نظرية الرضاع المُحَرِّم
تمهيد:
شرع الله تعالى الزواج بين الجنسين الذكر والأنثى ليتم به بناء الأسرة، التي هي اللبنة الأولى لبناء المجتمع الكبير، وأقام هذا الزواج على أسس سليمة، تضمن سلامة تلك اللبنات، فجعل للزواج شروطاً وأركاناً وأحكاماً، غايتها جميعاً تقوية الزواج، وتوجيهه الوجهة السليمة المحكمة، نحو الغاية التي شُرع من أجلها، وهي بناء الأسرة عماد المجتمع.
ومن شروط الزواج في الشريعة الإسلامية، انتفاء المَحْرَمية بين الزوج والزوجة، فلا يحل لرجل أن يتزوج بأمه أو أخته أو ابنته أو ابنة أخته... وذلك خلافاً لبعض التشريعات والتنظيمات الأخرى كاليهودية مثلاً، فإنها تبيح الزواج ببنت الأخ، وبنت الأخت. وكذلك بعض الشرائع المصرية القديمة، حيث تبيح الزواج ببعض المحارم.
وللمحرمية في الشريعة الإسلامية أسباب ثلاثة هي: القرابة، والمصاهرة، والرضاع. ولكل سبب من هذه الأسباب حدود خاصة وأحكام محددة.
وإننا في هذا البحث سوف ندرس التحريم بالرضاع، مبينين أحكامه وشروطه وآثاره، بما يجليه في ثوب نظرية متكاملة متتامة.
تعريف الرضاع لغة وشرعاً:
الرضاع في اللغة مص الثدي، وهو من باب علم في لغة تهامة، ومن باب ضرب في لغة نجد، وقريش ترى اللغتين معاً. وجاء في المصباح المنير خلاف ذلك، حيث قال: (من باب تعب في لغة نجد.. ومن باب ضرب لغة لأهل تهامة، وأهل مكة يتكلمون بها).
وجاء الرضاع من باب كرم، كما يأتي من باب فتح كذلك. والمصدر منه الرَِّضاع بالفتح والكسر، والرَّضاعة بفتح الراء. والمرأة مرضع. قال الفرَّاء وجماعة: إن قصد حقيقة الوصف بالإرضاع فمرضع بغير هاء، وإن قصد مجاز الوصف بمعنى أنها محل الإرضاع فيما كان أو سيكون فبالهاء، وعليه قوله تعالى: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ}([1]).
أما الرضاع في الشرع:
فهو عند الحنفية([2]): (مص ثدي آدمية في وقت مخصوص)، وقد ألحق الوجور والسعوط بالمص، قياساً عليه.
وعند المالكية([3]): (وصول لبن آدمي لمحل لمظنة غذاء آخر من منفذ واسع)، فدخل في الرضاع لذلك الحقنة، وخرج عنه الصب في الأذن والعين.
وعند الشافعية([4]): اسم لحصول اللبن من امرأة في معدة طفل أو دماغه)، وبذلك يكون السعوط والوجور من الرضاع في الأصل، دون حاجة لقياسهما عليه.
وذهب بعض الحنبلية([5]) إلى الرضاع هو: (مص لبن أو شربه ونحوه، ثاب من حمل من ثدي امرأة)، فخرج بذلك المص أو الشرب ممن لم يثب لبنها من حمل من الرضاع.
حكم الرّضاع:
للرّضاع أحكام متعددة كثيرة أهمها:
1ـ أنه واجب على الأم ديانة، ولا يجب قضاء عليها إلا إذا تعينت فلم يقبل ثدي غيرها، أو كان الأب فقيراً غير قادر على أجرة الرضاع لابنه، وهذا الحكم محله باب النفقة، ولهذا فإننا لن نبحث فيه، ونتركه لمظانه.
2ـ يحرم على المرضع إرضاع الطفل بعد اكتمال سن الرضاعة، واستغناء الطفل عنه، كما هو محرم على غير الطفل، لما فيه من استعمال جزء الآدمي لغير ضرورة. وهذا الحكم محله باب الحظر والإباحة من كتب الفقه، ولذلك فإننا نحيل عليه.
3ـ إنه مثبت للحرمة بين الرضيع والمرضع ومحارمها، وهذا البحث أساس بحثنا هذا,ولذلك فإننا سوف نستعرض فيه التفصيلات والأدلة بما يجليه.
فقد اتفق الفقهاء على أن الرضاع مثبت للحرمة، وإنه سبب من أسبابها كالنسب والمصاهرة، إذا استجمع أركانه وشروطه، وهذه الأركان والشروط بعضها اتفق الفقهاء فيه، وبعضها اختلفوا فيه، وسوف نفصله.
والدليل على التحريم بالرضاع آيات كريمة وأحاديث شريفة كثيرة سوف يرد جلها في أثناء البحث في شروط الرضاع، منها قوله صلى الله عليه وسلم: (يحرم من الرّضاعة ما يحرم من النسب( وقوله: (يحرم من الرَّضاعة ما يحرم من الرحم(([6])، وقوله: (ما حرَّمته الولادة حرَّمه الرضاع(([7]).
ولهذا فقد قاس الفقهاء تفصيل أحكام التحريم بالرضاع على أحكام التحريم بالنسب التي جاءت مفصلة في القرآن الكريم في أكثر من آية شريفة، منها قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً}([8]).
وقد استثنى العلماء بعض حالات من التحريم بالرضاع وهي محرمة بالنسب، وقد أوصلها بعض الحنفية إلى إحدى وعشرين صورة مستثناة، وجمع بعضهم أصول هذه الصور في بيتين من الشعر قال فيهما:
يفارق النسب الإرضاع في صور |
|
كأم نافلة أو جدة الولد |
والتحقيق أن هذه الصور ليست مستثناة من القياس على النسب، لكنها افتقدت شرط التحريم بالنسب، من ذلك على سبيل المثال: أن يكون لإنسان ابن ابن نسبي له أم من الرضاع، فإن هذه الأم تحل للجد هذا، مع أن أم الابن النسبية لا تحل له، فهي مستثناة لذلك ـ على قول من قال بالاستثناء ـ والواقع أن لا استثناء، ولكن سبب تحريم أم ابن الابن النسبية أنها زوجة الابن وهي محرمة بنص الكتاب كما تقدم، وهذه ليست كذلك، فافتقد سبب التحريم، فلم تحرم لذلك على القاعدة. ويقاس على ذلك كل الصور التي ظن أنها مستثناة.
أركان الرضاع وشروطه:
للرضاع أركان ثلاثة هي: المرضع، واللبن، والرضيع، ولكل ركن من أركان الرضاع هذه شروط لا قوام للرضاع بدونها، وهذه الشروط اتفق الفقهاء في بعضها واختلفوا في بعضها الآخر، كما جرت الإشارة إليه، وذلك على النحو التالي:
1ـ شروط المرضع:
يشترط في المرضع ليكون لبنها محرماً شروط هي:
أ ـ أن تكون آدمية أنثى: وهذا الشرط محل اتفاق الفقهاء، ولهذا فإن لبن البهيمة غير محرم، وكذلك لبن الجنّية، ولبن الرجل، أما لبن الخنثى المشكل؛ فقد ذهب المالكية في الظاهر من مذهبهم إلى أنه يحرم احتياطاً، وذهب الحنبلية إلى أنه لا يحرم، لأن الأصل الحل فلا يرتفع بالشك.
أما الشافعية فقد ذهبوا إلى التوقف فيه إلى أن يتبين أمره، فإن مات ولم يظهر أمره لم يحرم.
ب ـ أن تكون حية: فلو كانت ميتة ورضع منها صبي لم يحرم ذلك عند الشافعية والجعفرية، فإذا كانت محتضرة لم يحرم لبنها أيضاً، إذا كانت حياتها كحياة المذبوح، وإلا حرم.
وذهب جمهور الفقهاء إلى أن المرضع الحية والميتة سواء في التحريم ما دام الرضيع قد رضع منها لبناً، فلو شك في أنه لبن، فكذلك احتياطاً، بخلاف ما لو شك في وجود اللبن في ثديها، فإنه يمنع التحريم، لأن الرضاع لا يسمى كذلك ما لم يعلم منه وصول اللبن إلى الجوف، والشك ينافي العلم بذلك، فينتفي الرضاع معه، وفي قول للشافعية: إن لبن الميتة يحرم أيضاً كمذهب الجمهور.
جـ ـ أن تكون من أهل الحمل: وذلك بأن تبلغ سن التاسعة، إذ الحمل لا يتصور منها قبل ذلك، واللبن لا يتصور نزوله ممن لم تبلغ سن الحمل.
وقد ذهب على اشتراط هذا الشرط الحنفية والشافعية، أما المالكية فلم يشترطوا شيئاً من ذلك مطلقاً. وذهب الحنبلية في قول غير مصحح إلى أبعد من اشتراط أهليتها للحمل فقالوا: يشترط للتحريم أن يكون اللبن ناشئاً من حمل فعلاً. فلو كانت يائسة أو عجوزاً ولم يكن لبنها ناشئاً من حمل سابق، فإن الرضاع منها لا يحرم، إلا أن الأصح عندهم أنه يحرم ولو كانت بكراً، موافقين بذلك مذهب الجمهور.
د ـ أن تكون ثيباً، فلو كانت بكراً لم يحرّم إرضاعها وذلك عند الحنبلية والشافعية على رواية غير مصححة، وذهب الجمهور وفيهم الشافعية والحنبلية في الصحيح عندهما إلى أن لبن البكر محرم أيضاً إذا كان له صفات اللبن، فإذا كان شيئاً أصفر لم يحرم، لأنه ليس لبناً، بخلاف الثيب، فإن الخارج من ثديها محرم ولو كان ماء أصفر، لأنه لبن تغير لونه بدليل الاستصحاب.
وذهب الجعفرية إلى أن اللبن لا يحرم ما لم يكن عن نكاح صحيح، أو فاسد، أو وطء بشبهة، فلو در لبن المرأة لا عن سبب، أو كان عن زنا، فإنه لا يحرم.
2ـ شروط الرضيع:
يشترط للتحريم في الرضيع شرطان هما:
1ـ أن يكون حياً: وذلك لأن الميت فاقد الأهلية مطلقاً، فلا تتعلق به الأحكام. وذلك بإجماع الفقهاء دون خلاف.
2ـ أن يكون في سن الرضاعة: وقد اختلف الفقهاء في تقدير سن الرضاعة على أقوال:
فذهب الجمهور إلى أنها سنتان قمريتان، وذلك استدلالاً بقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ}([10]) وقوله تعالى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} ([11])، وقوله جل من قائل: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً}([12])، فإذا نزل منها ستة أشهر هي أدنى مدة الحمل بالإجماع، بقي سنتان للرضاعة.
وذهب أبو حنيفة إلى أن التحريم بالرضاع يمتد إلى سنتين ونصف، وذلك لأن قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً} يحتمل أن يكون ذلك لكل من الحمل والفصال، وقد زال الاحتمال عن الحمل بقول عائشة رضي الله تعالى عنها ما تزيد المرأة في الحمل على سنتين قدر ما يتحول ظل عمود المغزل([13]) فبقي الرضاع على الاحتمال. ثم إن الطفل قد يحتاج للتحول عن اللبن إلى الطعام ستة أشهر.
وذهب زفر إلى أن مدة الرضاع المحرِّم ثلاث سنين، لأن فترة التحول عن اللبن إلى الطعام عند الصبي قد تستغرق سنة. وقد قال الكمال بن الهمام تعليقاً على قول زفر هذا: [وذلك حسن، لأن السنة تضم الفصول الأربعة]([14]).
وذهب مالك إلى أن التحريم يمتد إلى سنتين وشهرين ذلك أن الشهرين قد يحتاج إليهما غالباً للتحول عن اللبن إلى الطعام.
وقد اشترط المالكية للتحريم، أن لا يكون الولد قد فصل عن اللبن بالفطام في تلك المدة، فإن فصل عنها واستغنى بالطعام ثم رضع بعد ذلك، فإنه لا يحرم، ولو كان ذلك دون السنتين. وقد نص على ذلك خليل في مختصره فقال: [محرم إن حصل في الحولين أو بزيادة شهرين إلا أن يستغني ولو فيهما]([15]).
وقد روي عن بعض الفقهاء أن التحريم يمتد إلى سن الخامسة عشرة، كما نقل عن بعضهم مدُّه إلى أربعين سنة.
وقد روي عن السيدة عائشة ـ رضي الله تعالى عنها أن الرضاع يحرم في الصغير والكبير على سواء.
وقد احتجت السيدة عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ فيما روي عنها لقولها بإطلاق قوله تعالى: { وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ}([16]) من غير فصل بين حال الصغر وحال الكبر.
كما استدلت بما روي من أن أبا حذيفة تبنى سالماً، وكان يدخل على امرأته سهلة بنت سهيل، فلما نزلت آية الحجاب أتت سهلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله قد كنا نرى سالماً ولداً، وكان يدخل عليّ، وليس لنا إلا بيت واحد، فماذا ترى في شأنه؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرضعيه خمس رضعات ثم يدخل عليك( وكان سالم كبيراً([17]). فدل على أن الرضاع في حالتي الصغر والكبر محرم. وقد روي عن عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ الأخذ بهذا الحديث بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، حتى روي عنها أنها كانت إذا أرادت أن يدخل عليها أحد من الرجال أمرت أختها أم كلثوم بنت أبي بكر ـ رضي الله تعالى عنهما ـ وبنات أخيها عبد الرحمن أن يرضعنه. فدل ذلك على أنه غير منسوخ.
إلا أنه يجاب عن حديث سالم المتقدم بوجهين:
أ ـ أن الحديث منسوخ، وأن عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ لم تعلم بنسخه. هذا وقد روي عن عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ ما يدل على رجوعها عنه، فإنه روي أنها قالت: (لا يحرم من الرضاع إلا ما أنبت اللحم والدم( وروي أنها كانت تأمر بنت أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ـ رضي الله تعالى عنهم ـ أن ترضع الصبيان حتى يدخلوا عليها إذا صاروا رجالاً([18]).
على أن عمل عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ معارض بعمل سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فإنهن كن لا يرين أن يدخل عليهن بتلك الرضاعة أحد من الرجال، والمعارض لا يكون حجة.
ب ـ أن حديث سالم خاص به فلا يتعداه إلى غيره، وذلك لما لهذا الحديث من أحاديث كثيرة معارضة.
وبذلك يتحقق الاتفاق على عدم التحريم بما فوق ثلاث سنين، على أن الجمهور يخصون التحريم بسنتين فقط ـ كما تقدم ـ.
3ـ شروط اللبن:
ويشترط في اللبن للتحريم به شروط، هي:
أ ـ أن يكون مائعاً، بحيث يصح أن يقال فيه إن الصبي قد رضعه، وهذا مذهب الحنفية. وذهب الجمهور ـ وفيهم الشافعية والمالكية في الأظهر والحنبلية، إلى أنه يحرّم سائلاً كان أم غير سائل. كأن يصنع منه جبن أو قشد فيأكله الطفل، فإنه يحرم. لأن المعنى هو التغذي به، وهو حاصل بهذا كما هو حاصل باللبن السائل.
واحتج الحنفية بأن المحرم هو الرضاع كما ورد في النص، وأكل الجبن والقشد ليس رضاعاً عرفاً ولا شرعاً ولا لغة فلا يحرم لذلك.
وإنني أرى هنا رجاحة رأي الجمهور، لأن العبرة بالمعنى وليس بالشكل، والمعنى هنا هو إنبات اللحم وإنشاز العظم، وهو حاصل به كما هو حاصل بمص اللبن السائل، فيستويان في التحريم لذلك.
ب ـ أن لا يكون اللبن مغلوباً بغيره، فلو خلط لبن المرأة بطعام أو شراب أو دواء، فإن كان اللبن غالباً أو مساوياً حرَّم، وإن كان مغلوباً بحيث لم يعد يظهر شيء من صفاته لم يحرم، سواء أشرب الولد المزيج كله أو بعضه، لأن المغلوب في حكم المعدوم. وهذا عند الجمهور.
وذهب الشافعية في الأظهر إلى أن المخلوط يُحرم ولو كان اللبن فيه مغلوباً، هذا إذا شربه الطفل كله، أو ترك منه جزءاً أقل من اللبن، لأنه عندئذ يقطع بوصول شيء من اللبن إلى جوف الطفل. فإن بقي جزء من الخليط مثل اللبن أو أكثر منه لم يحرم في الأصح، لعدم الجزم بوصول جزء من اللبن إلى جوف الطفل.
وإنني أرى وجاهة مذهب الشافعية هذا، للتيقن بوصول جزء من اللبن إلى جوف الطفل، ولا يضر بعد ذلك أن يكون مخلوطاً بغيره أو لا، لأن اللبن في هذه الحال يحصل به إنبات اللحم وإنشاز العظم في الحالين. وما الفرق بين لبن خلط بماء حتى أصبح مغلوباً ثم أوجر به الطفل، وبين إيجاره بلبن ثم إتباعه بماء لو خلط به اللبن قبل الإيجار كان اللبن مغلوباً به، والجمهور في المسألة الأخيرة على التحريم، فكذلك في الأولى عندي.
وقد ذهب الحنفية إلى أن اللبن المخلوط بجامد لا يحرم وإن كان اللبن هو الغالب، لأنه في هذه الحال لا يسمى رضاعاً، وهذا قول أبي حنيفة، وذهب الصاحبان إلى التحريم به ما لم يطبخ المزيج على النار.
وكذلك اللبن المخلوط بمائع مسَّته النار ـ عند الحنفية ـ فهو كالمطبوخ، لا يحرم أيضاً ولو كان غالباً.
ثم الغلبة تكون بظهور الصفات وخفائها، لا بالحجم أو الوزن، كما قد يتبادر إلى الذهن.
فإذا خلط لبن امرأة بلبن امرأة أخرى حرم الراضع منه عليهما معاً مطلقاً، سواء أكان لبناهما متساويين أم لا. هذا إذا شربه الطفل كله، فإذا ترك جزءاً منه يساوي أو يزيد على المغلوب من لبنهما فإنه يحرم على ذات اللبن الغالب منهما فقط، لعدم التيقن بوصول شيء من لبن ذات اللبن المغلوب منهما إلى جوفه. وقد ذهب إلى هذا الشافعية، وكذلك الحنفية والمالكية في المفتى به عندهم. وفي قول ثان لهم إن ذات اللبن المغلوب لا تثبت حرمتها من الرضيع مطلقاً سواء أشربه كله أم لا.
هذا ويشترط المالكية في اللبن المحرِّم أن يكون أبيض اللون، سواء أكانت المرضع ثيباً أم بكراً، فإن كان ماء أصفر أو أحمر لم يحرم، ولا يضر التغير البسيط في اللبن، سواء أكان التغير في اللون أو الريح، ما دام الغالب عليه صفات اللبن.
وذهب الحنفية إلى أن المرضع إن كانت بكراً فإنه يشترط أن يكون لبنها أبيض، فإن كان أصفر أو أحمر كان قيحاً أو دماً. وإن كانت ثيباً اعتبر الأصفر والأحمر في حقها لبناً بدليل الاستصحاب، هذا ما لم يخرج عن صفات اللبن بالكلية. وإلا لم يعتبر لبناً أيضاً.
جـ ـ أن يصل اللبن إلى الطفل وهو في سن الرضاعة. وقد تقدم تفصيل ذلك لدى الفقهاء، في شروط الراضع.
د ـ أن يعلم وصول اللبن إلى الطفل يقيناً أو ظناً: فإذا شك في وصول اللبن إلى الطفل لم يحرم عند الجمهور، خلافاً للمالكية، فإنهم يحرمون به هنا احتياطاً، لأن الأصل عدم الوصول إلا بدليل، فإذا شك في وصوله بأن رئي الولد وهو يمص الثدي، وغلب على الظن أن لا لبن بالمرأة، أو ظن أن لا لبن بها، فإنه لا يحرم عند الجمهور، وكذلك إذا كان بها لبن وتحقق من عدم وصوله إلى جوف الطفل بطريق من الطرق، فإنه لا يحرم أيضاً، ويساويه في الحكم ما لو شك في أصل الرضاع، أرضع أم لا؟ وكذلك لو شك في عدد الرضعات ولم يتيقن كونها خمساً أو عشراً، عند من يشترط العدد ـ كما سوف يأتي ـ.
ويشترط كذلك أن يكون وصول اللبن إلى جوف الطفل عن طريق الفم مطلقاً، سواء أكان بالتقام الثدي (الرضاع)، أو الصب في حلقه (الوجور) أو عن طريق الأنف (السعوط). وهذا عند جمهور الفقهاء.. وخالف في ذلك الظاهرية، والجعفرية، والحنبلية في رواية عنهم، وذهبوا إلى أن الرضاع لا يحرم إلا إذا كان عن طريق الامتصاص من الثدي لا غير.
وأما اللبن الواصل إلى الجوف عن طريق الحقنة في الدبر أو القبل، أو بوساطة التقطير في الأذن أو العين، فإنه لا يحرم لأنه لا يسمى رضاعاً، ولا ينشز العظم وينبت اللحم، وهذا عند الجمهور.
وذهب محمد بن الحسن إلى أن اللبن إذا وصل إلى الجوف بواسطة الحقنة في الدبر فإنه يحرم. وعلى ذلك المالكية أيضاً بشرط أن يكون ذلك غذاء في الأصح، فإن لم يكن غذاء لم يحرم.
وذهب الشافعية إلى أن الوصول إلى الجوف أو الدماغ محرم بشرط أن يكون الوصول إليهما من منفذ مفتوح غير الدبر والقبل في الأظهر، فلو وصل من العين لم يحرم لأنه وصل من مسام وليس من منفذ مفتوح، أما الجروح المفتوحة على الجوف أو الدماغ كالآمة والجائفة، فإن وصول اللبن إلى الجوف أو الدماغ من طريقها محرم. وكذلك التقطير في الأذن إن علم الوصول منها إلى الجوف، فإنه محرم، فإذا لم يعلم لم يحرم.
هـ ـ أن يكون خمس رضعات مشبعات، نص على ذلك الشافعية، والحنبلية في الراجح من مذهبهم، والظاهرية، فما كان دون ذلك من الرضاع لم يكن محرماً عندهم. واشترطوا أيضاً أن يكون ذلك في خمسة أوقات منفصلة عرفاً.
وذهب الحنفية والمالكية إلى أن قليل الرضاع وكثيره في التحريم سواء، والمصة الواحدة تكفي لإثبات التحريم عندهم.
وذهب الجعفرية إلى أن القدر المحرم هو ما أنبت اللحم وشدّ العظم، أو إرضاع يوم وليلة، أو خمس عشرة رضعة، بشرط أن لا يفصل بين الرضعات في الأحوال الثلاث بالرضاع من امرأة أخرى، وأن يكون اللبن لفحل واحد. وفي قول: يثبت التحريم بعشر رضعات متوالية، وهو غير المشهور من مذهبهم.
الأدلة:
استدل الشافعية والحنبلية لمذهبهم بما رواه مسلم عن عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ: (كان فيما أنزل الله تعالى من القرآن عشر رضعات تحرمن ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن)([19]). أي يتلى حكمهن أو يقرؤهن من لم يبلغه النسخ لقربه.
هذا وقد روي عن الشافعية القول بالاكتفاء بالرضعة الواحدة، كما روي عنهم القول بأن ثلاث رضعات يحرمن، لما رواه مسلم: (لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان(([20])، فإن مفهومه التحريم بما زاد على الرضعتين. لكن القول الأول هو المذهب لدى الشافعية.
ولم يشترط الشافعية اتفاق صفات الرضعات، بل لو أوجر مرة، وسعط مرة، وارتضع مرة، وأكل مما صنع منه مرتين، يثبت التحريم، وهو مذهب الحنبلية كذلك.
وحد الرضعة عند الشافعية يعلم بالعرف، لأن اللغة والشرع لم يضبطا ذلك، فيرجع فيه إلى العرف. والعرف يقضي عندهم بأن الطفل إذا قطع الرضاعة بنفسه للتحول إلى الثدي الآخر أو للهو وعاد في الحال، فإن ذلك يكون رضعة واحدة، فإذا قطع إعراضاً ثم عاد، عد ذلك رضعة جديدة، وكذلك إذا قطعته المرضع لشغل لها، فإن عادت في الحال كان ذلك واحدة، وإن تأخرت تعدد في الأصح.
وذهب الحنبلية إلى أن الرضاع يتعدد بمجرد القطع، لو كان بسبب من المرضعة لشغلها، وكذلك إذا كان من الرضيع نفسه للانتقال إلى ثدي آخر أو غير ذلك. أي إن الرضاع عندهم يتعدد بالعودة بعد الانقطاع لأي سبب كان، خلافاً للشافعية.
واستدل الحنفية والمالكية لمذهبهم بإطلاق الآية الكريمة: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ}([21])، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب(([22]) فإن الرضاع جاء فيهما مطلقاً من التقييد بكونه قليلاً أو كثيراً، والمطلق يبقى على إطلاقه حتى يظهر دليل للتقييد، ولم يثبت عندهم ما يقيد الإطلاق المذكور.
وقد صحَّ من رواية البخاري: (أن رجلاً تزوج امرأة فجاءت أمة سوداء فذكرت أنها أرضعتهما، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم زوج المرأة أن يدعها(([23]). دون أن يسأل عن عدد الرضعات، ولو كان التحريم منوطاً بقدر معين وعدد معين لتحرى الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك قبل أن يأمر بالمتاركة، ولو تحرى لنقل إلينا لدواعي النقل، ولكنه لم ينقل فبقي على إطلاقه.
وقد أجاب الحنفية والمالكية عن حديث: (لا تحرم المصة ولا المصتان(([24])بأن نفي التحريم فيه واقع على المص نفسه، وليس على اللبن الداخل إلى جوف الطفل بسببه، وهو غير المدعى.
أما الجعفرية، فحد الرضعة عندهم ما يروى به الصبي. واستدلوا لمذهبهم بأن الأصل عدم التحريم، وما ذكروه مجمع عليه، وما قاله المخالف ليس عليه دليل ناهض. كما استدلوا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الرضاعة من المجاعة(([25]) يعني ما يسد الجوعة، ثم بقوله صلى الله عليه وسلم: (الرضاع ما أنبت اللحم وشدّ العظم(([26]). واستدلوا كذلك بقول السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ: (كان مما أنزل الله في القرآن عشر رضعان معلومات تحرمن...(([27])، فهو نص في التحريم بالعشر، وأما قولها: (ثم نسخن بخمس معلومات( فقولها هي، ولا خلاف في أنه لا يقبل قول الراوي أنه ينسخ كذا بكذا إلا أن يبين ما نسخه، لينظر فيه هل هو ناسخ؟
طرق ثبوت الرضاع:
يثبت الرضاع لدى الفقهاء بطريقين هما: البينة والإقرار. ولكل من هذين الطريقين شروط خاصة به على الوجه الآتي:
1ـ الإقرار:
الإقرار بالرضاع المحرم، إما أن يكون قبل العقد، أو بعده. وهو إما أن يكون من الزوج، أو من الزوجة، أو من أبويهما، أو من المرضع، أو من غير من ذكر.
فالإقرار إن كان قبل العقد وكان من الزوج بأن قال هذه أختي من الرضاع، أو بنتي أو غير ذلك ممن يحرم عليه مناكحتها، لم يجز له الزواج منها مطلقاً، فإذا عقد عليها كان العقد باطلاً. وذلك لأن الإقرار حجة على النفس، وهذا بإجماع الفقهاء. وكذلك الحكم لو كان الإقرار من قبل الزوجة لنفس السبب، وهو قول جمهور الفقهاء خلافاً للحنفية. ثم إن كانا صادقين في إقرارهما حرم عليهما الزواج ديانة وقضاء، وإن كانا كاذبين فيه حرم قضاء فقط.
وإن كان الإقرار من الأبوين، أو من المرضع، أو من غيرهم، فإنه يأخذ حكم الشهادة، وهو ما سوف يأتي قريباً. هذا إذا لم يطمئن قلب الزوجين إليه، فإن اطمأن إليه قلبهما أو قلب واحد منهما، حرم التزاوج بينهما ديانة لا قضاء، ما لم يظهر منهما ما يفيد الاطمئنان إليه، فإذا ظهر ذلك صريحاً، اعتبر إقراراً، وطبق عليه ما تقدم من الأقرار، وحرم النكاح ديانة وقضاء.
وذهب الحنفية إلى أن إقرار المرأة لا عبرة به، سواء كذَّبت نفسها بعد ذلك أم لا. واستدلوا لقولهم هذا بأن الحرمة ليست لها، فلم يعتبر إقرارها بها.
هذا إذا بقي المقر مصراً على إقراره، فإذا رجع عن إقراره بعدما أقر به وقال: وهمت، فقد اختلف الفقهاء في حكم الرجوع هذا:
فذهب الحنفية إلى أن يُصَدَّق في الرجوع عن إقراره ما لم يؤكد إقراره بقوله: هو صحيح، أو هو حق، أو يُشهد عليه، أو يجدده بعد العقد. فإن أكده الرجل بما ذكر لم يصح رجوعه عنه، ولم يقبل منه ذلك. وإنما صح رجوعه قبل التأكيد لأن الرضاع مما يثبت بالسماع، وذلك مما يشتبه على الكثيرين، فقد يكون المقر سمعه من إنسان ثم سمع من غيره ما يخالفه واطمأن إلى كذب الأول، بخلاف الرجوع بعد التأكيد، لأن التأكيد يفيد القطع والاستقصاء.
وذهب الشافعية والحنبلية إلى عدم جواز الرجوع عن الإقرار مطلقاً، ذلك أن الإقرار تعلق به التحريم، فلا يرتفع بالرجوع عنه لتعلق حق الغير به كما في الإقرار بالمال، للقاعدة الفقهية الكلية: (من سعى في نقض ما تم من جهته فسعيه مردود عليه(([28]).
هذا كله إذا كان الإقرار قبل العقد، فإذا كان بعد العقد، فهل يفسخ العقد به؟
ذهب الشافعية والحنبلية إلى أن الرضاع إذا ثبت بالإقرار بعد العقد انفسخ العقد به تلقائياً، وذهب الحنفية والمالكية إلى أن العقد بذلك يكون مستحقاً للفسخ إزالة للحرمة.
هذا إذا كان الإقرار من الزوج، فإذا كان من الزوجة، فإنه ينظر؛ فإن صدقها الزوج انفسخ النكاح، أو كان مستحقاً للفسخ ـ بحسب الخلاف المتقدم ـ وإن كذبها فالعقد صحيح، وذلك لاتهامها بالتخلص من الزوجية، وليس لها طريق إلا هذا، بخلاف الزوج فإنه لا تهمة في جانبه لتمكنه من التخلص منها بالطلاق، بخلافها. وذلك مذهب الجمهور.
وذهب الشافعية في رواية، إلى أنه لا يقبل قولها إذا كذَّبها الزوج وقد زوجت منه برضاها، فإن لم يكن برضاها([29]) صدقت بيمينها. ويعللون ذلك بأن ما تدعيه محتمل إذ ذاك، ولم يسبق منها ما يناقضه، فأشبه ما لو ذكرته قبل النكاح.
والرواية الثانية عند الشافعية أنه يصدق الزوج في إنكاره ما أقرت به الزوجة بيمينه، استدامة للنكاح الجاري على الصحة.
هذا ويشترط لصحة الإقرار لدى جميع الفقهاء، أن يكون الإقرار ممكناً، وذلك بأن لا يكذبه الظاهر. فلو قال: فلانة بنتي من الرضاعة وكانت أكبر منه، فإنه يعتبر إقراراً باطلاً لاستحالته.
هذا والإقرار لا يثبت لدى القاضي إلا بشهادة رجلين فقط عند الشافعية، إذا أنكره المقر.
وذهب الحنفية والحنبلية، إلى أنه يكفي في إثباته ما يكفي في إثبات سائر الأموال، من شهادة رجلين أو رجل وامرأتين.
أما المالكية فقد ذهبوا إلى ثبوت الإقرار بكل ما يثبت به الرضاع، من شهادة رجلين، أو رجل وامرأة واحدة، أو امرأتين فقط.
ب ـ البينة:
البينة المعتبرة في إثبات الحقوق في الشريعة الإسلامية عامة هي شهادة رجلين أو رجل وامرأتين، وذلك لقوله تعالى: { وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء}([30]) والبينة لدى الفقهاء حجة متعدية.
وقد اختلف الفقهاء في قبول الشاهد واليمين على مذاهب، كما أنهم اختلفوا في بعض الدعاوى الخاصة في قبول شهادة النساء وحدهن أو عدم قبولها فيها، وفصلوا لذلك تفصيلات كثيرة.
ففي الدعاوى الجنائية كادوا يتفقون على عدم قبول شهادة النساء مطلقاً، سواء أكن وحدهن أم مع الرجال. فلا يقبل في الحدود والقصاص إلا شهادة الرجال خاصة.
أما في استهلال الصبي، وثبوت البكارة، والحيض، وعيوب المرأة وما إلى ذلك، فقد اختلفوا في حجية شهادة النساء وحدهن فيه، فمنهم من اكتفى بشهادة النساء وحدهن، لأن هذه الأمور مما لا يطلع عليه إلا النساء غالباً، فتعذر إثباتها بغيرهن، فجاز للضرورة. وذهب آخرون إلى اشتراط الرجال أو اشتراك الرجال مع النساء في هذه الأمور أيضاً، جرياً مع إطلاق الآية الكريمة السابقة، فهي لم تفرق بين دعوى ودعوى.
ثم إن الذين قالوا بصحة قول المرأة وشهادتها في هذه الأمور اختلفوا في عدد النساء المشترط لقبول الشهادة. فذهب جماعة إلى اشتراط أربع نسوة، وذهب آخرون إلى اشتراط امرأتين فقط. وذهب بعض آخر من الفقهاء إلى الاكتفاء بشهادة امرأة واحدة، ثم إن من الفقهاء من اشترط العدالة في هذه الحال، ومنهم من لم يشترطها.
والآن ونحن نبحث في الرضاع المحرم وطرق إثباته، علينا أن نحدد نوع البينة التي بها يثبت الرضاع المحرم، وشروطها.
والجواب أن الفقهاء اختلفوا في ذلك على أقوال:
فذهب الحنفية إلى اشتراط الشهادة الكاملة التي نصت عليها الآية الكريمة، وهي شهادة رجلين أو رجل وامرأتين، لأن الأصل في الشهادة أن تكون كذلك، ولا صارف عن الأصل هنا، فتبقى كذلك، سواء أكانت الشهادة قبل العقد، أم بعده، وسواء أكانت برضاع قديم، أم برضاع طارئ على العقد.
وفي قول للحنفية؛ أنه إذا شهد به عدل واحد قبل العقد حرم النكاح، وإن بعده والزوجان كبيران؛ فالأحوط التنزه عنه. ويعللون ذلك بأن الشك في الأول وقع في الجواز، وفي الثاني وقع في البطلان، والدفع أسهل من الرفع. لكن المذهب على القول الأول.
وذهب المالكية إلى أن الرضاع المحرم يثبت برجلين عدلين ولو لم يفش ذلك منهما قبل العقد، فإن لم يكونا عدلين اشترطوا الفشو، والرجل مع المرأتين كالرجلين. ويثبت الرضاع كذلك بشهادة رجل وامرأة واحدة عندهم، وبشهادة امرأتين فقط إن فشا منهم ذلك في الصورتين الأخيرتين قبل العقد، لا إن لم يفش ذلك منهم قبله. وهنا هل تشترط العدالة في الشهود مع الفشو؟ في المذهب المالكي روايتان، والأظهر عدم اشتراط ذلك.
هذا إذا كانت البينة بعد العقد، فإن كانت قبله، فإنه يقبل فيها قول أبوي الزوجين الصغيرين دون فشو أو عدالة، وكذلك والد أحدهما فقط دون والدته، بخلاف الزوجين الكبيرين، فإنه لا عبرة بقول أبويهما ما لم يبلغا حد الشهادة المعتبرة بشروطها عند المالكية.
وإذا قال والد أحد الزوجين الصغيرين: رضع ابني من فلانة، أو بنتي مع فلان، ثم رجع وأراد عقد النكاح بعد ذلك، لم يقبل منه الرجوع، فإن عقد بالفعل فسخ العقد، وذلك بخلاف قول أم أحدهما: (أرضعته أو أرضعتها مع ابني) مثلاً واستمرت على إقرارها أو رجعت عنه، فإن التنزه عن العقد مستحب لا واجب، وليست الأم هنا كالأب ولو كانت وصية، هذا في قول، إلا أن المعتمد في المذهب المالكي أنه إن فشا منها ذلك قبل العقد وجب التنزه عنه، وقُبل قولها فيه.
وأما الشافعية فقد اشترطوا في البيّنة أن تكون بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين، ويقبل فيها هنا شهادة أربع نسوة وحدهن.
فأما ثبوتها بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين فجرياً مع قواعد الإثبات العامة، وفقاً لإطلاق الآية الكريمة السابقة. وأما ثبوتها بأربع نسوة وحدهن، فذلك لأن الرضاع مما لا يطلع عليه الرجال عادة، فاكتفي فيه بشهادة النساء وحدهن للضرورة، إلا أنه اشترط الأربع منهن لقيام كل امرأتين مقام رجل واحد في الشهادة. وهذا القول هو قول عطاء وقتادة أيضاً.
وهذا كله إذا كان الرضاع بالمص من الثدي، فإذا كان بالسعوط أو الوجور، لم يكتف فيه بالنساء وحدهن ولو كن مئة امرأة، لإمكان اطلاع الرجال عليه في هذه الحال، فلا ضرورة للاكتفاء بهن، ولكن تقبل شهادتهن وحدهن أيضاً عنا في أن لبن الإناء الذي أوجر به الصبي هو لبن فلانة، لأن الرجال لا يطلعون على الحلب غالباً.
وأما الشهادة على الإقرار بالرضاع فشرطها رجلان فقط عند الشافعية لاطلاع الرجال عليه غالباً، ولا يقبل فيها غير ذلك ـ وقد تقدم في إثبات الرضاع بالإقرار ـ.
وذهب الحنبلية إلى أن الرضاع يثبت بشهادة امرأة واحدة إذا كانت مرضية، وبهذا قال طاوس، والزهري، والأوزاعي، وابن أبي ذؤيب، وسعيد ابن عبد العزيز.
وعن أحمد بن حنبل ـ رضي الله تعالى عنه ـ رواية أخرى تفيد عدم قبول شهادة ما دون امرأتين، وهو قول الحكم، وذلك لأن الرجال أكمل من النساء في الشهادة، ولا يقبل في شهادتهم إلا اثنان، فالنساء كذلك قياساً عليهم. وهناك رواية ثالثة عن أحمد تفيد أن شهادة المرأة الواحدة مقبولة مطلقاً، وتستحلف مع شهادتها، وهو قول ابن عباس وإسحاق.
ومما يستدل به لقول أحمد الأول من أن شهادة المرأة الواحدة مقبولة إذا كانت مرضية، أن الرضاع مما لا يطلع عليه الرجال غالباً، فاكتفي بشهادة النساء وحدهن فيه للضرورة، ثم إن الضرورة تقضي بقبول شهادة المرأة الواحدة، لأن الرضاع يكون في انعزال عن الناس غالباً، فإن الكثيرات يأبين الإرضاع أمام غيرهن ولو من النساء، لكثرة حيائهن، مما قد يتعذر معه إشهاد أكثر من واحدة، فاكتفي بالواحدة لذلك ضرورة.
هذا في الشهادة على الإرضاع، أما الشهادة على الإقرار بالرضاع، فلا يكتفى فيها بغير رجلين، لأنه مما يطلع عليه الرجال عادة، فلم تقبل فيه شهادة النساء وحدهن لذلك، وقياساً على إثبات النكاح.
والآن هل تقبل شهادة المرضعة نفسها إذا توافرت لها شروط الشهادة الأخرى، بأن شهد معها رجال أو نساء يكمل بها معهم حد الشهادة؟
ذهب الشافعية إلى أنها تقبل شهادتها إذا لم تطلب أجرة على الرضاع، فإن طلبت أجرة عليها لم تقبل شهادتها للتهمة، وكذلك إذا ذكرت فعل نفسها فقالت: (أرضعتها) فإنها لا تقبل في قول، كما لو شهدت بولادتها، والأصح قبولها، لأنها لا تجلب لها نفعاً، وثبوت المحرمية وجواز الخلوة والمسافرة لا نظر لها، فلا ترد بمثلها الشهادة.
وذهب الحنفية إلى أن المرضعة كغيرها في ذلك، لا فارق بينها وبينه.
والحنبلية مذهبهم في هذا كمذهب الحنفية.
وأخيراً أيعتبر النكول حجة في إثبات الرضاع، بأن ادعت المرأة الرضاع المحرم بعد العقد فأنكره الزوج، فوجهت إليه اليمين فنكل عنها؟
ذهب الشافعية إلى القضاء بالنكول هذا، لأن النكول إقرار، والإقرار حجة يثبت بها الرضاع.
وذهب الحنفية إلى أنه إذا قامت بينة ناقصة على الرضاع والزوج منكر له، جاز للزوج أن توجه اليمين إليه، فإن نكل قضي بفسخ النكاح بناء على نكوله، وهو واضح على مذهب الصاحبين اللذين يريان النكول إقراراً، وكذلك على مذهب الإمام الذي يراه بذلاً، لأن ذلك يجري فيه البذل أيضاً.
مسألة لبن الفحل
التعريف بها:
إذا أرضعت المرأة طفلاً فإنه يصبح ابناً لها من الرضاع، وهي أمه، وأولادها إخوته ما في ذلك الخلاف. ولكن هل يصبح زوجها ـ إن كان لها زوج ـ أباه؟ أي هل لزوجها علاقة بلبنها، فيحرم عليه به ما يحرم عليها هي به؟
تفصيل ذلك على الوجه الآتي:
اتفق جمهور الفقهاء على التحريم بلبن الفحل، ولكنهم اختلفوا في حدّه على أقوال:
فذهب الحنفية إلى أن لبن المرضع يكون للزوج كما يكون للزوجة، فتثبت حرمة الطفل الرضيع به من الزوج كما تثبت من الزوجة على سواء بشروط هي:
أ ـ أن يكون الرجل قد دخل بالمرأة في عقد صحيح، أو فاسد، أو وطئها بشبهة. فأما الزاني ففيه روايتان في المذهب، يميل المرجحون من أمثال الكمال بن الهمام إلى تصحيح عدم التحريم به على الزاني. فلو زنى رجل بامرأة، فحملت منه، ثم ولدت ودر لها لبن، فأرضعت به صبية، جاز للزاني نكاح الصبية الرضيعة، في تصحيح الكمال وغيره، لأنه لا حرمة لماء الزنا، ولم يجز في رواية ثانية عند الحنفية لأن اللبن جاء بسببه.
ب ـ أن تكون المرضعة قد ولدت من الرجل فعلاً، أما قبل الولادة فلا، فلو تزوج امرأة فحملت منه، ثم در لها لبن قبل ولادتها، فأرضعت من صبية حرمت الصبية على المرضعة فقط، ولم تحرم على زوجها، ولهذا الزوج التزوج بالصبية الرضيعة، لأنها أجنبية عنه. فلو ولدت ثم أرضعت صبية بلبنها، كانت الرضيعة ابنة لها ولزوجها معاً، لأن اللبن أصبح له حق فيه بعد الولادة.
جـ ـ أن لا ينقطع لبنها منه مدة ثم يرتد إليها، وأن لا تلد من غيره، فإن انقطع لبنها ثم رجع إليها بعد مدة فأرضعت منه صبية، كانت الرضيعة ابنة لها فقط، ولا صلة لزوجها بها.
ثم لو طلق الزوج زوجته، أو تاركها الواطئ بشبهة، أو بعقد فاسد بعد الدخول بها، وهي لبون، فتزوجها آخر وحملت منه، فإن اللبن للأول ما لم تلد من الثاني، فإن ولدت كان اللبن للثاني وانقطع عن الأول. فلو أرضعت المرأة هذه صبياً قبل ولادتها من الثاني كان ابناً لها وللزوج الأول، ولو أرضعته بعد ولادتها من الثاني، كان الرضيع ابناً لها وللزوج الثاني دون الأول.
فإذا تخلف شرط من هذه الشروط الثلاثة، لم تثبت حرمة الرضيع من الزوج أو الواطئ، ولكن من المرضعة فقط.
وذهب المالكية إلى أن الحرمة لا تثبت بين الرضيع والزوج أو الواطئ إلا بشروط هي:
أ ـ أن يكون الزوج قد دخل بها فعلاً وأنزل، فلا يكفي مجرد العقد عليها، وكذلك لو وطئها من غير إنزال، فإنه لا يثبت التحريم به، فإذا أرضعت الزوجة طفلة قبل العقد عليها، أو بعد العقد وقبل الوطء، أو بعد الوطء، وقبل الإنزال، لم تحرم على الزوج، فإذا أرضعتها بعد الإنزال، حرمت على الزوج.
هذا والعبرة في التحريم إلى الوطء نفسه مع الإنزال فلا يضر عدم الحمل به.
ب ـ أن لا ينقطع لبنها، فلو در لها لبن بعد الإنزال وبقي سنين، ثم طلقها الزوج واللبن موجود فأرضعت به صبياً كان الرضيع ابناً لها وللزوج، لديمومة لبنه، فإن انقطع لبنها مدة ثم رجع إليها فأرضعت به صبياً، كان الرضيع ابناً لها وحدها. ولو طلقها وهي لبون فتزوجت آخر ووطئها وأنزل واللبن مستمر من الأول ثم أرضعت صبياً كان الرضيع ابناً لها ولزوجها الأول والثاني معاً لاشتراكهما في اللبن، الأول بالاستمرار، والثاني بالوطء مع الإنزال، وهكذا لو تزوجت ثالثاً ورابعاً ولبنها مستمر فإن الحرمة تثبت لرضيعها من أزواجها جميعاً. فإذا انقطع اللبن ثم عاد، لم يحرم الرضيع إلا على زوجها الذي ثاب لبنها منه بعد انقطاعه.
والوطء الحرام كالحلال عند المالكية في حق التحريم بالرضاع، فلو زنى رجل بامرأة وأنزل، فدر لها لبن، أو كان بها لبن سابق فأرضعت به صبية، فإن الصبية الرضيعة تعتبر ابنة لها وللزاني بها. وهذا هو الراجح في المذهب، وهنالك قول آخر مفاده أن كل وطء لا يلحق به الولد لا يحرم بلبنه على الفحل. والقول الأول هو المعتمد ـ كما تقدم ـ.
وأما الشافعية فقد اشترطوا ليكون اللبن للفحل شروطاً هي:
أ ـ أن يدخل الزوج بزوجته في نكاح صحيح أو فاسد، أو أن يطأها بشبهة، أو بملك يمين، فإن وطئها بزنا ودر لها لبن، لم يصر له، بحيث لو أرضعت به صبية لم تحرم عليه، إلا أن تزوجه بها مكروه، وذلك لأن ماء الزنا هدر عندهم، فإنه يصح للزاني التزوج بابنته من الزنا عندهم، فكذلك ابنته من الرضاع من حليب الزنا، وكذلك الولد المنفي باللعان، فإنه ينتفي معه اللبن عن الزوج أيضاً. لأن الرضاع عند الشافعية يثبت فيما يثبت فيه النسب، لأنه تبع له، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب(([31]).
ب ـ أن تحمل المرضع من الفحل فعلاً، فإن لم تحمل منه، فاللبن لها وحدها، وهذا هو الأصح من قولين للشافعي، والقول الثاني أن مجرد الوطء كاف لإثبات اللبن للواطئ.
جـ ـ أن لا تتزوج المرضعة من آخر، أو يطأها الآخر بشبهة وتلد منه، أو تلد من زنا، ذلك أن اللبن يستمر للفحل الأول سواء انقطع وعاد، أم دام مستمراً ولم ينقطع إلى أن تتزوج بآخر أو يطأها بشبهة وتلد منه، فإن تزوجت من آخر أو وطئها بشبهة فحملت ولم تلد، فاللبن للأول أيضاً، فإذا ولدت انقطع اللبن عن الأول وثبت للثاني.
فإذا زنى بها آخر وحملت منه، فلبنها لزوجها وواطئها الأول، فإن وضعت حملها كان اللبن للزنا، ولا أب للرضيع، لأن الأول انقطع لبنها منه بالولادة من غيره، والثاني لا يُحَرِّمُ الصبي عليه، لأن الزنا غير محترم، فلا يستحق اللبن به.
هذا ولو نزل لبن لبكر فتزوجت وحملت من الزوج، فاللبن لها وحدها لم تلد، فإذا ولدت فاللبن لها ولزوجها، ومثل البكر هنا الثيب اللبون.
واشترط الحنبلية لثبوت الحرمة من الفحل بالرضاع شروطاً، هي:
أ ـ أن يكون اللبن من حمل منتسب إلى الفحل، بأن يكون وطئها في نكاح صحيح أو فاسد، أو وطئها بشبهة، أو بملك يمين. فأما لبن الزاني أو النافي للولد باللعان، فلا ينشر الحرمة بين الرضيع والواطئ، لأن التحريم بالرضاع فرع لحرمة الأبوة، فلما لم تثبت حرمة الأبوة لم يثبت ما هو فرع عنها.
وفي قول آخر للحنبلية أن لبن الزاني يحرم كما يحرم لبن النكاح الصحيح.
وحيثما ثبت نسب الولد ثبتت الحرمة بالرضاع من لبنه، فلو وطئ رجلان امرأة بشبهة فأتت بولد فأرضعت بلبنه طفلاً آخر معه، صار الرضيع الآخر ابناً لمن ثبت نسب الولد الأول منه، سواء أثبت نسبه بالقافة أو بغيرها، فإن ألحقته القافة بالوطئين معاً، صار الرضيع الثاني ابناً لهما...
ب ـ أن تلد المرضع من الزوج، فإن حملت منه ولم تلد، لم يكن له حق في اللبن، فإن ولدت، ثبت حقه فيه، وحرم عليه به.
جـ ـ أن لا تتزوج بآخر بعد طلاقها منه، أوتوطأ بشبهة، أو بنكاح فاسد، فإن طلقها ثم تزوجت بغيره، أو وطئت بشبهة، ففي المسألة خمس أحوال:
1ـ أن يبقى لبن الأول على حاله دون زيادة أو نقصان ولم تلد من الثاني، فهو للأول، سواء أحملت من الثاني أم لم تحمل منه بغير خلاف، إذ إن اللبن للأول بالاستصحاب، ولم يجدّ ما يجعله للثاني.
2ـ أن لا تحمل من الثاني، فهو للأول سواء زاد اللبن أم لم يزد، أو انقطع ثم عاد، أم لم ينقطع.
3ـ أن تلد من الثاني، فاللبن للثاني خاصة، سواء انقطع ثم عاد، أم
لم ينقطع.
4ـ أن يكون لبن الأول باقياً وقد زاد بالحمل من الثاني، فاللبن منهما جميعاً لتنازعهما فيه بلا ترجيح، فهو للأول بالاستمرار، وللثاني بالزيادة.
5ـ أن ينقطع اللبن الأول ثم يثوب منها بالحمل من الثاني، وهنا للحنبلية قولان:
القول الأول: أن اللبن للزوجين، لأنها لم تلد من الثاني فلم يتمحض اللبن له.
القول الثاني: أن اللبن للثاني فقط لانقطاع لبن الأول.
** ** **