نظر كل من الخطيبين إلى الآخر في الفقه الإسلامي
حكمه وحدوده وشروطه
تمهيد:
من أخطر المراحل التي يمر بها الإنسان في حياته ذكراً أم أنثى مرحلة الخطوبة، فهي مفترق طرق، بين سعادة دائمة أو شقاء دائم، بين تفاهم وانسجام وتعاون على بناء أسرة كريمة، ومجتمع فاضل، أو اختلاف وتنافر ونزاع وتفرق وتفتيت بالتالي لعرى المجتمع.
ومن هنا كان اهتمام التشريعات عامة بتنظيم هذه المرحلة ورسم الحلول لكل ما يحيط بها من مشكلات كبيراً، وعلى رأسها التشريع الإسلامي الكامل الشامل.
ويدخل في بناء هذه التنظيمات والتشريعات في الغالب الأعراف والتقاليد التي تبنى على مزاج الشعوب وتاريخها، إلا أن التشريعات دائماً تكون صمام الأمان لشطط هذه التقاليد وخروجها عن حد الاعتدال، فتكبح جماحها كلما اشتطت أو تطرقت أو أغرقت، وتسايرها ما دامت في الطريق الصحيح السوي، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) [حديث صحيح رواه مالك في الموطأ وغيره]. والتتميم لا يكون إلا بالمواكبة والإقرار للصحيح، والتقويم والتغيير لغير الصحيح.
إلا أن الخوض في بيان معنى الخطبة وحكمها وحكمتها وشروطها وأركانها وموانعها وآثارها.. أمر يطول ولا يحتاج إليه في الغالب إلا المتخصصون، ولهذا فإنني سوف أكتفي من ذلك بدراسة ثلاث نقاط في الخطبة هي أهم ما يهم العامة من الناس ويثور فيها الخلافات بينهم، فأبين فيها حكم الإسلام بعامة بعيداً عن الخوض في الاختلافات الفقهية والأدلة إلا ما هو ضروري منها للتوضيح والبيان، وهذه النقاط هي:
1ـ نظر كل من الخاطبين إلى الآخر وحدوده وشروطه.
2ـ حكمة مشروعية الخطبة والآداب التي يجب أن تراعى فيها.
3ـ حكم الهدايا بين الخطيبين وأثر العدول عن الخطبة عليها.
وسوف أفرد لكل من هذه النقاط الثلاث حلقة خاصة بها بعيداً عن الإطالة المملة، مبتدئاً في هذه الحلقة بالموضوع الأول:
حكم نظر كل من الخطيبين للآخر:
لقد اشتط كثير من الناس وتساهلوا في أمور النظر إلى المخطوبة حتى ابتعدوا عن روح التشريع الإسلامي وكنهه وحدوده متأثرين بعادات وتقاليد وافدة، وتزمت آخرون وتشددوا وضيقوا على أنفسهم وعلى الناس حكماً جعل الله لهم فيه سعة، ونتج عما اتجه إليه كل من الطرفين من التساهل والتزمت حرج بالمسلمين وعنت، بل جهل بحكم الإسلام الصحيح، وعزوف عن الاحتكام إلى التشريع الإسلامي في هذا الموضوع الخطير أحياناً من كثيرين منهم منصرفين إلى أحكام وتقاليد وافدة بعيدة عنا وغريبة على تقاليدنا وأخلاقنا ومثلنا.
لهذا رأيت من المناسب أن أبين للناس بعامة وللشباب بخاصة حكم الإسلام في هذا الموضوع الهام ليعودوا إليه ويلتزموه ويتركوا ما لا يناسبهم من تقاليد غريبة تنحرف بهم وتبتعد بسلوكهم عن شرعة الإسلام الحنيف.
قال عامة العلماء: إن نظر كل من الخطيبين للآخر عند العزم على الخطبة أمر مباح، هذا إذا احتاجا إليه لإتمام الخطبة، فإذا لم يحتاجا إليه، بأن كان كل منهما يعرف الآخر من سابق، أو أنه اكتفى بوصف أهله له، لم يبح النظر، لأن نظر المرأة للرجل الأجنبي، ونظر الرجل للمرأة الأجنبية عنه محرم في الأصل لقوله تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ}، وقوله سبحانه: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور: 30ـ31]. ذلك أن النظر ضد الغض، إلا أنه أبيح للخاطبين هنا استحساناً للمصلحة الغالبة التي شهدت لها نصوص من السنة الشريفة لما سوف يأتي، فإذا انتفت المصلحة انتفت الإباحة، للقاعدة الفقهية الكلية: (الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً) [انظر كتابنا: المدخل الفقهي ص154]، والقاعدة الفقهية الكلية: (إذا زال المانع عاد الممنوع) [انظر مجلة الأحكام العدلية المادة 54، وكتابنا المدخل الفقهي ص83].
وذهب بعض الفقهاء إلى أن نظر كل من الخطيبين للآخر مندوب إليه، وليس مباحاً فقط، واحتجوا لذلك بأدلة منها:
1ـ قوله صلى الله عليه وسلم للمغيرة بن شعبة وقد خطب امرأة: (انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما) [أخرجه الترمذي والنسائي. جامع الأصول: 11/438ـ439].
2ـ ما رواه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه قال: (كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه رجل فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنظرت إليها؟ قال: لا، قال: فانظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئاً) [أخرجه مسلم والنسائي. جامع الأصول: 11/438].
فإن في هذين الحديثين وغيرهما أمراً بالنظر، والأمر إذا انصرف عن الوجوب لا ينزل عن الندب.
إلا أن الذين قالوا بالإباحة فقط، استدلوا بالأدلة السابقة نفسها إلا أنهم أجابوا بأن هذا الأمر قد وقع بعد نهي، وما كان كذلك يعاد الأمر فيه إلى الأصل وهو هنا الإباحة والبراءة الأصلية، ويقصدون بالنهي عموم قوله تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا ...}.
وعلى كل فالأمر سهل والخلاف بسيط والتوفيق ممكن، بأن نقول بالندب إذا اشتدت الحاجة إلى النظر، وبالإباحة إذا كانت الحاجة قليلة.
إلا أن للنظر المباح أو المندوب هذا حدوداً وشروطاً لا بد من توافرها وإلا حرم على الأصل، ذلك أنه حكم ثبت استحساناً على خلاف القياس، وما كان كذلك من الأحكام لا يتوسع فيه.
وقد بين الفقهاء على اختلاف مذاهبهم حدود النظر المأذون به وشروطه، فاتفقوا في بعضها واختلفوا في بعضها الآخر، وتطرف قلة منهم وذكروا أحكاماً لا أرى أن الدليل يوافقها أصلاً، ولهذا فقد انصرف عنها عامة الفقهاء ولم يقولوا بها. وسوف أكتفي هنا بذكر ما اتجه إليه عامة الفقهاء، مغضياً عما تطرف فيه بعضهم بعداً عن التشويش.
شروط النظر المأذون به وحدوده:
1ـ أن يكون الخاطب جاداً في خطبته وأن تكون الخطيبة ممن يرجى موافقتها، فلا يحل لإنسان أن ينظر إلى امرأة غير محرم له على التأبيد ما لم يعزم على خطبتها عزماً أكيداً وهو يرجو موافقتها على خطبته بحسب ظروف الحال، ولا يحل للمخطوبة أن تنظر إلى خاطبها ما لم يعزم على خطبتها وتكون هي مهيأة لقبول خطبته، ولهذا فإنني أرى أن لا يحل نظر الخطيبين أحدهما للآخر إلا بتوافر الشروط التالية:
أ ـ أن توصف المخطوبة إلى خاطبها من قبل محارمه النساء فتعجبه أوصافها فيعزم على خطبتها من خلال ذلك الوصف.
ب ـ أن يوصف الخاطب لخطيبته من قبل محارمها الرجال ويذكر لها عزمه على خطبتها فيميل قلبها إليه.
جـ ـ أن لا يكون بين الخطيبين من الأسباب المحرمة ما يمنع الخطبة والزواج، كأن تكون محرماً له على التوقيت كأخت زوجته التي في عصمته، أو زوجة لغيره أو معتدة من طلاق ذلك الغير، أو يكون الخطيب غير كفء وقد منع الولي الخطبة، أو مخطوبة لغيره...
2ـ أن يقصد كل من الخاطبين عند النظر إلى الآخر التبين وليس التلذذ والتمتع به، فإن قصدا التلذذ أثما، لأن النظر المباح إنما شرع لعلة التبين، فإذا انعدمت العلة انعدمت الإباحة المترتبة عليها للقاعدة الفقهية الكلية: (إذا زال المانع عاد الممنوع) [المادة 24 من مجلة الأحكام العدلية].
3ـ أن لا يكرر كل منهما النظر للآخر بما يزيد عن حاجة التبين، فإذا تبين كل من الخاطبين حال الآخر بالنظرة الأولى حرم عليهما النظرة الثانية، فإذا لم يتبين حاله بالنظرة الأولى حلت له النظرة الثانية، فإذا لم يتبين حاله فيها أيضاً حلت له النظرة الثالثة، ولا يحل له ما وراء الثالثة لدى عامة العلماء، لأن النظرات الثلاث تكفي للتبين في الغالب، فإذا صادف أنه لم يكتف بها فعلاً لتبين حاله حلت له النظرة الرابعة على قدر الضرورة والحاجة للقاعدة الفقهية الكلية: (الضرورات تقدر بقدرها) [المادة 22 من مجلة الأحكام العدلية، وانظر كتابنا المدخل الفقهي ص68].
4ـ أن لا يرافق النظر خلوة، فإن الخلوة بين الخطيبين منفردين محرمة، لأن الخطيبة أجنبية عن خاطبها، والخلوة مع الأجنبية حرام بالاتفاق. وعلى هذا فإن لكل من الخطيبين أن ينظر إلى الآخر بحضور المحارم من الأرحام، فإذا تكرر النظر وجب حضور الأرحام المحارم أيضاً.
وهذا الأمر مما يتساهل فيه كثير من الناس اليوم فيأذنون للخطيبين بعد النظرة الأولى في الغالب بالخلوة مع بعضهما وهو محرم باتفاق الفقهاء، وإنه ذو آثار اجتماعية وخلقية سيئة وخطيرة لا تخفى على كل ذي عقل.
5ـ أن لا يزيد الخاطب في النظر إلى مخطوبته عن حد الوجه والكفين لدى عامة الفقهاء، لأن ذلك كافٍ لتبين حالها في الغالب، أما الخطيبة فلها أن تنظر إلى رأس خاطبها وصدره ويديه مما ليس بعورة منه. وأباح بعض الفقهاء للخاطب أن ينظر من خطيبته إلى ما يبدو منها في المنزل غالباً، وهو مرجوح لدى عامة الفقهاء، والأكثرون على القول الأول.
هذا ولا يجوز لأي من الخاطبين بعد أن يرى الآخر فلا يعجبه أن يقول: إنه لم يعجبني أو لا أريده.. لأن ذلك إيذاء له وهو حرام، ولكن يعرض ويوري بقدر الإمكان، ثم يعتذر عن إتمام الخطوبة بألطف ما يمكن من القول والعمل.
وإنني هنا أود التنبيه إلى بعض الأخطاء التي يقع فيها بعض الناس أثناء الخطبة يظنونها مباحة وهي حرام، وأهمها:
1ـ مصافحة الخطيب لخطيبته، فإنها حرام بالاتفاق، ذلك أن النظر محتاج إليه فأبيح للسنة، أما المصافحة فهي ملامسة وهي أفحش من النظر وغير محتاج إليها فتبقى على التحريم، بل إن بعض الناس من يتورط بما هو فوق المصافحة كالقبلة أو إلباسها بعض الأساور والزينة، وهو حرام فليتنبه له.
2ـ تزين الخطيبة بالألوان وما إليه.. عند نظر الخاطب إليها، فإنه ممنوع أيضاً لما فيه من التزوير. ولا يعني ذلك أن ينظر إليها وهي في أسوأ حال، ولكن لا بد من الاعتدال في هذا.
3ـ النظر إلى الخطيبة بين محارمها من النساء وهن سافرات بغير حجاب، فإنه حرام، ذلك أن النظر إلى المخطوبة أبيح للحاجة الغالبة إليه، وليس النظر إلى محارم المخطوبة محتاجاً إليه أيضاً، فيبقى على التحريم، ولهذا فإن للخطيب أن ينظر إلى خطيبته بين محارمها من الرجال، ولا بأس بوجود بعض النساء لتستأنس بهن، ولكن بشرط أن يكن محجبات تماماً، لأنهن أجنبيات عن الخاطب، ولا مبرر للنظر إليهن بغير حجاب، وكم أدت مخالفة هذا الحكم الشرعي إلى ويلات حيث تحول الخاطب عن خطيبته إلى إحدى محارمها لأنه وجدها أفضل منها.
4ـ اصطحاب الخاطب معه أثناء النظر إلى خطيبته بعض أقاربه من الرجال، كأبيه أو أخيه.. فإنه حرام، لأن النظر أبيح للخاطب للحاجة، ولا حاجة في نظر غيره إليها، وكم من المشكلات نتج عن مخالفة ذلك، حيث تكون الخطبة لفلان فتتحول بذلك النظر إلى أبيه أو أخيه.. حيث تراه الخطيبة أفضل منه.
هذه بعض الحاجات أقدمها لشبابنا وشاباتنا وأولياء أمورهم بينت فيها حكم نظر كل من الخطيبين للآخر مشدداً على ضرورة التزامها وعدم تجاوزها لكل من أراد أن يبني بيته على أساس شرع الله وحكمه، وفي ذلك سعادة الفرد والأسرة والمجتمع في الدنيا وفي الآخرة، وأحذر الجميع من التساهل والشطط في هذا الأمر الخطير مهما كانت الصوارف والمغريات والمبررات، وإلا فإن في ذلك الهلاك والدمار للأخلاق والحضارات، والله من وراء القصد، وهو يهدي السبيل.
** ** **