الحجاب
تعريف الحجاب:
الحجاب في اللغة المنع، وهو من الباب الأول، والسِّتر حجاب لأنه يمنع المشاهدة، والأصل في الحجاب جسم حائل بين جسدين، ويستعمل في الموانع المعنوية أيضاً، فيقال: المعاصي حجاب بين العبد وربه، والطاعات حجاب بين العبد والنار([1]).
والحجاب في اصطلاح الفقهاء: ساتر يغطي بدن المرأة كله، ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ}([2])، إلا أننا سوف نتوسع هنا في مفهوم الحجاب قليلاً، ونتحدث عن ستر العورة، وستر ما وراء العورة من الجسم، في الرجل والمرأة معاً، وذلك مبحثين:
أ ـ ستر العورة في الرجل والمرأة.
ب ـ ستر ما وراء العورة من أجزاء الجسم في الرجل والمرأة.
وذلك بعد تعريف العورة، وبيان حدودها في كل من الرجل والمرأة.
تعريف العورة وبيان حدودها:
العورة في اللغة: ما قبح النظر إليه من البدن، وكل شيء يستره الإنسان أنفة وحياة فهو عورة، والنساء عورة([3]).
والعورة في اصطلاح الفقهاء تختلف في الرجل عنها في المرأة.
فالعورة في الرجل عند الحنفية من السرة إلى ما تحت الركبة، وقال الشافعية: من الركبة إلى ما فوق السرة، وعلى ذلك فالركبة عند الحنفية عورة دون الشافعية، والسرة عند الشافعية عورة دون الحنفية.
والعورة في المرأة الحرة جميع بدنها، إلا الوجه والكفين والقدمين، باتفاق جمهور الفقهاء([4]).
حكم ستر العورة في الرجل والمرأة:
ستر العورة واجب على الرجل والمرأة باتفاق الفقهاء، لقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ}([5])، وقوله سبحانه: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ}([6])، وقوله جل من قائل:{وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}([7])، وقوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى}([8]).
ولما روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: قلت يا رسول الله، عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: (احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك). قلت: فإذا كان القوم بعضهم في بعض([9])؟ قال: (إن استطعت أن لا يراها أحد فلا يرينَّها). قلت: فإذا كان أحدنا خالياً؟ قال: (فالله تبارك وتعالى أحق أن يستحيا منه) رواه الخمسة إلا النسائي([10])، ولما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة، ولا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد). رواه مسلم([11]).
إلا أنه يستثنى من ذلك المنع حالات يسمح فيها بكشف العورة، وهي:
1ـ الضرورة:
وذلك كالتطبيب، وأداء الشهادة، والخطبة.. إلا أن ذلك مقيد بالحد المحتاج إليه للضرورة، فلا يزاد عليها. ولا يباح للإنسان أن يكشف للطبيب عن أكثر من العضو المريض الذي يحتاج إلى العلاج، فلو كشف عن أكثر منه لغير حاجة أثم، وأخل بواجب الستر. وكذلك القاضي؛ لا يجوز للمرأة الشاهدة أمامه في دعوى أن تكشف له عن أكثر من الوجه، لأنه غير محتاج إليه، فلو كشفت مع الوجه النحر والشعر... لغير ضرورة أثمت([12])، والخاطب أيضاً لا تكشف الخطيبة له عن أكثر من الوجه والكفين في قول الجمهور، فلو كشفت له عن شعرها أو نحرها أو ساقها ـ كما يحصل في بعض الأسر ـ أثمت. ثم إن الخطيبة لا يباح لها أن تكشف لخاطبها عن وجهها وكفيها أكثر من مرة واحدة إذا تأدت بها الغاية، وإلا كشفت له عن ذلك ثانية، وربما ثالثة أيضاً، بشرط أن لا يزيد ذلك عن حدود الحاجة، فإذا كشفت له ذلك بعد انقضاء الحاجة، أثمت.
2ـ المَحرميَّة على التأبيد:
والمحارم على التأبيد هم الأقرباء الذين لا يجوز الزواج منهم أبداً، سواء أكان ذلك من نسب، أو رضاع، أو مصاهرة، وهم أصناف ثمانية هي:
أ ـ الأصول: وهم الآباء والأمهات، والأجداد والجدات، من قبل الأب أو من قبل الأم، وإن علوا مطلقاً.
ب ـ الفروع: وهم الأبناء والبنات، وأبناؤهم وبناتهم، وإن نزلوا مطلقاً.
جـ ـ فروع الأب والأم: وهم الأخوة والأخوات لأبوين، أو لأب، أو لأم، وأبناؤهم ذكوراً وإناثاً وإن نزلوا.
د ـ الفرع الأول للجد عصبياً كان أم رحمياً: وهم الأعمام والعمات مطلقاً أشقاء كانوا أم لأب أم لأم، والأخوال والخالات مطلقاً أيضاً لأبوين كانوا أم لأب أم لأم. دون أبنائهم ومن بعدهم، فإنهم ليسوا من المحارم، ويجوز الزواج منهم.
هـ ـ أصول الزوجة ولو لم يدخل بها: كأمها، وجدتها، وجدة أمها، وجدة أبيها، وإن علوا... وكذلك أصول المدخول بها مطلقاً، بعقد أو غير عقد عند الجمهور.
و ـ فروع الزوجة المدخول بها: كبناتها وبناتهن وبنات أبنائها وإن نزلن، دون فروع الزوجة غير المدخول بها.
ز ـ أصول الزوج: كأبيه وجده لأبيه أو لأمه وإن علا، ولو لم يدخل الزوج بها.
ح ـ فروع الزوج: كابنه وابن ابنه وابن بنته وإن نزل، ولو لم يدخل الزوج بها.
هذا ويلحق بهؤلاء في التحريم من كان منهم رضاعاً لا نسباً، كالابن رضاعاً، وأم الزوجة من الرضاع... لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم من الرضاع ما حرم من النسب) أخرجه الترمذي وصححه، وفي رواية للبخاري ومسلم: (يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة) ([13])، فيصبح المحارم بذلك ستة عشر صنفاً، ثمانية منهم من النسب، وثمانية من الرضاعة. وقد جمع القرآن الكريم هؤلاء المحارم جميعاً في قوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً}([14])، وقوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاء سَبِيلاً}([15]).
إلا أنه لا يباح أمام هؤلاء كشف العورة كلها، ولكن القدر الذي لا تحصل به الفتنة غالباً لا غير، فتكشف المرأة من عورتها أمام محارمها من الرجال فوق قول الأكثر، جوازاً لا وجوباً: الرأس، والعنق، والعضدين، والصدر، والساقين فقط، أما ما دون ذلك من البطن، والظهر، والسوأتين، والفخذين، فممنوع كشفها أمام المحارم مطلقاً، خُشِيَت الفتنة أم لا على سواء([16]).
ثم إن ما جاز كشفه من عورة المرأة أمام المحارم مشروط له أمن الفتنة، فإذا خشيت الفتنة لفرط جمال، أو سوء أخلاق، ـ وبخاصة من كانت قرابتهم من الرضاعة أو المصاهرة ـ وجب الستر لكل العورة أمامهم ومنع كشف شيء منها لخشية الفتنة، ذلك أن المظنون في المحارم عدم الفتنة، فجاز الكشف في حدود ما تقدم لذلك، فإذا خشيت الفتنة زال المبيح ووجب الستر.
أما الرجل فلا يكشف من عورته أمام محارمه أو غيرهن من النساء أو الرجال الآخرين مطلقاً، فإذا فعل أثم، ومنه يعلم حرمة كشف عورات الشباب في المسابح العامة والحمامات أو غيرها، مما يظن الجهال إباحته.
3ـ الزوجية:
وهي العقد الصحيح المستوفي لكل شروطه وأركانه، فإذا كان العقد فاسداً أو باطلاً لم يترتب عليه حل النظر والكشف مطلقاً.
ثم إن للزوج أن ينظر من زوجته إلى كل أعضائها مطلقاً، وللزوجة أن تنظر من زوجها مثل ذلك، وقال بعض الفقهاء: من الأدب أن يغض كل منهما النظر عن سوأة الآخر، تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم ، فقد روي عن عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها أنها قالت: (ما رأيت منه ولا رأي مني). وقال البعض لا بأس بالنظر إلى ذلك، بل هو الأولى لأنه أعف وأحصن.
فأما نظر الإنسان إلى عورة نفسه، فإن كان إلى ما فوق العورة المغلظة (السوأتين) فلا مانع منه، وإن كان إلى السوأتين، فإن لحاجة التنظيف أو التطبيب... جاز وإلا كره تنزيهاً، لأنه خلاف الأدب، وقيل إنه يورث النسيان.
4ـ نظر المرأة للمرأة:
فإنه يحل للمرأة أن تنظر إلى عورة المرأة الأخرى الأجنبية عنها، إلا أن ذلك مقيد بشرطين اثنين هما:
أ ـ أن تكون المرأة الناظرة مسلم، فإن كان كافرة كالمسيحية واليهودية والمجوسية والملحدة... كانت كالرجل الأجنبي في حقها ووجب ستر عورتها منها، وهو قول الأكثر من الفقهاء، وذهب البعض منهم إلى أنها كالمحارم من الرجال في حقها، وذهب آخرون إلى أنها تنظر منها ما يبدو في العادة فقط كالرأس والساعدين، والأول هو الأصح والأشهر لدى الفقهاء.
ب ـ أن حل النظر والكشف هذا محدود بما فوق السرة وما تحت الركبة فقط، أما ما بينهما فممنوع على المرأة أن تكشفه لغير الزوج مطلقاً، سواء أكان ذلك الغير امرأة أم رجلاً، محرماً أم غير محرم...
أما الرجل مع الرجل فحكمه كحكم الرجل مع المرأة تماماً، فلا يكشف له عن شيء من عورته مطلقاً.
حكم ستر ما زاد عن العورة في الرجل والمرأة:
تقدم حكم ستر العورة في الرجل والمرأة، فأما ما ليس بعورة منهما فحكمه كالآتي:
أ ـ ما زاد عن عورة الرجل، وهو ما فوق السرة وما تحت الركبة، لم يلزم ستره عند أكثر العلماء إلا في الصلاة، فقد ذهب الحنبلية إلى كراهة كشف الصدر والظهر في الصلاة للرجل لأنه خلاف الزينة المأمور بها في قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ}([17])، وذهب الحنفية إلى كراهة الصلاة في ثوب واحد كالسراويل لأن فيه ترك الزينة أيضاً، أما الشافعية فقد استحبوا الصلاة مع تغطية المنكبين أو أحدهما. وقد روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يصلين أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء) رواه البخاري ومسلم وأحمد، وفي رواية أخرى لأبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من صلى في ثوب واحد فليخالف بطرفيه) رواه البخاري وأحمد وأبو داود([18]).
أما خارج الصلاة فلا مانع من كشف ما زاد عن العورة من الرجل بشرط عدم الفتنة، فإذا خشيت الفتنة وجب عليه الستر لذلك بمقداره، فقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه سمع امرأة تنشد بيتاً من الشعر تشبب فيه بأحد الشباب، فسأل عمر عن الشاب فأتي به فإذا هو وسيم أشد الوسامة، فأمره بالحجاب. إلا أن ذلك نادر، ولذلك كان الأصل جواز كشف ما زاد عن العورة من الرجل.
ب ـ أما ما زاد عن عورة المرأة وهو الوجه والكفان والقدمان، ففي الصلاة لا يجب ستره بالاتفاق لدى الجمهور، أما خارج الصلاة، فإن كان أمام الزوج والمحارم والنساء المسلمات لم يجب ستره أيضاً لجواز كشف بعض العورة أمامهم كما تقدم، وإن كان أمام غيرهم من الأجانب ومن في حكمهم لم يجز الكشف إلاّ إذا أمنت الفتنة، فإن غالب حال المرأة أن الفتنة في وجهها وكفيها وقدميها، لأن ذلك موضع الزينة منها، فإذا أمنت الفتنة بقطع أو بظنّ جاز الكشف، وذلك لقوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ...}([19]) فإن المراد بذلك مواضع الزينة وهي الكفان والوجه والقدمان لدى جمهور العلماء.
وتفريعاً على ذلك فقد منع الفقهاء كشف ذلك ـ الوجه والكفين والقدمين ـ من الشابة، وسيمة كانت أم غير وسيمة، أما العجوز التي لا رغبة فيها لأحد، أو الشوهاء التي تنفر الطباع منها فلا مانع من كشف ذلك منها لعدم الفتنة، وذلك لقوله تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}([20])، فإذا تحققت الفتنة في العجوز والشوهاء لمعنى خاص، كفرط شبق، أو سوء خلق، أو شدة جمال.. حرم الكشف أيضاً، وقد نص على ذلك صاحب الدر المختار فقال: (وتمنع المرأة الشابة من كشف الوجه بين رجال، لا لأنه عورة بل لخوف الفتنة)([21]).
كما نص عليه النووي في المنهاج فقال: (ويحرم نظر فحل بالغ إلى عورة حرة كبيرة أجنبية، وكذا وجهها وكفيها عند خوف فتنة، وكذا عند الأمن على الصحيح)([22])، وقد علق الشربيني على ذلك فقال: (وجّهه الإمام باتفاق المسلمين على منع النساء من الخروج سافرات الوجوه، وبأن النظر مظنة الفتنة ومحرك الشهوة)([23]). وقال الإمام السبكي من الشافعية: (إن الأقرب إلى صنع الأصحاب أن وجهها وكفيها عورة في النظر لا في الصلاة)([24]) وقال ابن قدامة في المغني: فأما نظر الرجل إلى الأجنبية من غير سبب فإنه محرم إلى جميعها في ظاهر كلام أحمد، قال أحمد: لا يأكل مع مطلقته، هو أجنبي لا يحل له أن ينظر إليها، كيف يأكل معها ينظر إلى كفيها؟ لا يحل له ذلك)([25]).
فأما كشف الوجه والكفين والقدمين من المرأة أمام نفسها أو أمام النساء الأخريات المسلمات، أو أمام المحارم، أو الزوج، فمباح كما تقدم، بل إن أكثر منه مباح أيضاً. وأما النساء الكافرات فقد تقدم أن الأصح وجوب ستر ذلك أمامهن لأنهن غير مأمونات على وصف المرأة للرجال الأجانب، أما المرأة المسلمة، فمأمونة على ذلك لحرمة الوصف هذا، فما بالك اليوم بالنساء المسلمات وقد استسغن وصف المرأة للأجانب، أيجب الحجاب أمامهن؟ نص بعض الفقهاء على ذلك.
حدود الحجاب الشرعي وصفته وشروطه:
أريد بالحجاب هنا ما يستر عورة الرجل والمرأة، بل وما يستر ما فوق العورة أيضاً في حدود ما تقدم.
ولو تصفحنا كتب الفقه وكتب السنة الشريفة لتلمس معالم الحجاب وصفاته وشروطه، لوجدنا شروطاً عامة لا بد من توافرها فيه، أما ما عداها فمتروك للأعراف والعادات دون تحديد، وهذه الشروط العامة هي:
أ ـ أن يكون الحجاب ساتراً لكل ما وجب ستره من البدن، ففي الرجل ما بين السرة والركبة، وفي المرأة جميع بدنها حتى الوجه والكفين والقدمين إذا كانت شابة، وإلا جاز لها كشف الوجه والكفين عند أمن الفتنة وإن كان الستر أولى لها ـ كما تقدم ـ. فإذا ارتدى الرجل أو المرأة ما لا يستر ذلك من جسمه من الملابس لم يكن محتجباً، ولا مستتراً، وكان آثماً.
ب ـ أن يكون صفيقاً ـ سميكاً ـ لا يشف عن العورة، فإذا كان رقيقاً يشف عنها ويبين لونها لم يكن حجاباً أصلاً وكأنه لم يكن، لأن الغاية من الحجاب هي حجب محل الفتنة به، وهذا لم يحصل به ذلك. ومنه ما يعتاده بعض نساء العصر من اتخاذ غطاء للوجه أسود شفاف، فإنه ليس بحجاب أصلاً، وذلك لما رواه أبو هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها النساء، ونساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا) رواه مسلم([26]).
جـ ـ أن يكون فضفاضاً لا يصف العورة، فإذا كان ضيقاً يبيّن شكل العورة منع منه، لكنه دون اللباس الشفاف في الإثم، وقد نص الفقهاء على بطلان الصلاة بالساتر الشفاف، أما الساتر الضيق فتصح الصلاة به مع الكراهة، ومن الألبسة الضيقة الآن السراويل الحديثة الضيقة للرجال والنساء، فإن الصلاة فيها مكروهة وستر العورة بها ممنوع.
د ـ أن لا يكون في الحجاب سرف وخيلاء، وهو أمر منوط بالعادة والعرف، فما يكون سرفاً في بلد أو شخص ربما لا يكون سرفاً في بلد آخر أو في حق شخص آخر، فالقماش النفيس في حق الأغنياء ليس سرفاً، وفي حق الفقهاء سرف، إلا أن لذلك على كل حال حداً لا يجوز تجاوزه وإلا كان فيه خيلاء وتكبر وهو ممنوع، فالقميصان والثلاثة والأربعة ليست سرفاً في حق بعض الناس، وهي سرف في حق غيرهم، إلا أن السبعة والثمانية سرف في حق الجميع... قال تعالى: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}([27]). وقال سبحانه: {وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً}([28]).
هـ ـ أن لا يكون ما يحتجب به زياً خاصاً لغير المسلمين، فإن كان كذلك كره إن كان لباساً عادياً لعامتهم، فإن كان لباساً لرجال الدين عندهم، كلباس القساوسة والرهبان والراهبات، حرم وخشي على لابسه الكفر بالله تعالى، وذلك لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن التشبه بغير المسلمين لما فيه من تخل عن الشخصية الإسلامية وانسياق وراء الغير، ومن انساق في قليل انساق في كثير بعد ذلك، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (من تشبه بقوم فهو منهم) رواه أحمد وأبو داود والطبراني في الكبير، وقال العراقي: سنده صحيح وله شاهد([29]) بل إننا أمرنا بمخالفتهم، فقد روى أبو هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم) ([30]).
و ـ أن لا يكون في حجاب المرأة ما يشبه لباس الرجال، ولا في ساتر عورة الرجال ما يشبه لباس النساء. وذلك من حيث اللون والشكل وطريقة الخياطة... لحديث ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال) رواه البخاري، وفي رواية لأبي هريرة: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يلبس لبسة المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل) رواه أبو داود بإسناد صحيح([31])، وهذا أمر متغير بتغير العادات والأعراف وليس فيه حد مقدر.
ز ـ أن لا يكون فيه ما يلفت أنظار الآخرين، من لون فاقع، أو زركشة، أو تخريم، أو طريقة خياطة... ذلك أن الحجاب إنما هو ساتر وصارف للنظر وليس ملفتاً له، وهذا أمر يرجع للعرف والعادة أيضاً، ولا يمكن القطع فيه بقول محدد مسبقاً.
خاتمة:
قدمنا فيما سبق أحكام الحجاب وأحواله وشروطه لدى جمهور الفقهاء، ومنه نستخلص ما يأتي:
1ـ ستر العورة واجب على الرجل والمرأة على سواء، ولا يباح كشفهما أو كشف جزء منهما إلا للإنسان نفسه، أو زوجه، أو لضرورة بحدودها الشرعية المعروفة في كتب أصول الفقه. كما يجوز للمرأة كشف ما دون الصدر إلى الركبة للمحرم والمرأة عند أمن الفتنة.
2ـ بالنسبة للمرأة يجب عليها ستر ما زاد عن العورة أمام الأجانب إلا أن تكون عجوزاً أو شوهاء، وبه بطل ما يتناقله العامة من أن الحجاب الشرعي مأذون فيه بكشف الوجه واليدين مطلقاً، فإنه باطل عند جماهير أهل العلم.
3ـ يجب أن يكون الساتر صفيقاً عريضاً لا يلفت النظر بأناقته وجماله وألوانه.
4ـ الحجاب للمرأة إنما شرع لتكريمها وصونها من النظرات العابثة اللاهية، والارتفاع بها عن مستوى الفاجرات المتهتكات، وذلك مصداقاً لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ}([32]). أي يعرفن بالعفة فلا يختلطن بالفاجرات الفاسقات فلا يؤذيهن من يريد الفاحشة من أولئك فيخطئ فيهن.
ولم يكن الحجاب لتكبيل المرأة وإعاقتها عن المشاركة في خدمة المجتمع، فإن العمل مطلقاً حق للمرأة مثلما هو حق للرجل، وليس الحجاب بعائق عنه أصلاً، فإن بيت المرأة متسع لأعمال كثيرة تستطيع من خلالها أن تمارسها وتخدم المجتمع بها، وناهيك عن تربية النشء وحسن تأديبهم وصونهم عن الفساد عملاً هو من أجل الأعمال وأكثرها نفعاً وأجراً، هذا إذا أرادت خدمة المجتمع فعلاً، فإن أرادت التباهي والتفاخر والظهور وإثبات الذات ولو كان ذلك على حساب مصلحة المجتمع العامة وأخلاقه ومُثله، فإن منعها من ذلك أمر ضروري درءاً لخطر مستطير وضرر كبير.
5ـ الأصل في المرأة أن تقر في بيتها ولا تخرج منه إلا لمصلحة غالبة، فإذا خرجت لمثل تلك المصلحة كانت محتجبة بكل جسمها عن النظرات العابثة، ولا يجوز لها أن تخرج من بيتها لغير مصلحة غالبة وإن كان ذلك بالحجاب الشرعي الكامل، ذلك أن في خروج المرأة من بيتها فتنة مطلقاً فلا يباح لها الخروج لذلك إلا لمصلحة غالبة. وفي ذلك بيان لأولئك الجاهلات اللواتي يطفن بالشوارع ليل نهار يزعمن القيام بواجبات دينية أو اجتماعية يؤجرن عليها، ويزعمن أن لا غبار على خروجهن هذا لأنهن يتخفين بالحجاب الشرعي، وقد نسين قول الله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ}، كما نسين أن في قرار المرأة في بيتها أجراً يعادل أجر المجاهدين في سبيل الله تعالى، ونسين أن في خروجهن بحجاب أو غير حجاب إثارة للفتنة وتحريك الشهوة. فهل من مدّكر؟
6ـ لقد أمر الشارع الإسلامي بالحجاب درءاً للفتنة، لكنه لم يكتف بذلك فقط بل حض إلى جانب ذلك على غض البصر وحفظه في أكثر من آية كريمة، فمن ذلك قوله تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}([33]) بل إن غض البصر هذا كان من شيمة العرب قبل الإسلام، فهذا عنترة العبسي الجاهلي يقول:
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي |
|
حتى يواري جارتي مأواها |
وإن غض البصر هذا مجلبة لرحمة الله تعالى ورضوانه ومدفعة لكل الشرور والآثام، وما وصل إليه مجتمعنا من الانحلال اليوم كان بسبب إهمال هذا الحكم وعدم التقيد به، وقد روي أن الإمام الشافعي ـ رضي الله تعالى عنه ـ كان شديد الذكاء والفطنة، ومرة حصل له ضعف في ذكائه وفطنته فشكا ذلك إلى شيخه وكيع، فسأله: ماذا فعلت من المعاصي يا بني؟ فقال: نظرت إلى ساعد امرأة، فقال له: تب من ذنبك هذا ولا تعد إليه بعد الآن، فتاب الشافعي فعاد إليه ذكاؤه وفطنته، فأنشد في ذلك هذين البيتين:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي |
|
فأرشدني إلى ترك المعاصي |