كفارة اليمين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والتابعين، ومن تبع هداهم بإحسان إلى يوم الدين .
أيها الإخوة المستمعون: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وبعد:
فإن كلامنا في هذه الحلقة هو عن كفارة اليمين، واليمين هي القَسَم أو الحلف بالله تعالى، ولا بد لمعرفتها من تعريف اليمين أولا، ثم بيان أنواعها، والنوع الذي تجب فيه الكفارة منها، ثم بيان مقدار الكفارة عن اليمين، ووقت وجوبها، ووقت أدائها، ومقدارها، وأنواعها، وحكم العجز عنها .
فاليمين هي الحلف أو القسم بالله تعالى على أمر في الماضي كأن يقول الحالف مثلا: والله لم أذهب إلي بيت فلان، أو في المستقبل مثل قوله: والله سوف أذهب إلى بيت فلان، فأما اليمين الأولى، فإن كان صادقا فيها فلا شيء عليه في ذلك، وإن كان كاذبا فيها فهي اليمين الغموس، وسميت كذلك لأنها تغمس صاحبها في النار من شدة الإثم، والثانية إما أن تكون مقصودة فهي اليمين المنعقدة، وإما أن تنزلق على لسانه من غير قصد، فهي اليمن اللغو .
واليمين بصورة عامة مشروعة ومباحة عند الحاجة إليها، ودليل مشروعيتها القرآن والسنة:
فأما القرآن، ففي قوله تعالى: (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) 53/ يونس .
وأما الحديث ففي قوله r: (إِنِّي وَاللَّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلا أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَتَحَلَّلْتُهَا) متفق عليه .
إلا أن حكمها قد يتغير بتغير الأحوال التي قد تحيط بها، فتكون محرمة، أو مكروهة، وقد تكون واجبة، أو مندوبة، فتكون محرمة إذا كانت غموسا كاذبة مهما كانت مبرراتها، أو كانت على أمر محرم، كأن يقسم على ترك الصلاة مثلا، وتكون مكروهة إذا أقسم الإنسان فيها على فعل أمر مكروه، كمقاطعة صديق أو الامتناع عن زيارة رحم مثلا، وتكون واجبة إذا توقف عليها ثبوتُ حق لإنسان أو رفعُ ضُرٍّ عنه، وتكون مندوبة إذا توقف عليها فعل خير أو أمر مندوب، كمساعدة محتاج مثلا .
وقد اتفق الفقهاء على عدم مشروعية الحلف بغير الله تعالى مطلقا، لأن الحلف فيه تعظيم المحلوف به، قال r: (مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ) متفق عليه .
وقد ذهب أكثر الفقهاء إلى أن اليمين الغموس لا كفارة فيها، لشدة الإثم الذي فيها، فمن تورَّط فيها فيجب عليه التوبة وعمل الصالحات، فإن حسنت توبته وندمه وعزم على الامتناع عن تكرارها برئ منها إن شاء الله تعالى، من غير كفارة، واستدلوا على ذلك بقوله r:(وَخَمْسٌ لَيْسَ لَهُنَّ كَفَّارَةٌ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ، أَوْ نَهْبُ مُؤْمِنٍ، أَوِ الْفِرَارُ يَوْمَ الزَّحْفِ، أَوْ يَمِينٌ صَابِرَةٌ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالا بِغَيْرِ حَقٍّ) رواه الدارمي، وذهب الشافعية إلى وجوب الكفارة فيها مع التوبة، لدخولها تحت عموم كفارة اليمين، في قوله تعالى:( ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) 89/ المائدة .
وأما اللغو فلا كفارة فيها باتفاق الفقهاء، على اختلافهم في تعريفها، وذلك لصراحة قوله تعالى: (لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) 225/ البقرة .
وأما اليمين المنعقدة، فقد اتفق الفقهاء على وجوب البر بها من غير مصلحة راجحة، لقوله تعالى: (وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ) 89/ المائدة، فإذا رأى الحالف بعد الحلف بها غيرها خيرا منها، حل له الحنث مع التكفير، لقوله r: (مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ) رواه مسلم .
والكفارة الواجبة بحسب ما تقدم لها سبب وشروط متعددة:
فأما سبب وجوبها: فقد اختلف الفقهاء فيه، فذهب الجمهور إلى أن سببها اليمين، وذهب الحنفية إلى أن سببها الحنث في اليمين، وقد ترتب على ذلك جواز تقديمها على الحنث عند الجمهور دون الحنفية ، الذين قالوا لا تجزئ قبل الحنث، ولو كفَّر قبل الحنث ثم حنث وجب عليه التكفير مرة ثانية .
وأما شروط صحتها: فقد اتفق الفقهاء على أن من شروط صحة الكفارة النية عند الدفع إلى الفقير المستحق لها، والإسلام، لأنها عبادة فلا تقبل إلا بالنية والإسلام، ولا تصح من غير المسلم .
وأما أنواع الواجب في كفارة اليمين، فقد اتفق الفقهاء على أن الواجب في كفارة اليمين أنواع أربعة، ذكرتها الآية الكريمة في قوله تعالى:: (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) 89/ المائدة .
واتفقوا على أن الحالف الحانث مخيَّر بين أمور ثلاثة منها، هي الإعتاق والإطعام والكسوة، يُكَفِّر بأيها شاء، لا تثريب عليه في ذلك، وما دام الإعتاق الآن للرقيق غير متيسر فلم يبق إلا الإطعام أو الكساء، فبأيهما كفَّر جاز، فإذ عجز عن ذلك كله، جاز له التكفير بالصيام ثلاثة أيام، ولا يجوز له التكفير بالصوم مع القدرة على الإعتاق أو الإطعام أو الكساء .
والإطعام معناه تمليك الفقير الطعام تمليكا، كالحنطة والشعير وغير ذلك، ولا يكفي إباحته له إباحة من غير تمليك عند جمهور الفقهاء، وأجاز الحنفية فيه الإباحة .
ومقدار الطعام المطلوب في الكفارة هو ما يكفي الإنسان لوجبتين عند بعض الفقهاء، ووجبة واحدة فقط عند بعضهم، ولهذا قدَّره كثير من الفقهاء بالمُدِّ وهو يعادل(750) غراما تقريبا، وقدره الحنفية بمدين من القمح أو أربعة أمداد من الشعير، وأجاز الحنفية دفع قيمة الطعام بدلا منه عينا، وذهب الجمهور إلى منع دفع القيمة بدلا من الطعام . وأوجبوا إخراجه عينا، وأكثر اللجان الفقهية اليوم على جواز دفع القيمة، ويقدر كثير من الفقهاء ما يعطى لكل فقير من القيمة دينارا كويتيا واحدا .
أما الكساء فهو ما يكفي للإنسان العادي من اللباس، ويجوز دفع قيمته أيضا عند الحنفية دون الجمهور
وقد اشترط الفقهاء لتوزيع الطعام أو الكساء أو قيمتهما على الفقراء أن توزع على عشرة منهم، ولا يجوز أن تعطى لفقير واحد مرة واحد بالاتفاق، إلا أن بعض الفقهاء أجاز دفعها لفقير واحد على عشرة أيام ،كل يوم دينارا، ولم يجزها بعضهم الآخر، واشترط الفقراءَ العشرةَ حصرا .
وأما المستحق للكفارة الذي تصرف له، فهو الفقير أو المسكين الذي يستحق الزكاة بكل شروطه، وقد تقدم ذلك في باب الزكاة .
فإذا عجز الحالف الحانث في حلفه عن الإطعام والكساء والإعتاق، جاز له الصيام، وهو صيام ثلاثة أيام في غير رمضان والأيام التي يكره فيها الصوم، واشترط بعض الفقهاء فيه التتابع، ولم يشترط التتابع بعضهم.
فإذا عجز المسلم الحانث في يمينه عن الإطعام والكساء والصوم، كفاه التوبة النصوح إلى الله تعالى، فإذا قدر بعد ذلك على شيء من خصال الكفارة كفَّر بها، لأنها واجب غير مؤقت، فلا يسقط بالتأخير .
والله تعالى أعلم .
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته .