من مشكلاتنا الاجتماعية المعاصرة
مشكلة العزوبة
الأسرة عماد المجتمع وأساسه، بل هي المجتمع كله، منها يبدأ، وعليها يعتمد، وبقدر ما تكون الأسرة متراصة متينة يكون المجتمع قوياً متماسكاً. وهذه الأهمية القصوى للأسرة بالنسبة للمجتمع تفسر لنا الاهتمام الكبير الذي توليه الشرائع الإلهية والتشريعات والقوانين الوضعية للأسرة، حفاظاً على تماسكها وتناسقها ومتانتها، إن من الناحية الاقتصادية أو الاجتماعية على حد سواء، لأن أي مشكلة سوف تتعرض لها الأسرة (المجتمع الصغير) لا بد وأن ترتد على المجتمع الكبير كله بكل ثقلها، تقض مضجعه وتهد كاهله، ولذلك نرى العلماء والمتخصصين في الحقول الاجتماعية والتشريعية والدينية يسارعون فور حدوث أي مشكلة للأسرة بالدراسة واقتراح الحلول خشية أن يتفاقم الأمر ويشتد الخطر، سيما وأن المشاكل الاجتماعية عامة، والمشاكل الأسروية خاصة، هي مشاكل معقدة في أغلب الأحيان، وتحتاج في حلها إلى مزيد من الدراسة والبحث.
ويلاحظ العلماء والباحثون في العالم العربي والإسلامي، بل العالم كله أيضاً، أنه بدأت تظهر مشكلة جديدة مضافة إلى مشاكله الكثيرة، تتهدد الأسرة في أصل وجودها، وهي مشكلة (العزوبة( أو عزوف الشباب عن الزواج، حيث يبلغ عمر الواحد منهم الخامسة والعشرين والثلاثين بل الأربعين أحياناً قبل أن يتزوج، وفي هذا تهديد كبير واضح للأسرة، ونذير بخرابها دون شك، وهي ركن المجتمع وأساسه ـ كما تقدم ـ. وهذه المشكلة وإن كانت في جذورها قديمة ترجع إلى سنوات كثيرة ماضية، إلا أنها لم تكن تشكل في الزمن الماضي ظاهرة اجتماعية، وإنما كانت حوادث فردية تقع أحياناً تحت تأثير بعض الظروف الخاصة.
ولكنها اليوم أصبحت تشكل ظاهرة خطيرة تهدد أركان المجتمع وتهز كيانه، أصبحت ظاهرة كبيرة تثير اهتمام المشتغلين بالقضايا الاجتماعية والإحصائية، وتفرض عليهم دراستها واقتراح الحلول المناسبة لها، وإلا زادت تعقيداً واستعصت على الحل.
ومعلوم ما للزواج من قيمة كبرى في بناء المجتمع، إذ هو حجر الأساس فيه، يبني الأسرة ويلطف الطباع، ويشبع الحاجات النفسية والجسدية ويقمع توترها، ويمنع الانحراف والشذوذ، ويؤمن للناس جميعاً حياة الوداعة والهدوء والسكن النفسي، وما إلى ذلك من المعاني الكثيرة التي يحققها الزواج.
وتحت وطأة هذا الإلحاح الشديد الذي تفرضه هذه الظاهرة المشكلة على العلماء، يطلع علينا بعض الناس بحلول لهذه المشكلة تكاد تكون مرتجلة أو غير عميقة، فإذا بهم يزيدونها تعقيداً وإشكالاً، لأن هذه الحلول ليست حلولاً جذرية مدروسة دراسة كافية، وإنما هي كالسراب، يبدو للناظر فيغريه بالتقرب منه، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً.
ومن هذه الحلول مسألة تحديد المهور، حيث يذهب البعض إلى أن سبب هذه الظاهرة الخطيرة هو ارتفاع المهور حيث تصل في بعض البلدان العربية إلى ثلاثة آلاف جنيه أو أكثر، وهو أمر يعجز عن توفيره الشباب في كثير من الأحيان، فيضطرون إلى التمسك بالعزوبة البغيضة التي يتسبب عنها تفتت المجتمع، وعموم الانحراف فيه ـ في بعض الأحيان ـ وغير ذلك. ولذلك فهم يقترحون إصدار قوانين من السلطات المختصة تحدد بموجبها مهور النساء على وجه يتيسر فيه لأكثر الشباب دفعها، فتتأمن المصلحة، ويقبل الشباب على الزواج وتختفي هذه الظاهرة.
وإنني وأنا أدلي بدلوي في بحث هذه المشكلة أتساءل: هل درس هذا البعض من الناس هذه المشكلة من جميع جوانبها دراسة عميقة فاحصة، وانتهوا إلى أن السبب الوحيد أو الرئيسي لها هو غلاء المهور؟ وهل حللوا ظاهرة غلاء المهور إلى عناصرها وانتهوا إلى أنها لا تحل إلا بإصدار التشريعات المحددة لها؟ وهل توقعوا أن التشريعات هذه يمكن أن تحل المشكلة؟
أعتقد أن شيئاً من ذلك لم يكن مطلقاً، وأن عزوف الشباب عن الزواج لم يكن متسبباً عن غلاء المهور، ذلك أن العزوف عن الزواج منتشر بين الشبان الأغنياء أكثر منه بين الشبان الفقراء، وهذا أمر لا مراء فيه ولا شك، وتثبته الإحصائيات، ثم إن القضاء على غلاء المهور إذا سلمنا جدلاً بسببيته لهذه المشكلة، لا يمكن أن يحل بالتشريعات أبداً، ذلك أن الزواج لا يتم ولا يجوز أن يتم إلا بالرغبة النفسية والانسجام العاطفي بين الزوجين، وهذا أمر لا مدخل للتقنين فيه، ولا تأثير لقسر السلطة عليه.
وما دام هذا الحل عاجزاً عن معالجة مشكلتنا هذه فلا بد من اقتراح الحلول المناسبة لها.
وطبعي أن المشكلات الاجتماعية مشكلات معقدة كما أسلفت، وتحتاج إلى تضافر جهود المختصين، لأن أي حل خاطئ لها سوف لا يكون عاجزاً عن حلها فقط، بل سيكون له مردود عكسي عليها يزيدها تعقيداً وجسامة.
ولكن إلى أن تتاح الفرصة لحلها على الوجه المذكور، لا يجوز بحال تركها من غير حل تزداد خطورة وشدة، بل الواجب العمل على دراستها وتقديم الاقتراحات المناسبة لحلها، عسى أن تكون هذه المقترحات نبراساً ومنبهاً لمجموعة المتخصصين في الحقول الاجتماعية، إلى خطورة هذه المشكلة، ومن ثم العمل على حلها.
وإنني وأنا أدرس هذه المشكلة أرى أن سببها الرئيسي ليس ارتفاع المهور أبداً لما أسلفت، وليس الجهل بمعنى الزواج وقيمته في المجتمع أيضاً ـ كما يدعي البعض ـ بدليل أن هذه الظاهرة عامة في الفئات المثقفة أكثر منها في الطبقات الجاهلة، أو هي متساوية بينهما على الأقل.
وليس سببها أيضاً كثرة متطلبات الحياة، وارتفاع أثمان الحاجيات، لأن هذا الارتفاع رهين بالحالة المادية لكل أمة، يتناسب معها طرداً وعكساً، فترتفع الأسعار حيث يكثر الدخل، وتقل حيث ينزل مستوى الدخل.
ولكنه في رأيي في الواقع قلة الرغبة، وضعف الميل الجنسي من كل من الجنسين نحو الآخر. فإن الله سبحانه وتعالى قد خلق في كل من الجنسين رغبة وميلاً نحو الجنس الآخر، وهذه الرغبة مقدرة بمقدار معين يضمن توقان كل من الجنسين نحو الآخر توقاناً منتظماً، يحمله على تخطي كل الصعاب في سبيل الوصول إليه، والتزوج منه، وذلك لضمان استمرار الحياة البشرية على وجه الأرض.
فالزواج مسؤولية كبرى تحتاج إلى تضحيات جلى من كلا الزوجين، إذ في الإنفاق على الزوجة والأولاد، وفي خدمة البيت والأولاد والزوج مسؤولية صارفة غالباً لكلا الزوجين عن تحملها لولا ذلك التوقان النفسي الذي أودعه الله ـ جل شأنه ـ في كل من الجنسين نحو الآخر.
ولكن هذا التوقان، أو هذه الشهوة الجنسية لا بد لها أن تقف عند حد لا تغادره، فلا تزيد عليه ولا تنقص عنه، لأنها إن نقصت عنه عزف الشباب عن الزواج فراراً من المسؤولية الكبرى التي يفرضها عليهم، إن مادية أو معنوية. وإن زادت عن حدها هذا انفجرت بركاناً يحرق الأخضر واليابس، ويقوض أركان المجتمع من أساسه، وهو ما يحصل في الدول النامية عندما تتفتح على الحضارة أو على (ما يسمى حضارة اليوم) فجأة، فيكثر فيها اختلاط الجنسين بعد ما كان ممنوعاً فيها منعاً يكاد يكون كاملاً.
ولذلك نرى أن الإسلام راعى هذه الناحية، وسن شرائع ونظماً متعددة تحفظ لهذه الشهوة الجنسية قوتها وشدتها عند الحد اللازم لها، أو عند الحد الذي يضمن لها استمرارها بالعمل الذي خلقت من أجله، دونما انفجار أو تخريب.
فقد سن الإسلام لذلك الحجاب للمرأة وجعله عليها فرضاً لازماً، وسن آداب كف النظر للرجل والمرأة معاً، فقال جل من قائل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ}([1]). وقال تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ... وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ}([2]).
كما منع الإسلام الاختلاط بين الجنسين، وخلوة كل منهما بالآخر في غير الحالات المأمونة (المحارم)، أو حالات الضرورة، فقد جاء في معنى الحديث الشريف عن النبي عليه الصلاة والسلام قوله: (ما خلا رجل بامرأة أجنبية عنه إلا كان الشيطان ثالثهما,، كما منع النساء من السفر وحدهن من غير زوج أو محرم، حتى لأداء فريضة الحج إلى بيت الله الحرام عند جمهور الفقهاء.
إلى غير ذلك من التشريعات المتعددة التي تضمن أن لا يطفح الكيل وتزداد الشهوة، أو تقل عن حدها المفروض لها، فتخرج عن الغاية التي خلقت لها.
هذا وإن الاختلاط بين الجنسين الذي نراه يعم الآت ـ للأسف ـ في مجتمعاتنا المسلمة، العربية منها وغير العربية، وانحسار الحجاب الساتر للمرأة، وعمون التبرج بل التهتك أحياناً بين النساء، وتدني أخلاق الرجال إلى حد لم يعودوا معه يتورعون عن اللعب بالمرأة لعبهم بالكرة، فضلاً عن استراق النظرة المسمومة منها استمتاعاً بجمالها وأنوثتها، إلى غير ذلك مما يجل عن الوصف ويعلمه كل فرد منا.
كل هذا سبب زيادة حادة في قوة هذه الشهوة، خرجت بها عن الحد المقرر لها، ولكن الروح الإسلامية والعادات الإسلامية العريقة في بلادنا، والفئة القليلة المحافظة على تعاليم دينها بيننا، كل ذلك حال دون اندفاع هذه الشهوة المتأججة لتعيث في الأرض الفساد في بلاد الإسلام، أو في بعضها على الأقل، فانكبتت هذه الشهوة في وكرها وضاق عليها جرابها دون أن تستطيع تمزيقه، فمرضت وانكمشت على نفسها، وشعرت بخيبة الأمل، فعادت أنكاساً ترجع إلى الوراء، وتضعف وتذبل، حتى نزلت نزولاً سحيقاً عن الحد المقرر لها، والذي تستطيع معه القيام بمهمتها في التغلب على كل معوقات الزواج الصالح المنتج، الذي يبني الأسرة والمجتمع السليم. فقلت الرغبة، وضعف التوقان، والتفتت أنظار الشباب والشابات معاً عن الزواج، وبدأت المعوقات تنتحل من كل منهما انتحالاً، بغية الابتعاد عن الزواج فراراً من مسؤولياته، من حيث لا يدرون، فغلت المهور وكثرت الشروط إلى غير ذلك مما نراه من العقبات الكثيرة التي تنتحل اليوم لتعويق الزواج، واستعاض الشباب (أو حاولوا ذلك) عن الزواج بالنظرة العابرة، والجلسة المختلسة، والمشبة الهادئة في الشارع، والسهرة المشينة في النادي، و... وفي ذلك من الدمار والخراب للمجتمع الإسلامي الذي نرنو إليه ما فيه.
هذا هو السبب الرئيسي في نظري لظاهرة العزوف عن الزواج في بلادنا، قلة الرغبة والتوقان الجنسي الناتجين عن الاختلاط غير المأمون، وتبرج النساء المشين، وليس غلاء المهور، وكثرة متطلبات النساء، وما ذلك في الحقيقة إلا غشاءاً رقيقاً يخفي وراءه الأسباب الرئيسية الهامة التي قدمتها.
ثم إن حظ البلاد الأجنبية من مساوئ هذا التبرج والاختلاط لم يكن بأدنى من حظنا منه، نعم إن الشهوة البهيمية قد انطلقت في نفوس الشباب لديهم نتيجة ما تقدم، ولم تنكبت كما حصل في بعض بلادنا الإسلامية، إلا أن النتيجة كانت واحدة، وهي عزوف الشباب عن الزواج أيضاً. ذلك أن هذه الشهوة انطلقت انطلاقاً عشوائياً تحصد الأخضر واليابس، وتنتج الأولاد غير الشرعيين بالألوف تلقيهم عالة على المجتمع، تفتت بهم كرامته وعزته.. حتى وجد الشباب في ذلك غنى عن تحمل مسؤوليات الزواج الكثيرة، فاكتفوا بذلك الاتصال المحرم الميسور لهم عنه.
لذلك كله أنتهي إلى إن السبب الرئيسي لظاهرة العزوبة في العالم كله على وجه العموم وفي مجتمعاتنا الإسلامية على وجه الخصوص، هو ضياع القيم الأخلاقية، وتبرج النساء واختلاطهن بالرجال بطريقة لا تتفق وما شرعه الله ـ جل شأنه ـ نظاماً للمجتمع.
ثم إن الحل الوحيد في نظري لهذه الظاهرة المعقدة هو الرجوع بالمرأة المسلمة إلى الحجاب الإسلامي، ومنع اختلاط الجنسين إلا بالطرق والشروط التي وضعها الإسلام لذلك، والعمل على توعية الشباب والشابات من المسلمين بأخطار الاختلاط العشوائي، ومضار إطلاق النظر اللاهي العابث. وإن كان هذا الحل صعباً وقاسياً ويحتاج إلى وقت طويل إلا أنه الحل الوحيد الذي لا يمكن أن يحل غيره محله أبداً.
** ** **