الحلقة (7)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والتابعين، ومن تبع هداهم بإحسان إلى يوم الدين .
أيها الإخوة المستمعون: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وبعد:
فإن حديثنا اليوم عن زكاة عروض التجارة، والعروض التجارية هي كل سلعة تُمْلَك بقصد البيع والتجارة، سواء كانت من المزروعات، أو الحيوانات، أو العقارات، أو غيرها، وسواء كانت مأكولا أو ملبوسا أو غير ذلك، ما دامت مملوكة بقصد التجارة، وهي البيع والشراء بقصد الربح .
وقد ذهب عامة الفقهاء إلى أن العروض التجارية مما تجب فيه الزكاة، أما ما يمتلك بقصد أكله أو لبسه أو استعماله بأي طريق من طرق الاستعمال من العروض، فلا زكاة فيه .
واستدلوا على ذلك بحديث سمرة رضي الله عنه قال:(أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْمُرُنَا أَنْ نُخْرِجَ الصَّدَقَةَ مِنِ الَّذِي نُعِدُّ لِلْبَيْعِ) رواه أبو داود .
ولوجوب الزكاة في عروض التجارة شروط لا بد من توافرها، فإذا لم تتوافر لم تجب الزكاة فيها، وهي:
الشرط الأول) نية التجارة عند امتلاكها، وبقاء هذه النية حتى انتهاء الحول، وعليه، فإذا اشترى المسلم سلعة ما بقصد استعمالها، ثم قصد بيعها بعد ذلك لعارض عرض له، فلا تجب الزكاة فيها حتى يبيعها فعلا، فإذا باعها ضمَّ ثمنها إلى أمواله الأخرى وزكاها معها، ولو اشترى المسلم سلعة بقصد بيعها، ثم قصد استعمالها لأمر عرض له، فإن زكاتها تسقط عنه من تاريخ تغيُّر نيته، لأن التجارة نيَّة مع فعل البيع، فلا تثبت إلا بهما، أما ترك التجارة فنية وامتناع عن فعل البيع، وهو متأتٍّ بالنية وحدها .
والشرط الثاني) أن يمتلكها المسلم بعقد معاوضة، كعقد البيع، فإذا ملكها بغير معاوضة، كإرث أو هبة أو نحو ذلك، لم تجب فيها الزكاة حتى يبيعها، فإذا باعها ضم ثمنها إلى باقي ماله وزكاه معه .
هذا ما ذهب إليه أكثر الفقهاء، وقال بعضهم الشرط أن يملكها بفعله، معاوضة كان أو لا، كما إذا ملكها بقبوله الهبة بقصد بيعها، فإنه تجب عليه زكاتها، وإلا لم تجب عليه زكاتها، وقال بعضهم كل ما يملكه بقصد البيع تجب عليه زكاته، سواء ملكه بفعله أو بغير فعله بمعاوضة، أو بغير معاوضة، لإطلاق قوله صلى الله عليه وسلم: (أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْمُرُنَا أَنْ نُخْرِجَ الصَّدَقَةَ مِنِ الَّذِي نُعِدُّ لِلْبَيْعِ) رواه أبو داود . وهذا هو الأحوط .
والشرط الثالث) أن لا يكون لزكاتها سبب آخر غير التجارة، فإذا كان لها سبب آخر غير التجارة، كالسوائم، والحلي من الذهب والفضة، والأراضي الزراعية، فقد اختلف الفقهاء في زكاتها .
فأما السوائم:
فإذا كانت للتجارة، وكانت سائمة، فقد ذهب المالكية والشافعية في الجديد إلى أنها تجب فيها زكاة السوائم، من حيث النصاب ومقدار الواجب فيها، ولا تجب فيها زكاة التجارة، لئلا تجتمع فيها الزكاتان، لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:(لا ثنى في الصدقة) أخرجه ابن أبي شيبة .
وذهب الحنفية والحنبلية، إلى أنها تزكي زكاة التجارة، ولا تجب فيها زكاة السوائم .
وأما السوائم المعلوفة، ففيها زكاة التجارة إذا كانت للتجارة، وإلا فلا زكاة فيها عند الجمهور كما تقدم في زكاة السوائم، خلافا للمالكية .
وأما الحليُّ إذا كانت للتجارة، فقد ذهب الجمهور إلى أنها تزكي زكاة الذهب والفضة من حيث النصاب، ولا اعتبار للصنعة فيها، وذهب الحنبلية إلى أن الصنعة تقوم فيها ما دامت للتجارة، كمن كان عنده خمسة عشر مثقالا من الحلي الذهب، وقيمتها لصياغتها تساوي عشرين مثقالا منه، وكانت للتجارة، فإن الزكاة تجب فيها عند الحنبلية، ولا تجب فيها عند جمهور الفقهاء، أما إذا كانت لغير التجارة، فلا تجب فيها الزكاة باتفاق الفقهاء مادامت دون النصاب .
أما الأراضي الزراعية إذا اشتراها المسلم بقصد التجارة ثم زرعها، فقد ذهب الحنفية إلى أن الزكاة تجب في الناتج منها، وهو العشر أو نصف العشر بحسب أنها تسقى بماء السماء أو بما فيه كلفة، ولا تجب الزكاة في قيمة الأرض، لئلا يؤدي إلى الثنى المنهي عنه، وذهب الجمهور إلى وجوب الزكاة في قيمة الأرض، وهي زكاة التجارة، أما الناتج منها، فقد ذهب المالكية إلى عدم وجوب الزكاة فيه، وذهب الشافعية والحنبلية إلى أن الزكاة تجب في قيمته كما تجب في قيمة الأرض، ويزكيان زكاة معا التجارة .
والشرط الرابع) أن تبلغ النصاب، ونصابها ما قيمته عشرون مثقالا من الذهب أو مائتا درهم من الفضة، ويضم قيمة بعضها إلى بعض في تكميل النصاب مهما اختلفت أجناسها وأنواعها، ما دامت كلها للتجارة، .
وهل تقوَّم بالذهب أم بالفضة من حيث النصاب؟ ذهب أبو حنيفة في رواية، والحنبلية، إلى أنها تقوَّم بما هو الأحظ للفقير، أي الأقل ثمنا من الذهب والفضة، احتياطا، وفي رواية أخرى عن أبي حنيفة أن المسلم مخير إن شاء قومها بالذهب، وإن شاء قومها بالفضة، وذهب الشافعية وأبو يوسف من الحنفية إلى أنه يقومها بما اشتراها به من الذهب أو الفضة، فإن اشتراها بعرض قومها بما هو الرائج في بلده من الذهب أو الفضة، وذهب محمد بن الحسن من الحنفية إلى أنه يقومها بالرائج في بلده من الذهب والفضة مطلقا، سواء اشتراها بالذهب أو بالفضة أو بغيرهما، وهو الذي عليه العمل الآن لدى أكثر اللجان الفقهية .
ولا بد لسائل أن يسأل عن كيفية تقويم السلعة، ووقت تقويمها، والجواب: أن السلع التجارية تقوَّم في نهاية كل حول هجري بدءا من أول يوم امتلاكها، فإذا انقضى عام هجري على امتلاك الإنسان للسلع التجارية قوَّمها بحسب قيمتها في السوق في ذلك اليوم بسعر الجملة، لا بالسعر الذي يتوقع بيعها به، ثم ضم قيمة بعضها إلى بعض مهما اختلفت أنواعا وأجناسها، ثم زكا القيمة إن بلغت النصاب، ولا ينظر في التقويم إلى رأسمالها عليه، سواء كان أكبر من سعرها في نهاية الحول أو أقل، ولا ينظر إلى كونها سلعة رائجة أو كاسدة في ذلك اليوم، ما دام لها سعر وإن قل، فإن لم يعد لها سعر مطلقا، عدت هالكة ولا زكاة فيها .
هذا ما ذهب إليه جمهور الفقهاء، وتفرَّد المالكية بالتفصيل، فقالوا: التاجر إما أن يكون مديرا أو محتكرا، والمدير هو من يشتري السلعة ثم يعرضا للبيع فورا، ويبيعها إذا طلبها منه مشتر، وهذا تجب عليه الزكاة بحسب ما تقدم من مذهب الجمهور، والمحتكر من يشتري السلعة بقصد الترُّبص بها مدة، ثم يبيعها بعد أن يغلو ثمنها، ولا يعرضها للبيع فورا، وهذا لا تجب عليه الزكاة في سلعته المترِّبص بها حتى يبيعها فعلا، فإذا باعها زكاها عن سنة واحدة، مهما مكثت عنده من السنين .
والواجب في عروض التجارة ربع عشر قيمتها، بالغة ما بلغت، ففي عشرين مثقالا من الذهب نصف مثقال منه، وفي مئتي درهم من الفضة خمسة دراهم منها، وفي ألف دينار خمسة وعشرون منها، وهكذا ..
وهل على المزكي أن يخرج الزكاة من أعيان السلع التجارية التي قوَّمها، أم عليه أن يخرج الزكاة نقودا من قيمتها؟
الأصل في زكاة التجارة أنها تجب في قيمة العروض التجارية لا في أعيانها، على خلاف السوائم والزروع، وعليه فالأصل أن الواجب على المزكي أن يخرج الزكاة نقودا لا أعيانا، ولو أخرج بدلا من النقود أعيانا بحسب قيمتها يوم الدفع لمستحقها جاز عند كثير من الفقهاء، باعتبار القيمة، ولم يجزه أكثرهم .
وهل تقوَّم السلع التجارية بسعر البلد الذي فيه المال، أم بالسعر الذي فيه مالك المال، إذا اختلف السعر بينهما، وهم ممكن؟
ذهب الجمهور إلى أن العبرة لسعر البلد الذي فيه المال، وليس إلى سعر البلد الذي فيه صاحب المال .
والذي يقوَّم من سلع التجارة هو ما أُعد للبيع منها فقط، أما ما لا يعد للبيع، مثل المحلات التجارية التي يشغلها التاجر في تجارته، وكذلك الرفوف والأوعية التي يعرض بها البضاعة، وما إلى ذلك فلا يقوَّم، ولا تجب الزكاة فيه .
وهل يحسب التاجر عند التقويم الديون التي له والديون التي عليه؟
والجواب نعم ، يحسب التاجر الديون التي له على غيره، ويضمها إلى قيمة المال الذي لديه، ويحسب الديون التي عليه لغيره، وينزلها من قيمة سلعه، ثم يزكي الصافي بعد ذلك، ويستوي عند أكثر الفقهاء في ذلك الديون الحالَّة والديون المؤجلة، وفرق بعضهم فقال: ينزل التاجر من قيمة سلعه التجارية الديون التي عليه إذا كانت حالَّة فقط، أما الديون المؤجلة فلا ينزلها، وهذا القول هو الأحوط، وعليه كثير من لجان الفتوى.
فإذا باع تاجر سلعة ما بأجل، وربما كان الأجل طويلا، فهل ينزلها من سلعه ويخرجها من تقويمه لماله بمجرد بيعها؟ وهل يزكي ثمنها ولو لم يقبضه في هذه الحال؟ أم لا ينزلها من سلعه، ولا يزكي ثمنها حتى يقبضه؟
الأصل في الزكاة أنها لا تجب إلا على مالك المال الزكوي، والسلعة تخرج من ملكية البائع بمجر بيعها، فتنزل عنه زكاتها فورا بذلك، لخروجها عن ملكه، أما ثمنها فيدخل في ذمته فور العقد كذلك، فتلزمه زكاته مع سائر أمواله الأخرى في حولها ولو لم يقبضه، لأنه أصبح ملكه بالعقد، وهو دين له على المشتري .
والشرط الخامس) من شروط زكاة التجارة الحول، فلا تجب الزكاة فيها إلا بانقضاء الحول، والحول هو العام الهجري الكامل، وأوله في حق المزكي هو يوم امتلاكه للنصاب، وقد تقدم مقداره، فإذا ملك المسلم نصابا ثم مضى عليه عام هجري كامل، وجب عليه تقويم عروضه التجارية في ذلك اليوم، ثم إخراج زكاتها بحسب ما تقدم، ولا يقطع الحول نقصان المال عن النصاب أثناء الحول، مهما نقص، لأن العبرة لكمال النصاب في أول الحول وآخره فقط عند أكثر الفقهاء، إلا أنه إذا هلك النصاب كله في أثناء الحول، ولم يبق منه شيء، ثم جدَّ له نصاب جديد قبل آخر الحول، لم تلزمه الزكاة حتى يتم له حول كامل من تاريخ ما جدَّ له من النصاب، لانقطاع الحول الأول بهلاك النصاب بالكلية، وبدء حول جديد .
وهل يضم التاجر إلى قيمة سلعه التجارية في آخر الحول ما يملكه من ذهب أو فضة أو نقود؟
والجواب أن الذهب والفضة عروض تجارية حكما، بوضع الشارع وعرف الناس، فتجب الزكاة فيها من غير نيَّة التجارة، وزكاتها من حيث النصاب والمقادر الواجب وسائر الشروط هي مثل زكاة العروض التجارية تماما، ولهذا وجب ضم قيمتها إلى قيمة السلع التجارية في آخر الحول، وتتميم النصاب بها إن نقص بدونها، وإخراج زكاتها ضمن زكاة عروض التجارة، لأنها منها . ويستثنى من ذلك حُليُّ الذهب والفضة المباحة للمرأة عند بعض الفقهاء، وسوف يأتي تفصيله في حلقة خاصة إن شاء الله تعالى .
أما النقود المختلفة وسائر العملات العالمية والمحلية، مثل الدينار والدولار والجنيه والريال وغير ذلك، فهي مثل الذهب والفضة في الحكم، فتجب الزكاة فيها من غير نية التجارة، هذا ما دامت رائجة، أي متداولة بين الناس، فإذا كسدت، بأن أبطل التعامل بها، عدت بذلك هالكة، ولم تجب الزكاة فيها .
والله تعالى أعلم .
وإلى اللقاء في الحلقة القادمة بإذن الله تعالى، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته .
5/شعبان/1421هـ