إليه من الحكم، وإذا كان هذا الجمع متعذراً بعض الوقت لظروف خاصة، فلا أقل من أن يستكتب فيه جماعة من أولئك المشار إليهم، ثم ينشر ما يكتبونه بطريقة أو أخرى، وتتقبل المناقشات حوله، ثم تنشر كذلك، وفي النهاية لا بد أن يصل البحث إلى نهاية ويتضح الحق والصواب. وإذا كان ما قرأته في مجلة العربي ومجلة الوعي الإسلامي باكورة لما أشرت إليه من الاستكتاب، فإنه باكورة طيبة مأمونة بإذن الله تعالى.
وإذا كان لا بد لي من المشاركة والمناقشة لما تقدم فإنني أكتفي الآن بوضع إشارات في معالم الطريق الطويلة إلى الوصول إلى الحكم الصحيح في هذا الموضوع الخطير، وهي:
1ـ إن اتباع طريق التلقيح الصناعي (نقل النطفة من الرجل إلى رحم زوجته بطريقة آلية) وكذلك طريقة طفل الأنابيب (وضع البويضة في أنبوب وتلقيح هذه البويضة بحوين الرجل) يتطلب دون شك كشفاً لعورة الرجل وعورة المرأة المغلظتين أمام الطبيب الأجنبي عنهما، وهو أمر محرم بنصوص القرآن والسنة القاطعة التي لا لبس فيها.
نعم إن كشف العورة يباح لضرورات طارئة، إلا أن هذا العمل ليس من تلك الضرورات بكل تأكيد مهما كان الدافع إليه، لعدم استجماعه شروطها وقيودها المعروفة في الفقه.
2ـ إن الوصول إلى ذينك الأمرين يتطلب (غالباً) أو في غالب الأحوال تهييجاً للرجل وإثارة لغريزته الجنسية فيه أمام الطبيب الأجنبي عنه، وربما احتاج الأمر إلى ما هو أبعد فحشاً، وإلا لم يمكن الحصول منه على النطفة، وفي ذلك خروج عن حدود اللباقة والخلق الكريم، وقواعد الدين الحنيف، بل عن حدود الإنسانية إلى الحيوانية.
3ـ إنه طريق مفروشة بالذرائع والشبهات، فربما بدل الطبيب نطفة الزوج بنطفة أخرى غيرها، أو بدل بويضة المرأة ببويضة غيرها، عن عمد وسوء نية، أو عن خطأ، فتشتبه بذلك الأنساب وتختلط، وهما مما يحتاط له الدين الإسلامي كل الاحتياط، وكذلك الخلق العربي الأصيل، وهذا التبدل وارد مع انتشار هذه العملية وعمومها في الأوساط، وقلة الأمانة لدى بعض من يمتهنونها، ومعلوم أن سد الذرائع من قواعد الإسلام.
4ـ ربما تسببت هذه العمليات في تغييرات جذرية في نفس الطفل أو خُلقه، مما يعود عليه وعلى المجتمع الذي يعيش فيه بأفدح الأضرار، وهو أمر متوقع بل مظنون، ولنتصور الآن أعداداً كبيرة من المشوهين في خَلْقهم أو خُلقِهم في مجتمع ما، كيف يكون معه حال هذا المجتمع؟ وربما كانوا هم القادة فيه في يوم من الأيام.
5ـ أي كرامة تبقى لطفل يعلم أنه تكون في أنبوب، أو نقل من أبيه إلى أمه في أنبوب، وأنه مشكوك في نسبته إلى أبويه، إن ظناً أو وهماً، ما هو موقف هذا الطفل من نفسه أمام الأطفال الآخرين المولودين بطريقة عادية، وأي موقف له من والدية أمام إخوته وأبناء عمه المولودين بطريقة عادية؟
بل أي نظرة ينظر بها الأبوان والأقارب إلى هذا الطفل (الصناعي) وربما أطلق عليه في المستقبل فعلاً (الطفل الصناعي) وربما قسم علماء الاجتماع الأطفال إلى قسمين: أطفال عاديين وأطفال صناعيين، وذلك إذا ما انتشرت هذه الطريقة وعمت في الإنجاب.
ومعلوم أن أجمل ما يميز به القرآن الكريم الإنسان عن غيره من الحيوانات الأخرى هو الكرامة: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}([1]).
ثم إن نقاء النسب من أشرف ما يتشرف به العربي ويحرص عليه، وهو ما أقره الفقه الإسلامي ورعاه، وفي اللجوء إلى هذه الطرق إثارة الشبهات في صحة الأنساب ونقائها، وخروج على هذا المبدأ المعتبر.
6ـ ما هو الداعي إلى التلقيح الصناعي أو التربية في الأنابيب بعد ما تقدم من الصوارف والموانع، هل هو ضرورة ملحة يجب أن يستهان بكل ما يمنع من تحقيقها؟ وما هي هذه الضرورة؟
أ ـ أهي الرغبة في تكثير النسل، والعالم يشكو من الانفجار السكاني؟
ب ـ أم هي الرغبة في تحسين الخَلق بالتدخل في تغيير (الكروموزومات) في الخلية الأولى، وهو في الحقيقة مشاركة لله تعالى في الخلق؟
جـ ـ أم هي الرغبة في معرفة حال الجنين أذكراً أم أنثى، وهو مما استأثر الله تعالى بعلمه {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ}([2]).
د ـ أم هي تطييب نفس الزوجين العقيمين بتأمين الخلفة لهما، وهو أمر أتفه بكثير من أن يلتفت إليه بعد تهيب الصوارف والموانع كلها عن تحليل هذه العملية، سيما وأن الله تعالى شاء أن يكون في الأمة عقماء فقال: {وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيماً}([3]).
وأخيراً لا بد من التذكير بالقاعدة الفقهية الكلية (الأصل في الفروج التحريم)، ولهذا فإن البحث الفقهي ينبغي أن يتجه إلى تلمس الدليل المبيح لهذه العملية ولا يكتفي منه بنفي الدليل المانع. وهو أمر بعيد العثور عليه ـ فيما أظن ـ.
وعلى كل فإن ما قدمته لا يزيد على أنه نقاط وملاحظات ومعالم في طريق البحث عن حكم الله تعالى في هذا الموضوع الخطير، وليس بحثاً في ذاته، وأرجو أن يتابع الفقهاء المعاصرون هذا الموضوع بدقة ودراية ونزاهة في ضوء ما قدمت من ملاحظات.
** ** **