الحلقة (3)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والتابعين، ومن تبع هداهم بإحسان إلى يوم الدين .
أيها الإخوة المستمعون .
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وبعد:
فلأداء الزكاة شروط لا بد من تحققها ليصح أداء المزكي لها، وتبرأ ذمته عنها، فإذا لم تتوفر هذه الشروط بكاملها لم يصح أداؤه لها، وتبقى ذمته مشغولة بها، وكان عليه أداؤها من جديد .
وأهم هذه الشروط النيَّة، لأن الزكاة عبادة، فلا تصح من غير نية، ثم إن الثواب والعقاب في العبادات كلها إنما مداره على النيَّة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ) رواه البخاري.
والنيَّة هي عزم المسلم دافع الزكاة في قلبه على أن المال المدفوع من قِبَلِه هو زكاة ماله، وابتغاء مرضاة الله تعالى، ولا تحتاج النية من المزكي إلى أن يتلفظ بها بلسانه، فيقول للفقير: هذه زكاة مالي، بل ربما حَرُم عليه مثل هذا القول إذا كان فيه إيذاء لمشاعر الفقير، وإنما عليه أن يقصد في قلبه ويعزم على أن المدفوع هو زكاة ماله، من غير حاجة إلى التلفظ بها .
ولا بأس بأن يُقدمها المزكي للفقير في شكل هدية بمناسبة تصلح للإهداء له، كأن يقدمها له بمناسبة شفائه من مرض، أو قدومه من سفر، أو بمناسبة عيد، أو ولادة مولود له، وأمثال ذلك، ما دام ينوي في قلبه أنها زكاة ماله .
وأفضل ما تقبل فيه الزكاة أن تكون سرا بين المرء ونفسه، فلا يعلم بها أحد غيره، لأن ذلك أرجى للقبول، وأبعد عن الرياء المحبط للعمل، قال عليه الصلاة والسلام: (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَدْلٌ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ) رواه البخاري .
وقد ثبت أن كثيرا من السلف الصالح كان لا يُقدِّم زكاة ماله إلا في الليل، لأنه أستر للصدقة، فيذهبَ إلى الفقير في الليل ويطرقَ عليه الباب، فإذا قال -من وراء الباب- من الطارق؟ ترك المزكي المال في صرة وانصرف، فيفتح صاحب البيت الباب، فيجدُ المال فيأخذَه، ولا يعرفُ من الدافعُ له .
والأصل في النيَّة أن تكون عند الدفع إلى المستحق للزكاة شرعا، لأن ذلك الوقت هو وقت أداء العبادة لله تعالى بها، والنيَّة مكانها وقت أداء العبادة، كالصلاة تكون النيَّة فيها عند تكبيرة الإحرام، فكذلك الزكاة تكون النيَّة فيها عند الدفع إلى مستحقيها، أو الدفع إلى العاملين عليها، مثل الجمعيات الخيرية المتخصصة المرخصة من قبل ولي الأمر بجمع الزكاة وصرفها إلى مستحقيها، لأن العاملين عليها وكلاءُ عن المستحقين لها حكما، فيكونُ قبضهم للزكاة كقبض المستحقين لها في الحكم .
فإذا نسي المزكي النيَّة عند الدفع للفقير أو أي مستحق آخر لها، كفاه أن ينويها عن الزكاة بعد ذلك مباشرة، ما دام الآخذ لها لم يتصرف بها وينفقها بعد، فإذا كان قد أنفقها لم تصح النيَّة، ولم تسقط بها الزكاة عنه، وعليه أن يدفع بدلا منها للفقير نفسه أو لمستحق آخر، لأن الأُولى لم تُقبل عن زكاة ماله، لعدم النية، وتكون له صدقة نافلة، وليس له أن يستردها من الفقير بعد دفعها إليه بغير رضاه، لأن الصدقة لا تسترد شرعا .
إلا أن الغني إذا دفع كل ماله لمستحقي الزكاة، ولم يُبقِ عنده شيئا منه، فقد كفاه ذلك عن الزكاة عند بعض الفقهاء استحسانا، سواء نوى به الزكاة أو لا، وذهب الأكثرون إلى أن ذلك لا يكفيه إلا بالنيَّة أيضا .
ولئلا يحصل ذلك، نص الفقهاء على جواز النيَّة عند عزل المال المخصص للزكاة، فإذا حسب الغني زكاة ماله بعد الحول، ثم أخرج منه مقدار الواجب فيه من الزكاة، ووضعه في مكان معين مميز عن أمواله الأخرى، ناويا صرفه للزكاة، كفته هذه النيَّة، فإذا دفع هذا المال المخصص للزكاة، أو دفع جزءا منه، إلى أحد مستحقي الزكاة بعد ذلك، أجزأه عن الزكاة ،سواء نوى عند الدفع الزكاة أيضا أو لم ينوها، وذلك اكتفاء بالنيَّة الحاصلة عند فرز المال، وتمييز مقدار الزكاة منه .
ولو حسب المزكي ماله في نهاية الحول ثم عزل مقدار الزكاة ووضعه في مكان معين، ثم بدا له استبدال هذا المال المعزول بمال آخر فإن له ذلك، لأن المال بالعزل لا يخرج عن ملكه، أما إذا دفعه للفقير ثم أراد استرداده منه ليعطيه غيره، لم يكن له ذلك إلا برضا الآخذ له، لأنه بالدفع لمستحقه خرج عن ملكه، وأصبح في ملك آخذه .
ولو أن المزكي عزل مقدار الزكاة من ماله ثم ضاع المال المعزول بتقصير منه أو بغير تقصير، وجب عليه إخراج غيره، لأن الزكاة لا تسقط عنه إلا إذا وصلت إلى المستحقين لها، أو إلى العاملين عليها .
والشرط الثاني من شروط أداء الزكاة التمليك، وذلك بتمليكها لمستحقها تمليكا كاملا على وجه التبرع، أي بدون مقابل، ليتمكن المستحق للزكاة من التصرف بها تصرفا كاملا، فلا يكفي أن يبيحها له إباحة، كأن يدعوه إلى وليمة مثلا فيأكل منها ما شاء، ولا أن يعيرها له إعارة لمدة معينة ثم يستردَّها منه، ولا أن يقدِّمها له على وجه القرض لمدة معينة ثم يستردَّها منه، مهما طالت تلك المدة، ولا أن يقدم له منفعة ما بدلا من دفع المال إليه، كأن يحمل له أمتعة أو ينقله في سيارة أو طائرة من مكان إلى مكان آخر، مهما كانت قيمة هذه المنفعة، ولا أن ُسكنه في داره أو دكانه مدة معينة مقابل زكاة ماله، ولو كانت أجرة ذلك المحل تساوي الزكاة أو تزيدُ عليها، ولا أن يدفع راتبا لمدرِّس كي يُدَرِّس أولاد الفقراء والمستحقين للزكاة، ولا أن يبني بمال الزكاة مدرسةً ليَدرُس فيها أبناء المستحقين للزكاة، ما لم يُملكْهم هذا البناء تمليكا كاملا بلا مقابل على وجه التبرع، فإذا ملكهم إياه كذلك جاز، ولا أن يبيع المال المخصص للزكاة لمستحقها بيعا، مهما كان الثمن قليلا أو زهيدا، وأمثالَ ذلك، لأن ذلك كله ليس تمليكا كاملا على وجه التبرع بلا مقابل، فلا يجزئ عن الزكاة، والله تعالى أمر بإيتائها إيتاء، بقوله سبحانه: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) 56/ سورة النور . والإيتاء معناه التمليك الكامل، كما لا يجوز للمزكي أن يدفع الزكاة للفقير على سبيل الأجرة على عمل معين استعمله المزكي فيه، ولو كانت الأجرة فوق أجرة المثل، كمن استأجر أجيرا للقيام له بعمل معين كنجارٍ أو بنَّاءٍ أو غير ذلك، ثم دفع له أجرته وحسبها من زكاة ماله، فلا يجزئه ذلك ولو كانت الأجرة المدفوعة له أكبر مما يستحقه العامل على عمله، لأن الزكاة تمليك تبرعي بلا مقابل، والأجرة تمليك بمقابل، فلا تؤدى الزكاة بها، كما أنه لا يجوز للمزكي أن يسقط دينا له على فقير ويحسبه من زكاة ماله، لأن الإسقاط ليس تمليكا، فلا يكون زكاة.
والشرط الثالث من شروط أداء الزكاة أن يكون المال زائدا عن حاجاته الأصلية، فإذا كان المال مشغولا بحاجاته الأصلية، كدار يسكنها، وفُرُش يرتفق بها، وطعام يدخره لمؤنته، وسيارة لركوبه، ومثْلُه كتبُ العلم للعالم، وأدواتُ المهنة للصانع، وأمثالُ ذلك، فلا تجب الزكاة فيه مهما بلغت قيمته، لقوله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) 219/ البقرة
ونسأل الله تعالى القبول لكل من دفع زكاة ماله أو يُهَم بدفعها، وأن يوفق المسلمين جميعا للقيام بهذه الفريضة على وجهها، والله تعالى الموفق للصواب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
والله تعالى أعلم .
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته .
الإثنين 20 رجب 1421هـ و 18/10/2000