النذر وما يجب به على الناذر
(تتمة)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والتابعين، ومن تبع هداهم بإحسان إلى يوم الدين .
أيها الإخوة المستمعون: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وبعد:
فقد بدأنا الحديث في الحلقة السابقة عن تعريف النذر وأركانه وشروطه، وعددنا من شروطه ثلاثة، هي: التكيف، والإسلام، وأهلية التبرع، واليوم نتمم الكلام على باقي الشروط، وهي:
الشرط الرابع) أن يكون المنذور ممكنا، فلو نذر المسلم أمرا غير ممكن، لم يصح نذره .
وعدم الإمكان إما أن يكون عقليا، كنذر صيام البارحة مثلا، وهو المستحيل أو المتعذر، وإما أن يكون عُرفيا، كشرب ماء البحر، وهو المتعسر، وإما أن يكون شرعيا، كالصيام في حالة الحيض والنفاس، والنذر غير صحيح في كل تلك الأحوال، وعليه فلو نذر المسلم أمرا متعذرا، أو متعسرا، أو غير ممكن شرعا، لم يصح نذره، عند أكثر الفقهاء .
وقال أبو يوسفَ من الحنفية: إذا نذر المسلم نذرا مستحيلا عقلا أو متعسرا عرفا بطل نذره، أما إذا نذر أمرا غير ممكن شرعا، كمن نذر صلاة بغير وضوء مثلا، فإن نذره يصح، ويلزمه الصلاة مع الوضوء .
والشرط الخامس) الاختيار والطواعية، فلا يصح النذر مع الإكراه والخطأ، لحديث النبي r :(إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ) رواه ابن ماجه، وقال الحنفية يصح نذر المكرَه، لحديث النبي r: (ثَلاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ النِّكَاحُ وَالطَّلاقُ وَالرَّجْعَةُ) رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه، حيث جاء في بعض روايات هذا الحديث الشريف في مصنَّف عبدِ الرزاق بصيغة: (النكاح والطلاق والنذر) .
والشرط السادس) أن يكون المنذور قُربة لله تعالى، فلا يصح النذر بالمباحات عند جمهور الفقهاء، وذهب الحنبلية إلى صحة النذر بالمباح، وخيَّروا الناذر في هذه الحال بين الوفاء بالنذر وبين الكفارة، وعند الشافعية قولان في نذر المباح: قولٌ كقول الحنبلية بصحة النذر مع تخيير الناذر بين الوفاء بالنذر والكفارة، وقول مع الجمهور ببطلان النذر .
أما النذر بمعصية، كمن نذر ترك الصلاة، أو ارتكاب الزنا، أو السرقة، مثلا، فقد قال الشافعية وزفر من الحنفية: لا يصح النذر بالمعصية، وقال الحنبلية: يصح ويُلزم الناذر بالكفارة، وقال الحنفية: إذا كانت المعصية المنذورة محرمة لذاتها، كالزنا والسرقة مثلا، فالنذر باطل، وإن كانت المعصية محرمة لغيرها، كصوم يوم العيد مثلا، صح النذر، ووجب على الناذر أن يُفطر في يوم العيد، ثم يصومَ يوما آخر بدله .
والشرط السابع) أن تكون العبادة المنذورة عبادة من جنسها فرض من الفروض، كأن ينذر المسلم صلاة، فإنها صحيحة لأن من جنسها الصلوات الخمس، أو صوما، فصحيح لأن من جنسه صوم رمضان، أوصدقة، لأن من جنسها الزكاة، فلو كانت العبادة المنذورة لا يوجد من جنسها فرض في العبادات، مثل أن ينذر ذبح شاة مثلا، فإن ذكَرَ أن يتصدق بلحمها، صح النذر، لأن الصدقة من جنس الزكاة، وإن لم يذكر ذلك في نذره، لم يصح النذر، لأن الذبح لا يوجد من جنسه فرض، وهذا مذهب الحنفية، وذهب المالكية إلى عدم اشتراط ذلك، واكتفوا بأن يكون المنذور طاعة لله تعالى .
وذهب الشافعية والحنبلية: إلى أن القُرَب لله تعالى منها ما هو قربة مستقلة بنفسها، ومنها ما هو قربة لغيرها، فالأول مثل الصلاة والزكاة والصدقة، والنذر بهذه صحيح، والثاني مثل تشميت العاطس، وتشييع الجنازة، ورد السلام، وهذه فيها قولان: الأقوى منهما صحة النذر بها .
والشرط الثامن) أن لا تكون الطاعة المنذورة مفروضة أصلا بفرض الله تعالى، مثل صلاة الظهر، أو صلاة العصر، أو صيام رمضان، أو دفع زكاة المال، وغيرَ ذلك من الفروض الدينية، فإن كان المنذور كذلك لم يصح النذر، لأن النذر لرفع العبادة من المندوب إلى الفرض، وهذه مفروضة في الأصل بأمر الشارع، فلم يؤثر النذر فيها، فلا تكون محلا له، فلم يصح نذرها .
وقال ابن قدامة من الحنبلية: (ويُحتمل أن ينعقد النذر موجبا كفارة يمين إن تركه) .
والشرط التاسع) أن يكون المنذور مملوكا للناذر ومقدورا له عند النذر، لما روي عن النبيr : (لا نذر في معصية الله ولا فيما لا يملكه ابن آدم)، فإذا نذر المسلم أكثر مما يملك، كمن يملك خمسين دينارا فنذر لله تعالى مئة دينار مثلا، لم يلزمه بنذره أكثر من مئة دينار .
وأما ما يجب بالنذر الصحيح المستوفي لشروطه الشرعية السابقة، أو حكم النذر الصحيح من حيث الأثر الشرعي المترتب عليه، فهو أحد أمرين:
الأول: الوفاء بما نذر، والثاني الكفارة، كل في موضعه، وقد اختلف الفقهاء في موضع كل من هذين الحكمين في النذر على أقوال، إلا أنهم اتفقوا في الجملة على أن الأصل في حكم النذر هو الوفاء بما نذر عينا، مادام الوفاء به ممكنا، فإذا تعذر أو تعسر الوفاء بالنذر عينا، وجبت الكفارة، وهي هنا ككفارة اليمين، لأن في النذر معنى اليمين، ولقول النبي r: (كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ الْيَمِين) رواه مسلم .
وبناء على ذلك فإن على الناذر أن يفي بما نذر، ولا تكفيه الكفارة في الأحوال التالية :
أولا) أن يكون المنذور طاعةً محددة غير مشروطة، كأن ينذر صلاة لله تعالى، أو صوما، أو صدقة، أو أمثال ذلك، وفي هذه الأحوال كلِّها يجب على الناذر أن يفي بنذره كما نذر، ولا تكفيه الكفارة .
ثم إذا حدد مقدار المنذور، كأن قال أربع ركعات في الصلاة، أو خمسة أيام في الصوم، أو مائة دينار في الصدقة، أو غيرَ ذلك، وجب عليه الوفاء بمقدار ما حدد، ولا يكفيه أقل منه، وإن أطلق ولم يحدد المقدار، كأن نذر صلاة ولم يحدد عدد ركعاتها، أو نذر صوما ولم يحدد أيامه، وجب عليه أن يفي بمقدار نيته في ذلك، فإن لم يكن له نية، وجب عليه أن يفي بأقلِّ ما تصح به الطاعة التي نذرها، فإن كان نذر صوما صام يوما واحدا، ولم يكفه أقلَّ منه، وإن نذر صلاة صلى ركعتين، وقال بعض الفقهاء يصلي ركعةً واحدة، وإن كان نذر صدقة، فبمقدار صدقة الفطر، وهكذا .
ثانيا) أن يكون النذر نذرا مطلقا غير محدد، كأن يقول: لله عليَّ نذر، ويسكت، فإنه يُلزم بما نوى من حيث جنس العبادة، ومن حيث مقدارها، فإن لم يكن له نية التزم بكفارة اليمين، وذلك لتعذر الوفاء بغيرها.
ثالثا) أن يكون المنذور طاعة معلقة على شرط، كأن يقول: إن شفى الله تعالى مريضي فلانا فلله عليَّ صلاة ركعتين، وفي هذا النذر فرَّق الفقهاء بين أن يكون الناذر راغبا في حصول ما علق عليه نذره، كأن يقول إن شفى الله تعالى مريضي فلانا فقد نذرت لله تعالى صيام يومين أو صلاة ركعتين مثلا، وهو يرجو شفاءه، ويسميه الفقهاء نذر التبرر، وهذا اتفق الفقهاء على أنه إذا لم يحصل المشروط فلا يجب على الناذر الوفاء بشيء، وإن حصل المشروط في النذر وجب على الناذر الوفاء بما نذر، ولا تكفيه الكفارة .
وإن كان المعلق عليه الشرط في النذر غيرَ مرغوب حصوله للناذر، كأن يقول إن نصر الله عليَّ عدوي فقد نذرت لله تعالى كذا وكذا، وهو لا يرغب بنصر عدوه عليه، وهو نذرُ اللجاج، أو نذرُ الغضب، فالناذر مخيَّر بين الوفاء بما نذر أو الكفارة، إذا حصل المعلق عليه، فإذا لم يحصل المعلق عليه لم يلزمه شيء، وهذا مذهب جمهور الفقهاء، وقال بعض الحنفية وبعض المالكية: يجب عليه الوفاء بما نذر فقط دون الكفارة، في التبرر واللجاج معا .
رابعا) أن يكون المنذور أمرا مباحا وليس طاعة مطلوبة من الشارع، وهو صحيح عند الحنبلية، والناذر مخيَّر عندهم بين الوفاء بما نذر أو الكفارة، ولا يصح عند غير الحنبلية .
خامسا) أن يكون المنذور معصية لله تعالى، كأن ينذر ترك الصلاة، وهذا باطل عند المالكية والشافعية، وصحيح عند الحنفية والحنبلية ويجب على الناذر فيه الكفارة، ولا يجوز له الوفاء بما نذر لحرمته .
سادسا) أن يعجز الناذر عن الوفاء بما نذر، ولا يكون لنذره بديل، كأن ينذر نذرا مطلقا ولا يذكرَ شيئا، كأن يقول: لله عليَّ نذر ويسكت، ففي هذه الحال تلزمه كفارة اليمين، لتعذر الوفاء بما نذر، أما إذا كانت الطاعة المنذورة لها بديل، كمن نذر صياما، ثم عجز عنه لمرض مستديم مثلا، ففي هذه الحال تلزمه فدية الصوم، وليس كفارة اليمين، لأن للصوم بديلا، هو الفدية .
وبهذا القدر نكتفي اليوم أيها الإخوة المستمعون، وفي الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى نتكلم عن نقطة هامة ومختلف فيها بين الفقهاء، وهي حكم تقييد النذر بالزمان والمكان والشروط، وأثرُ ذلك على الوفاء بالنذر .
والله تعالى أعلم .