وصل الشعر
الباروكة
تمهيد:
في عصر تدوين الفقه الإسلامي وتقعيده توسع الفقهاء في بحث المسائل الفروعية، وتطرقوا إلى افتراضات بعيدة عن الواقع الذي كانوا يعيشونه، فحوت كتبهم ومصنفاتهم من هذه الافتراضات في كل أبواب الفقه وفصوله الشيء الكثير. وقد جنح كثير من هؤلاء الفقهاء إلى الاستطراد في كتاباتهم وبحوثهم، فبينما هو يبحث في موضوع ويعالج مشكلة إذا به ينساق إلى موضوع مجانب آخر ومشكلة أخرى قد لا يكون بينها وبين الموضوع الأصلي الذي هو بصدده إلاّ رباط رفيع جداً، وقد يتعذر على الباحث العثور على هذا الرباط أحياناً.
وقد ظن بعض الكتاب ممن لم يتمرسوا بالفقه الإسلامي، أن هذا الافتراض وذلك الاستطراد عيب في التأليف، وإضاعة للوقت والجهد والأجر معاً، حتى دعوا أولئك الفقهاء بالأرأيتيين، تعريضاً بهم.
ونحن هنا لسنا في معرض الدفاع عن الفقهاء، وتبرير أسلوبهم، وبيان أنه ما لجؤوا إلى ذلك الافتراض والاستطراد إلا بعد أن وفوا الموضوعات حقها من الدراسة والبحث، وبعد أن أجابوا عن كل ما عرض عليهم من أسئلة ومشاكل، حتى كانت استطراداتهم وافتراضاتهم ترفاً علمياً، ودليلاً على نضج الفقه الإسلامي واستواء عوده، وكمال بنيانه الشامخ. ولكننا نعرض لذلك عرفاناً منا بالقيمة الكبرى لهذه الافتراضات التي أصبحت اليوم جواباً وحلاً لكثيراً مما نعانيه من مسائل ومشاكل جديدة فرضتها الحياة وتطورها وتغيرها، وإشادة بالأهمية الكبرى لتلك الاستطرادات التي أثرت الفقه الإسلامي وحلت لنا مشاكل لولاها ما وجدنا لهذه المشاكل حلاً، ولا جواباً فقهياً شافياً يضع أيدينا على حكم الله تعالى فيها.
وقد جدت في العصور المتأخرة، وفي عصرنا الحاضر بالذات مسائل وأمور لم تكن في حسبان الأقدمين من العلماء. وقد وقف الفقهاء المحدثون الأتقياء من هذه المسائل موقف المتريث المتهيب للإجابة، المؤثر للصمت على الكلام، المستشعر عظم المسؤولية، اللهم إلا بضع إجابات مترجلة يعوزها بعد النظر، وعمق الفقه، ومزيد من التقوى، تظهر هنا وهناك بين الفينة والفينة، فيتوقاها الناس، ويبتعدون عنها، فتذهب أدراج الرياح.
وقد كان في افتراضات السابقين واستطراداتهم حل لكثير من هذه الأمور والمسائل المستجدة مما يتلقفه الفقهاء بالفرحة الكبرى، والإكبار والإعظام لمن أغرقوا في الافتراض فكان فيما أغرقوا فيه ترياقاً لظمئنا، وجواباً شافياً لمشاكلنا. إلا أنه لا يزال هناك بعض مسائل تحتاج إلى حل، وبضع استفتاءات تتطلب الفتوى، ولم يصدر إلى الآن عن المختصين في الفقه جواب شاف لها، وحل مدلل لغموضها.
من ذلك مسألة سئلت عنها مرات في الجامعة وخارج الجامعة من فتيات مؤمنات حريصات على تطبيق شرع الله تعالى على سلوكهن. وهي مسألة استعمال المرأة الشعر المستعار تصل به شعرها، وهو المسمى بـ (الباروكة) أو (البوستيج) أمباح هو أم محرم؟ وقد توقف في الإجابة مرات، وأرجأت الأمر لمزيد من الدراسة ومشاورة الأصحاب والزملاء من العلماء المتخصصين، ذلك أن هذه المسألة مما لم يتطرق إليه الفقهاء والسلف الصالح بتفصيل في بحوثهم أو استطراداتهم، وكان لا بد من التوقف في الإجابة عنها لتعارض الأدلة واشتباه العلل، إلا أن السؤال تكرر أخيراً عليّ وألحّ السؤال بالجواب، وكان لا بد من الإجابة عنه بعد ذلك التوقف الطويل. ثم إنني قرأت في العدد /135/ من مجلة الوعي الإسلامي الكويتية فتوى لفضيلة الأستاذ الشيخ عطية محمد صقر يبحث فيها هذه المسألة ويلقي ظلالاً على الإجابة عنها، وهو بحث جيد وفتوى موفقة ـ فيما أظن ـ إلا أنها مشوبة بالغموض في بعض الجزئيات والتفصيلات، مما قد يورث في ذهن القارئ لبساً أو شكاً. ولما كانت هذه الفتوى قد انتشرت بين الناس وذاعت رأيت من الواجب على الإجابة عن هذا الموضوع الذي عمت به البلوى بين نساء العصر، بما وصل إليه الفكر بعد التأمل والدرس.
وإنني سوف أورد النصوص والأدلة الشرعية المتعلقة بالموضوع، ثم أستعرض بعدها مذاهب الفقهاء فيما يدور حوله، وأخيراً أنتهي إلى ما تمكنت من استنباطه مما تقدم من نصوص وأقوال. فإن وفقت فبفضل الله ومنّه، وإلا فحسبي أنني بذلك الجهد مخلصاً لله تعالى.
أولاً: النصوص الشرعية:
1ـ روت عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (إن جارية من الأنصار تزوجت، وأنها مرضت فتمعَّط شعرها، فأرادوا أن يصلوها، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (لعن الله الواصلة والمستوصلة) رواه البخاري([1])، وفي رواية لمسلم([2]) عن عائشة رضي الله تعالى عنها أيضاً: (فتمرّط شعرها)، وفي رواية أخرى لمسلم عنها أيضاً: إن امرأة من الأنصار زوجت ابنة لها فاشتكت فتساقط شعرها، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن زوجها يريدها أفأصل شعرها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعن الواصلات) ([3]).
2ـ روت أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنها فقالت: (جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن لي ابنة عُرَيِّساً أصابتها حصبة فتمرّق شعرها، أفأصله؟ فقال: (لعن الله الواصلة والمستوصلة) رواه مسلم([4]).
وفي رواية أخرى لمسلم: (... فقالت المرأة: إني زوجت ابنتي فتمرق شعر رأسها وزوجها يستحسنها، أفأصل يا رسول الله؟ فنهاها)([5]).
وفي رواية للبخاري عن أسماء نفسها: (إن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أنكحت ابنتي، ثم أصابتها شكوى فتمرق رأسها، وزوجها يستحثني بها، أفأصل رأسها، فسَبَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الواصلة والمستوصلة)([6]).
3ـ روى عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (لعن الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة) رواه مسلم([7]). وفي رواية للبخاري عن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة) ([8]).
4ـ روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه موقوفاً قال: (لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات، والمتفلجات للحسن، المغيرات خلق الله) فبلغ هذا امرأة من بني أسد تقرأ القرآن، اسمها أم يعقوب، فأتته فكلمته، فقال: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله، فقال المرأة: لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته، قال: لو قرأتيه لوجدتيه، قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} قالت المرأة: إني أرى شيئاً من هذا على امرأتك الآن، فقال: اذهبي فانظري فدخلت على امرأته فلم تر شيئاً فعادت فقالت: ما رأيت شيئاً. فقال: أما لو كان ذلك لم نجامعها. رواه البخاري ومسلم([9]). وفي رواية للبخاري عن ابن مسعود نفسه ليس فيها: (والنامصات).
5ـ روى حميد بن عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنهما أنه سمع معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما عام حج وهو على المنبر وهو يقول وتناول قصة من شعر كانت في يد حرسيّ: (أين علماؤكم؟ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذه ويقول: إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخذ هذه نساؤهم) رواه البخاري ومسلم([10]).
6ـ روى سعيد بن المسيب رضي الله تعالى عنه قال: (قدم معاوية المدينة آخر قدمة، فخطبنا، فأخرج كبَّة من شعر، قال: ما كنت أرى أحداً يفعل هذا غير اليهود، إن النبي صلى الله عليه وسلم سماه الزور، يعني الواصلة في الشعر) رواه البخاري([11])، وروى مسلم عن سعيد بن المسيب نفسه أنه قال: (إن معاوية قال ذات يوم: إنكم قد أحدثتم زيّ سوء، وإني نبي الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الزور). قال: وجاء رجل بعصا على رأسها خرقة، قال معاوية: (ألا وهو الزور)، قال قتادة: يعني ما يكثر به النساء أشعارهن من الخرق([12]).
7ـ روى أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه يقول: (زجر النبي صلى الله عليه وسلم أن تصل المرأة برأسها شيئاً) رواه مسلم([13]).
ثانياً: مذاهب الفقهاء:
أمام هذه النصوص الشرعية الصحيحة اختلف الفقهاء في حكم وصل المرأة شعرها بغيره توسعة وتضييقاً، ويمكن تلخيص ذلك بما يلي:
1ـ ذهب الحنفية إلى أن وصل المرأة شعرها بشعر آدمي حرام، سواء أكان الموصول به شعرها هي نفسها، أم شعر زوجها، أم مَحْرَمها، أم امرأة أخرى غيرها، أم غير ذلك. فأما وصلها شعرها بشعر غير آدمي كالصوف والوبر وشعر الماعز والخِرَق وغير ذلك فمباح، لعدم التزوير، ولعدم استعمال جزء الآدمي، وهما علة التحريم في الوصل عندهم. انظر: ابن عابدين: 6/372ـ373.
2ـ وذهب المالكية إلى المنع من الوصل مطلقاً، سواء أكان الموصول به شعر آدمي، أم صوفاً أم غير ذلك. وقد قوى هذا المذهب الإمام النووي من الشافعية فقال في المجموع: (وقول من قال بالتحريم مطلقاً أقوى لظاهر إطلاق الأحاديث الصحيحة,. انظر: المجموع: 3/147.
3ـ وذهب الشافعية إلى أن الوصل بشعر الآدمي حرام مطلقاً كالحنفية، وأما الوصل بشعر غير الآدمي كالصوف والوبر وغيرهما، فعلى قسمين:
أ ـ إن كان الموصول به نجساً فحرام لحرمة استعمال النجس في الصلاة وخارجها.
ب ـ وإن كان الموصول به طاهراً، فإنه ينظر:
1) إن كانت الواصلة ليست بذات زوج فحرام أيضاً.
2) وإن كانت ذات زوج فثلاثة أقوال: الأول: يحل الوصل بإذن الزوج فقط. والثاني: يحرم ولو أذن الزوج. والثالث: يحل مطلقاً من غير حاجة لإذن الزوج، والقول الأول هو الصحيح لدى الشافعية. انظر: المجموع: 3/147.
4ـ وأما الحنبلية فقد ذهبواإلى حرمة الوصل بشعر الآدمي مطلقاً كالحنفية والشافعية، لما فيه من التدليس، وكذلك الوصل بشعر غير الآدمي كالصوف والبر، فإنه حرام أيضاً. وأما الوصل بغير الشعر كالخرق التي تشد بها الضفائر، ففيه تفصيل:
إن كان بالقدر الضروري لشد الرأس فلا بأس به للحاجة إليه.
وإن كان بأكثر من ذلك، ففيه روايتان: إحداهما الكراهة. انظر: المغني: 1/99.
ثالثاً: الاستنباط:
بعد هذا الاستعراض للنصوص الشرعية ومذاهب الفقهاء الأربعة، ننتهي إلى الحكم التالي:
1ـ وصل شعر المرأة بشعر آدمي حرام مطلقاً، سواء أكان الشعر الموصول به شعرها هي نفسها، أم شعر محرمها، أم زوجها، أم شعر رجل أجنبي عنها، أم شعر امرأة أخرى غيرها. وذلك لإطلاق النصوص الشرعية المتقدمة، ولاتفاق فقهاء المذاهب الأربعة على تحريم ذلك، ولأنه استعمال جزء الآدمي بعد فصله عنه، وهو حرام، وعليه، فإنه يحرم استعمال (البوستيج والباروكة) المتخذان من شعر الإنسان (الشعر الطبيعي) وهو منتشر بين نساء العصر، وهو من أجود ما يوصل به الشعر اليوم عندهن.
2ـ وصل شعر المرأة بشعر غير الآدمي كشعر الماعز، أو الصوف، أو الوبر، أو الشعر الاصطناعي.. يفصل القول فيه ويقسم إلى قسمين:
أ ـ القسم الأول: الوصل بما يشبه الشعر الطبيعي حتى يظن الناظر إليه لأول مرة أنه شعر طبيعي، وأنه امتداد لشعر المرأة نفسه، وذلك كالشعر الاصطناعي المستعمل في وصل شعر النساء اليوم. فإنه حرام قياساً على الوصل بالشعر الطبيعي، بجامع (التزوير) في كل، وهي العلة التي جاء النص على التحريم بها في حديث معاوية المتقدم، كما جاء النص عليها في حديث ابن مسعود: (المغيرات خلق الله).
ب ـ والقسم الثاني: الوصل بما يشبه الشعر الطبيعي بحيث يدرك الناظر إليه لأول مرة أنه ليس شعراً طبيعياً، وأنه غريب عن شعر المرأة. وذلك (كالقرامل) التي يصل بها نساء بعض القرى شعورهن، وهي مصنوعة غالباً من الصوف أو بعض الخيوط الأخرى، فإنه مباح لعدم تضمنه علة التحريم المتقدمة وهي (التزوير)، إلا أن التنزه عنه أولى لإطلاق بعض النصوص الشرعية المتقدمة، ولحديث جابر الأخير: (زجر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تصل المرأة برأسها شيئاً)، ومراعاة لمذهب المالكية والحنبلية. إلا أننا لا نستطيع القول بالتحريم لعدم توفر العلة المنصوص عليها (التزوير) ولحمل إطلاق النصوص على القيد الذي ورد في أحاديث أخرى وهو (التزوير).
3ـ ضفر شعر المرأة بالشرائط الملونة وغيرها مما هو ظاهر فيه أنه ليس من شعرها، فإنه مباح لأنه ليس وصلاً، فلا يدخل تحت إطلاق النصوص. إلا أنه ينبغي أن لا يزاد فيه عن الحد المعتاد اللازم للم الشعر وربطه. وذلك مراعاة لمذهب الحنبلية.
هذا ولا بد لي من التنبيه إلى أن النصوص الشرعية المتقدمة وغيرها تدل على تحريم أو كراهة كل زينة فيها تزوير للواقع الذي خلقت عليه المرأة ولو كان غير وصل الشعر، وذلك:
كالتنمص، وهو نتف الشعر الزائد في الوجه، وذلك لما جاء في الأحاديث الصحيحة المتقدمة من لعن النامصة والمتنمصة.
وتحمير الوجه بأنواع الأصبغة على وجه تبدو فيه الحمرة كأنها شيء طبيعي في المرأة. وقد نص الشافعية على ذلك، فقد جاء في المجموع ما نصه: (قال صاحب التهذيب: وتحمير الوجه والخضاب بالسواد وتطريف الأصابع حرام بغير إذن الزوج، وبإذنه وجهان أصحهما التحريم) ([14]).
أما غير ذلك من أنواع الزينة للمرأة مما ليس فيه تزوير فمباح لها ولو لم تكن ذات زوج إذا لم تتزين به لأجنبي، وإن كان الأفضل لها عدم المبالغة في ذلك. فإذا كانت ذات زوج، فإن طلب منها زوجها ذلك وجب عليها فعله لأن التزين حقه، وإن منعها من الزينة حرمت عليها، لما في ذلك من عصيان أمره، وإن سكت فلم يطلب ولم يمنع كان الأمر على الإباحة الأصلية، كغير ذات الزوج.
ولا بد لي من التنبيه أيضاً إلى أن التزين بالمحرم، وبخاصة وصل الشعر، من الأمور الخطيرة على كيان المجتمع. وقد أشارت الأحاديث الشريفة إلى ذلك.
فقد جاء في حديث معاوية رضي الله تعالى عنه المتقدم: (إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخذ هذه نساؤهم). كما جاء فيه قوله: (ما كنت أرى أحداً يفعل هذا غير اليهود).
وفي ذلك من الزجر عن هذه الفعل ما فيه {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ}.
** ** **