الحلقة (4)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والتابعين، ومن تبع هداهم بإحسان إلى يوم الدين .
أيها الإخوة المستمعون: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وبعد:
فإن الله تعالى أمر الأغنياء من المسلمين بإخراج زكاة أموالهم في كثير من آيات الكتاب الكريم زادت على الثلاثين آية، وذلك في ضمن ما أمرهم به من العبادات والطاعات، من ذلك قوله سبحانه: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوَْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) 78/ الحج . كما أمرهم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في كثير من الأحاديث الشريفة الصحيحة، وجعلها ركنا من أركان الإسلام وأساسا من أسسه، مَن تركها جاحدا فرضيتها كَفر بذلك، وخرج عن الملة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما بعث معاذا إلى اليمن قاضيا: (ادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدِ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ) رواه البخاري .
والزكاة كما تقدمت الإشارة إليه في حلقة سابقة تجب في الأموال النامية دون الأموال غير النامية، سواء كان النماء فيها حقيقيا كالحيوانات والزروع، أو حكميا كالذهب والفضة وعروض التجارة، ولذك فإن الزكاة تجب حصرا في أربعة أنواع من المال، وهي:
أولا) الحيوانات، وهي الإبل بجميع أنواعها، العِراب والبخاتي وغيرها، والبقر بأنواعها، ومنها الجواميس، والغنم بأنواعها المختلفة أيضا، ومنها الماعز، وهذا محل اتفاق الفقهاء .
وقد اختلف الفقهاء في وجوب الزكاة في الخيل على قولين: فذهب الجمهور منهم إلى عدم وجوب الزكاة فيها، وذهب أبو حنيفة وزفر إلى وجوب الزكاة في الخيل، واستدلوا على ذلك بما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:(الْخَيْلُ لِثَلاثَةٍ: لِرَجُلٍ أَجْرٌ وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ، فَأَمَّا الَّذِي لَهُ أَجْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَطَالَ لَهَا فِي مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ وَمَا أَصَابَتْ فِي طِيَلِهَا مِنَ الْمَرْجِ أَوِ الرَّوْضَةِ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٍ، وَلَوْ أَنَّهَا قَطَعَتْ طِيَلَهَا فَاسْتَنَّتْ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ كَانَتْ أَرْوَاثُهَا حَسَنَاتٍ لَهُ، وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ بِنَهَرٍ فَشَرِبَتْ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْقِيَهَا كَانَ ذَلِكَ لَهُ حَسَنَاتٍ، وَرَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَنِّيًا وَسِتْرًا وَتَعَفُّفًا وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا وَظُهُورِهَا فَهِيَ لَهُ كَذَلِكَ سِتْرٌ، وَرَجُلٌ رَبَطَهَا فَخْرًا وَرِيَاءً وَنِوَاءً لأَهْلِ الإِسْلامِ فَهِيَ وِزْرٌ) رواه البخاري .
واستدل الجمهور على عدم وجوب الزكاة في الخيل بحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَال:َ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :(لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي فَرَسِهِ وَلا فِي عَبْدِهِ صَدَقَةٌ) رواه الترمذي وقال: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْخَيْلِ السَّائِمَةِ صَدَقَةٌ .
ولا تجب الزكاة في غير ذلك من الحيوانات الأخرى .
وهذا كله ما دامت هذه الحيوانات مملوكة لمالكها بقصد الدر والنسل، أما الحيوانات المملوكة بقصد التجارة، أي البيع والشراء دون الدر والنسل، فالزكاة تجب فيها بكل أنواعها، سواء ما ذكرناه منها أو غيرها، ولكن الزكاة الواجبة فيها في هذه الحال زكاة التجارة وليس زكاة الحيوانات السائمة، وهما مختلفان كثيرا، من حيث النصاب، ومن حيث مقدار الواجب فيها، وسوف يأتي تفصيل ذلك .
ثم إن الزكاة لا تجب في هذه الحيوانات المذكورة إلا إذا كانت سائمة، أي ترعى في البراري بغير كلفة كبيرة، أما الحيوانات التي يعلفها صاحبها، فلا زكاة فيها مطلقا عند أكثر الفقهاء، واستدلوا لذلك بأحاديث شريفة كثيرة، منها قوله صلى الله عليه وسلم: (في كُلِّ سَائِمَةِ إِبِلٍ فِي أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ ...) رواه أبو داود .
فإذا كانت الحيوانات تسوم في بعض الحول وتعلف في بعضه الآخر، كانت العبرة للجهة الغالبة، فإن كانت تسوم في أكثر الحول وتعلف في أقله وجبت الزكاة فيها، وإن كانت تعلف في أكثره وتسوم في بعضه لم تجب الزكاة فيها، اعتبارا بالجانب الغالب، وإذا استوى الحالان وجبت الزكاة فيها احتياطا .
وذهب المالكية إلى وجوب الزكاة في الأنعام المعلوفة كوجوبها في الحيوانات السائمة مطلقا .
وقد ذهب جمهور الفقهاء إلى استثناء الحيوانات العاملة منها، فقالوا: لا تجب الزكاة في الحيوانات العاملة، والعاملة هي الحيوانات المعدة للركوب والحَمل والجَرِّ، وهذا يتأتى في الإبل والبقر والجاموس، والخيل عند من يقول بوجوب الزكاة فيها، ولا يتأتى في الغنم والماعز، واستدلوا على ذلك بحديث: (وَلَيْسَ عَلَى الْعَوَامِلِ شَيْءٌ) رواه أبو داود، ولأن العوامل من الحيوانات مشغولة بحاجة مالكها، والزكاة لا تجب إلا فيما زاد عن الحاجة، لقوله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ) /217/ من سورة البقرة .
وذهب المالكية إلى أن العمل لا يمنع الزكاة في الماشية، واستدلوا على ذلك بإطلاق أحاديث وجوب الزكاة فيها ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فِي كُلِّ خَمْسِ ذَوْدٍ شَاةٌ..) رواه النسائي .
ثانيا) وتجب الزكاة أيضا في الزروع، والزروع بعامة كل ما يستنبت في الأرض .
وقد اتفق الفقهاء على وجوب الزكاة في أربعة أنواع من الزروع، وهي: التمر(وهو ثمر النخيل)، والعنب(وهو ثمر الكرم) والقمح والشعير، لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (الزكاة في الحنطة والشعير والتمر والزبيب) رواه الدارقطني .
واختلف الفقهاء في وجوب الزكاة في المزروعات الأخرى:
فذهب أبو حنيفة إلى وجوب الزكاة في كل ما يزرع في الأرض بقصد استنمائها، سواء كان من الثمار أو الحبوب أوالخضراوات، وغير ذلك، ولا تجب فيما لا يقصد عادة بالزرع، كالحطب والحشيش والقصب والتبن، وغير ذلك .
واحتج لذلك بإطلاق الحديث الشريف، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا الْعُشْرُ، وَمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ) رواه البخاري .
وذهب أبو يوسف ومحمد إلى وجوب الزكاة في كل ماله ثمرة باقية حولا أو أكثر، ولا تجب فيما لا بقاء له .
وفرق المالكية بين الثمار والحبوب، فأوجبوا الزكاة من الثمار في التمر والعنب منها خاصة، دون باقي الثمار، أما الحبوب فأوجبوا الزكاة في الحنطة والشعير والسلت والذرة والدخن والأرز والعدس منها، وأما القطاني فأوجبوا الزكاة في سبعة منها، وهي: الحُمُّص والفول والعَدَس واللوبيا والترمس والجلبان والبسلة، ومن ذوات الزيوت أربعا، هي: الزيتون والسمسم والقرطم وحب الفجل، ولا تجب الزكاة في غير ذلك عندهم .
وذهب الشافعية إلى وجوب الزكاة في الأقوات من المزروعات، وهي ما يعيش البدن به غالبا، دون ما يؤكل تنعما أو تداويا.
وذهب الإمام أحمد إلى أن الزكاة تجب في كل ما استنبته الناس من الحبوب والثمار ويَجْمَع وَصْفَين اثنين: الأول الكيل، والثاني اليُبْس مع البقاء .
ثالثا) العروض التجارية، وهي كل ما يُمْلَك بقصد البيع والتجارة، سواء كان من المزروعات، أو الحيوانات، أو العقارات، أو غيرها، وسواء كان مأكولا أو ملبوسا أو غير ذلك، ما دام مملوكا بقصد التجارة، أما ما يمتلك بقصد أكله أو لبسه أو استعماله بأي طريق من طرق الاستعمال، فلا زكاة فيه .
فإذا اشترى المسلم سلعة ما بقصد استعمالها، ثم قصد بيعها بعد ذلك لعارض عرض له، فلا تجب الزكاة فيها حتى يبيعها فعلا، فإذا باعها ضمَّ ثمنها إلى أمواله الأخرى وزكاها معها، ولو اشترى المسلم سلعة بقصد بيعها، ثم قصد استعمالها لأمر عرض له، فإن زكاتها تسقط عنه من تاريخ تغيُّر نيته، لأن التجارة نيَّة مع فعل البيع، فلا تثبت إلا بهما، أما ترك التجارة فنية وامتناع عن فعل البيع، وهو متأتٍّ بالنية وحدها .
رابعا) والنوع الرابع من الأموال التي تجب الزكاة فيها هي الذهب والفضة، سواء كانا نقودا مصكوكة، أو حليا، أو سبائكَ، أو تبراً، أو غير ذلك، ويلحق بهما كل العملات الأخرى الرائجة المتداولة بين الناس، كالدينار والجنيه والريال والدولار وغير ذلك .. لأنها حلت محل الذهب والفضة في الثمنية عرفا فتعطى حكمهما، فإذا ألغي التعامل بعملة من العملات لظروف خاصة، سقطت الزكاة عنها من تاريخ إلغائها، بخلاف الذهب والفضة، حيث لا تسقط الزكاة عنهما بحال من الأحوال، وذلك لأن الذهب والفضة خلقا للتجارة أصلا بحكم الشرع، أما العملات الأخرى فقد جعلت كالذهب والفضة بالتعامل بها كذلك في العرف، فإذا ألغي التعامل بها بين الناس لغت ثمنيتها .
والزكاة تجب في هذه الأثمان مطلقا، سواء اقتنيت بقصد الشراء بها، أو بقصد ادخارها، أو غير ذلك، ولا تشترط لها نية التجارة، لأنها جعلت أثمانا في الأصل، فتكون للتجارة حكما، ويستثني كثير من الفقهاء من ذلك الحلي للمرأة، وسوف يأتي تفصيله في حلقة أخرى خاصة بها -إن شاء الله تعالى- .
هذه هي الأموال التي تجب الزكاة فيها إذا استوفت شروط وجوبها، ولا تجب في غيرها .
والله تعالى أعلم .