من مصارف الزكاة
ابن السبيل
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والتابعين، ومن تبع هداهم بإحسان إلى يوم الدين .
أيها الإخوة المستمعون: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وبعد:
فإن من مصارف الزكاة باتفاق الفقهاء ابن السبيل، وهو على أنواع، اتفق الفقهاء في بعضها واختلفوا في بعضها ألآخر، على أقوال:
والسبيل في اللغة الطريق، وابن السبيل في اللغة ابن الطريق، والمراد به في باب الزكاة بصورة عامة المسافر أو البعيد عن وطنه، إذا انقطع عن ماله وكان غنيا في بلده .
وسمي بذلك، لأنه يستعمل الطريق في سفره وأكثر أوقاته .
والنوع الأول) منه هو المتغرِّب عن وطنه و ليس بيده مال يكفيه ليرجع به إلى بلده، كأن سُرق ماله، أو ضاع منه، أو نفد لظروف خاصة، أو غير ذلك .
وهذا النوع اتفق الفقهاء على إعطائه من الزكاة من سهم ابن السبيل ما يكفي لعودته إلى بلده، دون زيادة على ذلك، واشترطوا لذلك شروطا، هي:
1- أن يكون مسلما، وذلك لما تقدم من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ) رواه البخاري .
2- أن لا يكون من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ، لأن الله تعالى كفى أهل بيت النبوة بشيء من الفيء، وحرَّم عليهم قبول الزكاة، تشريفا لهم عن أن تمتد أيديهم لطلب الصدقة من الناس، لقوله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الصَّدَقَةَ لا تَنْبَغِي لآلِ مُحَمَّدٍ إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاس) رواه مسلم .
وهذا مذهب جمهور الفقهاء، وأجاز بعض الحنبلية إعطاء أبناء السبيل من أهل بيت النبوة شيئا من الزكاة لسداد ديونهم .
3- أن لا يكون في يده من المال وقت دفع الزكاة له ما يكفي لعودته إلى بلده، وإن كان غنيا في بلده، ما دام ماله بعيدا عنه ولا يستطيع الوصول إليه .
ولكن إذا احتاج هذا المسافر إلى متابعة سفره لأمور ضرورية مثل العلاج مثلا، أو غير ضرورية من المباحات كالتجارة وطلب العلم، فهل يعطى من الزكاة ما يكفيه لمتابعة سفره إلى نهايته، ثم عودته بعده إلى بلده، أم يعطى فقط بمقدار ما يكفيه للعودة إلى بلده؟
لم أر من الفقهاء من نص على ذلك بصراحة ووضوح، سوى الحنبلية، حيث قالوا: إذا كان قاصدا بلدا آخر يعطى ما يوصله إلى ذلك البلد ثم يَرُّده إلى بلده، إلا أن عامة نصوص الفقهاء تقصر الدفع لابن السبيل من الزكاة على ما يكفي لعودته إلى بلده فقط، وإنني أرى أن يُدفع له ما يكفيه لمتابعة سفره ثم عودته إلى بلده إذا كان سفره ضروريا أو لحاجة ماسة كالعلاج مثلا، وكذلك إذا كان مقصده قريبا، فيدفع له من المال ما يكفي لوصوله إلى مقصده ثم عودته إلى بلده، ولا يدفع له ما يكفي لمتابعة سفرة ثم عودته إلى بلده إذا كان سفره طويلا إلا إذا كانت متابعته لسفره لضرورة، إلا أن هذا اجتهاد مني لا أفتي به إلا إذا وافقه فتوى لجان فقهية معتبرة، أو مجامع فقهية مأمونة، وأرجو أن يُطرح هذا الموضوع على مثل هذه اللجان والمجمَّعات للبت فيه، لأنه مهم، وبخاصة في العصر الحاضر الذي كثرت فيه الأسفار والسرقات في أثناء السفر، مما يضطر المسافر لطلب شيء من مال الزكاة لمتابعة سفره وعودته إلى بلده، على غناه عن ذلك في بلده .
4- أن لا يكون سفره في معصية من المعاصي، كالمسافر من أجل سرقة مال أو الاعتداء على بريء، أو غير ذلك، فإن كان كذلك فلا يعطى من الزكاة عند جمهور الفقهاء، لأنه لا يجوز أن تكون المعصية وسيلة إلى منحة، فإذا سافر لواجب كحج الفرض، أو سنة أو مندوب كحج النفل أو عمرة النفل أو زيارة العلماء والصالحين، أو لمباح، كالسفر في تجارة ونحوها، ثم انقطع عن ماله بسبب سرقة أو ما إليها، فإنه يعطى من الزكاة من سهم ابن السبيل باتفاق الفقهاء .
أما الحنفية فلم يشترطوا ذلك لإعطائه من الزكاة .
5- أن يكون سفره لأمر مهم، فإن كان لنزهة مثلا، فقد نص الحنبلية على أنه لا يعطى من الزكاة إذا انقطع عن ماله في القول الأقوى عندهم، وفي قول آخر يجوز أن يدفع له منها ولو كان لنزهة، ما دام قد انقطع عن ماله.
6- أن لا يجد ابن السبيل من يقرضه في ذلك البلد الذي هو فيه ما يكفيه، إذا كان غنيا في بلده، سواء كان ذلك من قريب له أو أجنبي عنه، فلو وجد من يقرضه ما يكفيه للعودة إلى بلده، فلا يجوز له أخذ شيء من الزكاة، وهو ما نص عليه المالكية .
وذكر الحنفية أن الأولى بمن انقطع عن ماله أن يطلب القرض بدلا من الزكاة إن أمكنه ذلك، فإن لم يمكنه طلب الزكاة .
وهل يدخل في ذلك من يستطيع استقدام شيء من ماله بالبريد مثلا أو عن أي طريق آخر؟
لم أر من الفقهاء من نص على ذلك بصريح القول، إلا أنني أرى أن يشترط لإعطائه شيئا من مال الزكاة أن يعجز عن الاستفادة من ماله الذي في بلده بأي طريق كان، أما من يستطيع الوصول إلى ماله أو أي شيء منه يكفيه للعودة إلى بلده بأي طريق كان، فيجب أن لا يعطى شيئا من مال الزكاة، لأنها للفقراء والمساكين أصلا وهو ليس منهم، إلا أنه أعطي في حال انقطاع ماله عنه للضروة، وهذا لا تقوم به الضرورة .
أما الضرب الثاني من أبناء السبيل) فهو من كان في بلده ويريد أن يُنشأ سفرا ولم يسافر بعد، وهذا النوع ذهب أكثر الفقهاء إلى أنه لا يعطى من الزكاة ما ينشئ به سفرا، وذهب الشافعية إلى جواز إعطائه من الزكاة من بند ابن السبيل بشرط أن لا يكون معه ما يحتاج إليه في سفره من المال، وأن لا يكون سفره في معصية، فإذا كان كذلك جاز إعطاؤه من الزكاة ما يكفيه لسفره، كمن يريد الحج ولا يجد ما يكفيه لذلك من البلد الذي هو فيه، فإنه يعطى من سهم ابن السبيل في هذه الحال عندهم .
ثم إذا أُعطي ابن السبيل شيئا من مال الزكاة ليعود به إلى بلده، فعاد ووجد عنده وفرا من هذا المال، وكان غنيا في بلده، فهل يحل له استبقاؤه في ملكه، أم يجب عليه إعادته إلى من دفعه له، أو التصدق به على الفقراء والمحتاجين؟
بعض الفقهاء أوجب عليه التخلص منه برده أو التصدق به، وبعضهم أجاز له استبقاءه ولو كان غنيا، لأنه ملكه بالأخذ في حال يجوز له فيها أخذه، فلا يجب عليه التصدق به، وربما كان الأول أحوط والثاني أقيس.
والله تعالى أعلم .
وإلى اللقاء في الحلقة القادمة بإذن الله تعالى، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته .
13/شعبان/1421هـ