الحلقة (1)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والتابعين، ومن تبع هداهم بإحسان إلى يوم الدين .
أيها الإخوة المستمعون .
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وبعد:
فبمناسبة حلول شهر رمضان المبارك، الذي كان يسميه كثير من الصحابة الكرام رضي الله عنهم شهر الزكاة، لأن الكثيرين منهم كانوا يصرفون زكاة أموالهم إلى مستحقيها في هذا الشهر الكريم، استزادة للأجر من الله تعالى، لما لهذا الشهر الكريم من مزيد فضل على الشهور كلها، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أكرم الناس في الشهور كلها، وكان أكرم ما يكون في شهر رمضان المبارك، وكان كالريح المرسلة لشدة الإنفاق وكثرته، كما روى ذلك عنه ابن عباس رضي الله عنه فقال:(كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ) متفق عليه .
ولأن أحكام الزكاة مما تخفى على كثير من الناس، ويُكثِرون السؤال عنها، وبخاصة في هذا الشهر الكريم .
فقد رأيت أن أجعل أحاديثي في هذا الشهر الكريم في تفصيل أحكام الزكاة، وبيان شروط وجوبها، وشروط أدائها، والأموالِ التي تجب الزكاة فيها، ومقدارِ أنصبتها، ومصارفِها، وطرقِ حسابها، وما يتبع ذلك من أحكامٍ، مع بيان اتفاق الفقهاء واختلافهم في ذلك قدر الإمكان، وذلك تيسيرا على المسلمين في حسن أدائهم لزكاة أموالهم، تبرئة لذمتهم، وتوفيرا للأجر والمثوبة لهم من الله تعالى .
وسوف أفرد كل حلقة لحكم من تلك الأحكام، بقدر ما يتيحه لي الوقت.
وفي حلقة اليوم سوف أبين معنى الزكاة وفضائلها :
فالزكاة في اللغة تطلق على معان أربعة، هي: النماء، والرَّيع، والزيادة، والصلاح، قال تعالى: (فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا)81/ الكهف، أي أصلح وأكثر تدينا منه . وقال سبحانه: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا) 49/ النساء . أي يَدَّعون الصلاح والتقوى .
وفي اصطلاح الفقهاء: الزكاة حقٌّ معين من المال يجب بأمر الله تعالى في أموال مخصوصة، على وجه مخصوص، بشروط مخصوصة .
كما تطلق الزكاة شرعا على مقدار المال الواجب إخراجه لمستحقيه فريضة من الله تعالى، فيقال: (أخرج فلان زكاة ماله، أي دفع المقدار الواجب عليه في ماله) .
والزكاة فريضة من فروض الإسلام، وركن من أركانه، باتفاق المسلمين، ورد بذلك القرآن الكريم، والسنة المطهرة، قال تعالى: (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) 78/ الحج . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ) رواه البخاري . وقال صلى الله عليه وسلم لمُعَاذ بن جبل رضي الله عنه عندما بعثه إِلَى الْيَمَنِ قاضيا: (ادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ، تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ) رواه البخاري .
وقد أجمع المسلمون على أن من امتنع عن أداء الزكاة بعد وجوبها عليه من المسلمين غير جاحد لفرضيتها كان عاصيا لله تعالى، ومرتكبا لكبيرة من الكبائر، فإذا منعها مُنكِرا فرضيَّتها كان مرتدا وخارجا عن الإسلام، والعياذ بالله تعالى، لإنكاره أمرا معلوما من الدين بالضرورة .
وقد حارب سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه -بعد انتقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى- مانعي الزكاة من الأعراب، وعدَّهم من المرتدين، ووافقه على ذلك عامة المسلمين، فكان إجماعا، فقد روى البخاري عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنْ الْعَرَبِ، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلا بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ لأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا، قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلا أَنْ قَدْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ) متفق عليه .
والزكاة في جملتها نظام اقتصادي واجتماعي وتربوي وتعبدي:
فأما أنها نظام اقتصادي، فلأنها تُغني الفقراء بأموال الأغنياء، وتؤمِّن لهم دخلا كافيا للإنفاق منه على حاجاتهم اليومية، من طعام وشراب وكساء ومسكن ودواء وما إلى ذلك، وهم في هذا الإنفاق يُروِّجون السلع ويُحرِّكون رؤوس الأموال، مما يعود على الجانب الاقتصادي بنشاط وحركة تزيد في فعَّاليَّاته، وتشاركُ في تدوير الثروة وزيادتها، فتعودَ بذلك على الأغنياء ثانية بمردود طيب، مما يجعلهم يستأنفون العطاء للمحتاجين الذين يزيدون بإنفاقهم له تدوير المال وتنشيط الاقتصاد، وهكذا دواليك .
وأما أنها نظام اجتماعي، فلأنها تُغني الفقراء، وتُؤمِّن لهم حاجاتهم، فتقاربَ بذلك بين الأغنياء والفقراء، وتُزيلَ الفجوة الواسعة التي كانت بينهم، فتندثر بذلك بذور الحقد والضغينة، وتنشأ بينهم المحبةُ والمودَّةُ والأُلفةُ، وتتوطدُ أواصر المجتمع، وتتمتَّنُ العلاقات القائمة بين الناس، مما يجعل المجتمع أكثر تماسكا وتكاتفا وتعاونا .
وأما أنها نظام تربوي، فلأنها تُهَذِّب النفوس، وتنتزع منها عنصر الشح والخوف من الفقر، وتزرع فيها عنصر الكرم والسماحة والتضحية، وذلك عندما يمد الغني يده إلى خالص ماله الذي تعب في جنيه، ونصِب في جمعه، ويَقتطعُ منه جزءا عزيزا عليه، ويدفعُه للفقير طائعا راضيا فرحا محتسبا متقربا إلى الله تعالى، فتكونُ النفس به راضيةً، وللأجر والثواب من الله تعالى راغبةً، وبخاصة عندما يدفعه إليه سرا، وهو أفضل ما يكون في الصدقات، لما فيه من مزيد الاحتساب والبعد عن السمعة والرياء، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ: الإِمَامُ الْعَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ أَخْفَى حَتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ) رواه البخاري .
وأما أنها نظام تعبدي، فلما فيها من الأجر والمثوبة عند الله تعالى، قال سبحانه: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) 261/ البقرة .
هذا وللزكاة أحكام وتفريعات كثيرة، كشروط وجوبِها، وشروط أدائِها، ومصارفِها، وطريقةِ حسابِها، وغيرِ ذلك، وقد اتفق الفقهاء في بعض هذه الأحكام، واختلفوا في بعضها الآخر، لأن الزكاة كغيرها من العبادات الإسلامية، لا تصح ولا تبرأ ذمة المسلم المكلف منها إلا إذا أُديت على وجهها الصحيح، مستوفية جميع أحكامها .
وسوف يكون ذلك كله في الحلقات القادمة بإذن الله تعالى .
ونسأل الله تعالى أن يغنينا من فضله، وأن يوفقنا لأداء الزكاة في أموالنا، وأن يأجُرنا على ذلك، إنه نعم المولى ونعم النصير .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته .
الأحد 17 رجب 1421هـ و 15/10/2000