النذر وما يجب به على الناذر
(تتمة)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والتابعين، ومن تبع هداهم بإحسان إلى يوم الدين .
أيها الإخوة المستمعون: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وبعد:
فقد أنهينا في الحلقة السابقة الكلام على ما يجب على الناذر أن يفعله بسبب نذره، وحصرنا ذلك في أمرين، هما البر بما نذر، أو الكفارة، كلٌّ في موضعه مما قدمناه .
والآن نتكلم في مسألة تقييد النذر بالزمان والمكان والشروط، وأثرِ ذلك على الوفاء بالنذر، وهي مسألة هامة جدا ودقيقة، ومحلُّ اختلاف الفقهاء، لأن النذر قد يكون مطلقا من أي شرط، كأن ينذر الرجل صدقة للفقراء مثلا، دون أن يحدد الفقراء الذين سوف يصرفها إليهم، ولا وقت الصرف، ولا مكانه، ولا عين الدراهم التي يريد أن يتصدق بها، وقد يكون النذر مقيدا بشروط معينة، وهذه الشروط قد تكون زمانية، كأن ينذر صلاة في يوم الجمعة الفلاني مثلا، أو صوما في الشهر الفلاني، وقد يكون القيد مكانيا، كأن ينذر صوما في الحرم المكي مثلا، أو صدقة على فقراء البلد الفلاني، وربما كان القيد غير ذلك، كأن ينذر صدقة بمبلغ من المال، على أن توزع على عشرة من الفقراء مثلا، أو على أن يشترى بها طعاما ويقدمه إليهم .
فهل يجب على الناذر في هذه الأحوال كلِّها، أن يتقيد في وفائه بالنذر بتلك القيود التي قيد بها نذره، ولا يخرجُ عن العهدة إلا بذلك، أو يجوز له أن يفي بنذره دون التزام بتلك القيود؟
لو رجعنا إلى كتب الفقهاء في باب النذر لوجدنا لهم كلاما كثيرا ظاهره الاضطراب، فأحيانا يُلزِمون الناذر بالتقيد بقيوده التي قيد بها نذره، وأحيانا يحلِّلُونه منها، فالشافعية مثلا نصوا على أن المسلم لو نذر صلاة في المسجد الحرام لزمه أن يصليها في المسجد الحرام، ولا يبرِئُه من النذر أن يصليها في غير المسجد الحرام الذي قيدها فيه، ولو نذر صوما في المسجد الحرام، كفاه وفاء بالنذر أن يصومه في بلده، وكذلك الحنفية، حيث قالوا: لو نذر المسلم صوما متتابعا، لزمه التتابع فيه، ولا يُحِلُّه من النذر أن يصومه متفرقا، ولو نذر صوما في مكة، كفاه أن يصومه في بلده، ومثل ذلك في مذهب المالكية والحنبلية كثير، مما يجعل القارئ لهذه الأمثلة يظن أن هذه المذاهب تمشي في هذا الموضوع على غير قاعدة، وقد نص ابن عابدين من الحنفية في حاشيته رد المحتار على الدر المختار فقال: (والنذر من اعتكاف أو حج أو صلاة أو صيام أو غيرها غيرُ المعلق ولو معينا لا يختص بزمان ومكان ودرهم وفقير، فلو نذر التصدق يوم الجمعة بمكة بهذا الدرهم على فلان فخالف جاز) ثم قال نفسه في مكان آخر: (لو نذر الحجَّ ما شيا لزمه المشي فيه) مع أن المشي قيدٌ، ومقتضى القاعدة المتقدمة أن لا يَلْزَمَهُ المشيُ .
والحقيقة أن هذا الموضوع منضبط لدى الفقهاء بقواعد واضحة، خلافا لما قد يتبادر للوهلة الأولى، وهي: أن النذر المطلق منجزا كان أو معلقا على شرط، يبقى على إطلاقه، ولا يُقيَّد الناذر فيه بأي قيد في البِر به، باتفاق الفقهاء، فلو نذر صوم ثلاثة أيام مثلا دون تقييد بشهر معين ولا بلد معين، كفاه أن يصوم أي ثلاثة أيام، في أي شهر، في أي بلد، لا تثريب عليه في ذلك .
أما النذر المقيد، فإن كان مقيدا بقيد يتضمن عبادة من جنسها فرض، فقد وجب التقيد به، سواء كان القيد زمانيا أو مكانيا أو غير ذلك، ولا يبَر الناذر بنذره إلا إذا أتى به مقيدا بالقيد الذي ذكره فيه، وهذا في مذهب الحنفية، بناء على أصلهم في صحة النذر، حيث قالوا: إن النذر لا يصح أصلا إلا إذا كان من جنسه فرض، فكان قيده كذلك .
وعليه فإذا نذر المسلم صدقة يوم الجمعة، على فقراء مكة، بهذا الدرهم، مثلا، جاز له عند الحنفية أن يتصدق في غير مكة، وفي غير يوم الجمعة وبغير ذلك الدرهم، لأن هذه القيود لا يوجد من جنسها واجب، فلا تلزم، ولو نذر المسلم الحجَّ إلى بيت الله الحرام ماشيا، لزمه الحج مع المشي، فإذا عجز عن المشي ركب ودفع الفدية، وهي ذبح شاة، لأن المشي إلى الحج يوجد من جنسه واجب، وهو المشي إلى الحج على أهل مكة إذا عجزوا عن تأمين الراحلة، فإنه واجب عليهم، على خلاف أهل الآفاق الذين يسكنون في بلاد بعيدة عن الحرم، فلا يلزمهم الحج إذا لم يجدوا الراحلة، وقد استدلوا على ذلك بحديث ابن عباس t قال: (جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ r فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ مَاشِيَةً، قَالَ إِنَّ اللَّهَ لا يَصْنَعُ بِشَقَاءِ أُخْتِكِ شَيْئًا، لِتَخْرُجْ رَاكِبَةً وَلْتُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهَا) رواه أبو داود، وأحمد واللفظ له ، وفي رواية لأصحاب السنن الأربعةِ وأحمدَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: (قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَمْشِيَ إِلَى الْبَيْتِ حَافِيَةً غَيْرَ مُخْتَمِرَةٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ r: (إِنَّ اللَّهَ لا يَصْنَعُ بِشَقَاءِ أُخْتِكَ شَيْئًا، فَلْتَرْكَبْ وَلْتَخْتَمِرْ وَلْتَصُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) .
وذهب الجمهور من الفقهاء، إلى أن القيود المُلزمة هي القيود التي تتضمن قربة أو عبادة، سواء كانت فرضا أولا، وذلك بناء أصلهم في صحة النذر، حيث قالوا: لا يصح النذر إلا إذا كان يتضمن عبادة أو قربة، وكذلك هنا شرطُه المقيدُ له، وذلك مثل أن ينذر صلاة في مسجد المدينة المنورة، فيلزمُه أن يصليها فيه، ولا يكفيه أن يصليها في مسجد حيه، لأن الصلاة في مسجد المدينة عبادة وطاعة مأجور عليها أجرا خاصا مميزا عن الصلاة في المساجد الأخرى، لقوله r :(صَلاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ) رواه مسلم وأصحاب السنن، ولو نذر الصومَ في البلد الحرام، كفاه أن يصومه في بلده، لأن الصوم في البلد الحرام ليس طاعة ولا عبادة في نفسه، لاستواء الصوم فيه وفي غيره من البلدان، على خلاف الصلاة .
والآن نبحث في وقت الوفاء بالنذر، هل يكون على الفور أو على التراخي؟ مثل أن يقول الناذر: إن شفى الله تعالى مريضي فلانا فقد نذرت لله تعالى صلاة أربع ركعات، مثلا، أو يقول: إن قدم فلان من السفر فلله علي أن أصوم يومين، أو غير ذلك ..
والجواب أن النذر إذا كان معلقا على شرط، فالفقهاء متفقون على أنه لا يلزم الوفاء به قبل تحقق الشرط المعلق عليه .
فإذا تحقق الشرط المعلق عليه، أو كان النذر نذرا مطلقا غير معلق على شرط، فهل يجب الوفاء به على الفور؟ أم يجوز تأخير الوفاء بالنذر إلى زمن لا حق، طال أم قصر، من غير إثم؟
والجواب: أن أكثر الفقهاء متفقون على أن الوفاء بالنذر يكون على التراخي، ولا يجب الوفاء به فورا، وللناذر أن يؤجله إلى أي وقت شاء، إلا أن تعجيله أفضلُ، خشية الموت أو العجز عن الوفاء به في المستقبل .
وفي ختام هذه الحلقة أتوجه للإخوة المستمعين بالتوصية إذا ما حزبهم أمر، أو ألمَّت بهم مصيبة، أو مرضَ لهم مريض مثلا، أو أصابهم أمر ما، أن يُهرعوا إلى الله تعالى بالدعاء له أن يكشفها عنهم، وذلك بعد اتخاذ الإجراءات الممكنة لرفعها، فإنه وحده سبحانه القادر على كل شيء، وأن يقدِّموا له سبحانه من الطاعات والعبادات البدنية، كالصلاة والصوم، والمالية كالصدقة والوقف، ما يستطيعون من غير حرج، ويجعلوا ذلك خالصا لوجهه الكريم، فإن ذلك أولى لهم من النذر المعلق على زوال المشكلة أو زوال المصيبة، مذكرا الجميع بقول الله تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) 186/ من سورة البقرة، وبحديث النبي r :(إِنَّ النَّذْرَ لا يُقَدِّمُ شَيْئًا وَلا يُؤَخِّرُ وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِالنَّذْرِ مِنَ الْبَخِيلِ) متفق عليه واللفظ للبخاري .
ولا يعني هذا بحال أيها الإخوة المستمعون، أنني أمنع من النذر، ولكنني أفضِّل الطاعة المباشرة على الطاعة المنذورة، لأن الأُولى صدقة الغني، والثانيةُ صدقة البخيل، وصدقة البخيل هي المقدمة في كل الأحوال، فبدلا من أن ينذر المسلم صياما أو صدقة عند المصيبة، عليه أن يبادر بالصوم والصلاة والصدقة من غير نذر، مع الدعاء لله تعالى أن يرفعها عنه، وذلك بعد أن يكون قد اتخذ كل الأسباب الممكنة لرفعها، فهذا هو الأولى والأجدر بالمسلم أن يفعله ويلجأ إليه .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
والله تعالى أعلم .
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته .
ـــــــــــــــــ
ـــــــ