بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المؤلف:
الحمد لله الذي أظهر كمال جماله في مرآة بيته القديم، وأبرز يد قدرته في وضعِ الركن العظيم، وأشرف قدم خليله النبيّ الكريم، حيث كان قائماَ بالدين القويم، وواقفاً على الصراط المستقيم.
والصلاة والتسليم عليه، وعلى أعلى ذرّيته، بُدىء به في عالم الأرواح، وخُتم به في عالم الأشباح، من بين الأنبياء والرُّسل الكرام، وعلى آله وأصحابه الذين اقتدى بهم الأنام، في معرفـة أحكـام الإسلام.
أما بعد، فيقول الملتجىء إلى أذيال كـرم حرم ربه الباري، علي بن سلطان محمّد القاري: إنّ هذه الرسالة، نبذة من المقالة، في الدقائق المتعلقة بالحج وأسراره، التي هي تذكرة لمن يتذكر، وأنواره التي هي عبـرة لمن اعتبر، فقيل: الحجّ حرفان، فالحاء: حِلم الحق، والجيم: جُرم الخلق. والإشارة في تشديد الجيم مع نقطته: إلى أن الحق يغفر أنواع جرم الخلق مع كثرته. وإيماء أن رحمته سبقت غضبه في مرتبة أزلية، لكن بشرط أن يكون الحجّ مبروراً، [ 198 أ ] وسعيه مشكوراً، بأن يكون سيره بتحسين النيّة، وتزيين الطويَّة، والخروج عن المعاصي بالكليَة، وأن يكون زاهداً في الدنيا، وراغباً في العقبى، وطالباً لمرضاة المولى، مخلصاً في طاعته، عن ملاحظة ريائه وسمعته، فقد روي عنه عليه الصلاة والسلام، أنه قال: (يأتي على الناس زمان يحـج أغنياء أمتي للتنزه، وأوساطهم للتجارة، وقُرَّاؤهم للرياء والسمعة، وفقراءهم للمسألة) ذكره ابن جماعة، وسيأتي.
وعن بعض السلف أن رجلاً جاءه، فقال: أريد الحج، فقال: كم معك ؟ قال: ألفا درهم، قال: أما حججت ؟ قال: بلى، قال: فأنا أدلك على أفضل من الحج ؛ اقض دين مدين، فّرِّج عن مكروب، فسكتَ، قال: مالك ؟ قال: ما أريد إلا الحج، قال: إنما تريد أن تركب وتجيىء، ويقال حج فلان.
ويروى أن بعض أهل الصلاح رأى فيما يرى النائم: أعمال الحج تعرض على الله، فقيل: فلان، فقال: يكتب حاجاً، فقيل: فلان ؟ فقال: يكتب تاجراً، حتى بلغ إليه، فقال: يكتب تاجراً، قال: فقلت: ولم ولست تاجراً. فقال: بلى حملتَ كُتبـة غزل تبيعها على أهل مكة.
وفي الجملة ساق الشوق في محبة اللّه سبحانه إلى حرمه، رجاء جوده وكرمه، بحسب ما قرر كل أحد في قضاء اللّه وقدره، فقيل إن سبب هذا الشوق والغرام دعاء إبراهيم عليه السلام حيث قال: { فَاُجعَل أَفئِدةً من الناسِ تهوِي إلَيهم}. قال جمع من المفسرين، أي: تميل إليهم، وتحنُ عليهم، وتقف لديهم، ولو قال: فاجعل أفئدة الناس تهوي: جميعهم، ثم عبر عنهم بالأفئدة إيماء إلى أنهم خلاصة الخلق، وزبدة طلبة الحق، كما يومىء إليه قوله سبحانه: { يُجبىَ إِليْهِ ثَمَراتُ كُل شَيءٍ رِزقًا منِ لَدُنَّا }.
وروي أن الله سبحانه يلحظ الكعبة المشرّفة في كل عام لحظة من ليلة نصف شعبان، فعند ذلك تحن إليه قلوب أهل الإيمان.
وروي أن الله تعالى أخذ الميثاق من بني آدم ببطن نعمان، وهي عرفة وما حولها/ من المكان، فاستخرجهم هناك من صلب [ 198 ب ] أبيهم ونثرهم بين يديه، كهيئة الذر، ثم كلّمهم فقال: { أَلستُ بِرَبكم قَالوُاْ بَلَى }، فكتب إقرارهم في رق، وأشهد فيه بعضهم على بعض، ثم ألقمه الحجر الأسود.
ومن أجل ذلك استحب لموافيه أن يقول: اللهم إيماناً بك، وتصديقا بكتابك، ووفاءً بعهدك، وهذا يشير إلى أن حب الأوطان من الإيمان، فإنه دلّ على أن ذلك المكان أول وطن في عالم الإمكان، ونِعم من قال:
كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى وحنينـه أبـداً لأوّل منـزل
وقيل لذي النون المصري: أين أنت من قوله: { أَلستُ بِرَبكم }، قال: كأنه بأذني.
ويروى أن الله تعالى أوحى إلى الكعبة عند بنائها، وظهور صفائها، وبهائها، إني خالق بشراً يحنون إليكِ حنين الحمام إلى بيضته، ويدفون إليك دفيف النسر إلى فرخه، يعني: ويؤوبون إليك رجوع الطفل إلى حجر أُمِّه، كما يشير إليه قوله تعالى: { أُمَ اَلقُرَى }، فإنها تؤم للقرى.
قال العز بن جماعة: غلب عليّ الشوق إلى الحج والزيارة والمجاورة بمكة، والإقامة هنالك، وعزمت على ذلك وأنا في منصب القضاء بمصر، فأشار عليّ بعض أحبّاء لي بعدم السفر، شفقةً منه ومخافةً عليّ ممن يخشى أذاه بمكة المشرَفة إليّ، فأنشدت لبعضهم:
قالوا توق رجال الحي إن لهــم عيناً عليكَ إذا ما نمت لم تنـــم
إن كان سفكُ دمي أقصى مرادهم فما غلت نظرة منهم بسفك دمــي
والله لو علمت نفسي بمن هديـت سارت على رأسها فضلاً عن القدم
وخرجت أم أيمن امرأة الشيخ أبىِ علي الرُّوذبَاري من مصر وقت خروج الحاج إلى الصحراء، والجِمالُ تمر بها في بدء البيداء، وهي تبكي وتقول: واضعفاه ؛ واعجزاه، واحسرتاه، وتقول: هذه حسرة من انقطع عن البيت، فكيف يكون حسرة من انقطع عن رب [ 199 أ ] البيت.
واعلم بأن الباعث على الشوق الخالص إلى ثواب الله تعالى ومرضاته، على قدر الفهم والتحقق بمشاهدة آياته وبيناته، حيث جعله سبحانه مثابة للعالمين، وأمناً للخائفين، وملجأ للعائذين. ومنجاء للائذين، وأودع فيه ما شهدت به ألسنة الوجود، من أرباب الشهود، وأمر خليله بتطهيره للعابدين والعارفين. وشرَّفه بإضافته إلى نفسه، وقال: { وَطَهِّر بيَتِىَ للطَّائِفين والقَائمِيِن }، وكفاه بذلك شرفاً وفخراً، وبه على سائر البقاع عظمة وقدراً.
كفى شرفاً أني مضاف إليكم وأنـي بكـم أدعى وأعـرف
فالواجب على من يدوس عتبة باب الملوك، وبساط انبساطهم لنيل المطالب، وتحصيل المواهب، وتيسر المناصب، أن يتحمل أنواع المشاق والمتاعب، ويتأدب بمحاسن المناقب، ومجامل المراتب، بالإقبال على الله تعالى في الحركات والسكنات والتجرد ظاهراً وباطناً عن المخلوقات، والانقطاع عن العلائق، والتخلص عن المواثق، ومهما ذكر المعصية جدد التوبة وكرر الأوبة ؛ لأنه من حصول الذنب على معرفة، ومن الخروج عن عقوبته على شك وشبهة. ويكون بين الخوف والرجاء في كل حاله، فلا ييأس، من رحمته وكرمه، ولا يأمن مِن سخطه بسبب حلمه، إذ لا يجوز للمرء أن يغتر بعلمه ولا بعمله، بل يعتمد على جود ربه وفضله.
قال ابن جماعة: ويغلط كثير من الناس فيحجون بيت الله طالبين لرحمته، بما قد يكون جالباً لنقمته، فيصرون على ارتكاب السيئات، ويبالغون في التباهي بالمحرمات، والتزين بالمكروهات، حتى ألبسوا الجمال الحرير والذهب، ونحو هذا من المنكرات، وما هكذا أمر الله أن يحج بيته الكريم، { فليحذر الَّذِينَ يُخَالفُونَ عَن أَمرهِ أن تُصِيبهُم فْتنة أو يُصِيبهُم عذابٌ أليم }.
ولقد خرج بعض الصالحين في عصرنا من مصرنا إلى الحج مع القافلة، فلما وصل إلى البِركة: وهي المرحلة، رجع لما/ رأى من [ 199 ب ] متنزهات مصر، قال فيها الشاعر:
لـله يـومي ببـركـة الحبش والأفق بين الضيـا والغبش
ومن أهم ما يُهتم به إخلاصه لله تعالى وحده في جميع أمره، فعنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: (إذا جمع الله الناس ليوم لا ريب فيه، نادى منادٍ: من كـان أشرك أحداً في عمل عمله لله، فليطلب ثوابه من عند غير الله،فإن الله تعالى أغنى الشركاء عن الشرك).
ومن أتمّ ما يجب التحرز عنه في أمره: النفقة، بأن تكون من الحلال الخالص من الشبهة، بقدر الوسع والطاقة، ففي صحيح مسلم: (أنه عليه السلام، ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمدّ يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذي بالحرام، فأنَّى يستجاب لذلك). أي: فكيف يستجاب لذلك الرجل هنالك.
وما أغبن من بذل نفسه وماله، وبدل حاله وجماله، فيرجع بالحرمان، وغضب الرحمن، وفي الحديث: (إذا حجّ الرجل بالمال الحرام، فقال لبيك اللهم لبيك، قال الله: لا لبيك ولا سعديك، حتى تردّ ما في يديك). ذكره ابن جماعة تبعاً للغزالي، لكن سكت عنه العراقي، وفي رواية: « لا لبيك ولا سعديك، وحجّك مردود عليك». وفي رواية: (من خرج يؤمُّ هذا البيت بكسب حرام، شَخَصَ في غير طاعة اللّه،فإذا بعث راحلته، وقال: لبيك اللّهم لبيك، ناداه منادٍ من السماء: لا لبيك ولا سعديك، كسبك حرام، وراحلتك حرام، وثيابك حرام، وزادك حرام، ارجع مأزوراً غير مأجور، وأبشر بما يسوؤك.
وإذا خرج الرجل حاجّاً بمال حلال، وبعث راحلته وقال: لبيك اللهم لبيك ناداه مناد من السماء: « لبيك وسعديك، أجبت بما تحب، راحلتك حلال، وثيابك حلال، وزادك حلال، ارجـع مبروراً غير [ 200 أ ] مأزور، وائتنف العمل ».
وعنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: « ردّ دانق من حرام يعدل سبعين حجة».
ومما ينبغي له المشاورة والاستخارة في جميع أموره الدنيوية والأخروية، فقد ورد: (ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار، وما عال من اقتصد).
كان على هذا حج أهل الفضل والإحسان، ومرافقة أرباب الهمم العالية وأصحاب الامتنان، تغمدهم الله وايانا بالرحمة والرضوان. وليتذكر الحاج بإعداد الرفيق إعداد أعماله الفاخرة، فإنها رفيقه أبداً في سفر الآخرة. وبتحفظه من رفيقه صحبة كتبته، فإنهم أحق بحسن صحبته. وبإعداد الزاد زاد المعاد، لقوله تعالى: { وَتزَوَّدُوافإن خَير اَلزَّادِ التقوى }. وليكن متواضعاً في هذا الطريق غير متعاظم على الرفيق، وطالباً من الله حسن التوفيق.
وروي [أن] هارون الرشيد حِج في زينة عظيمة، ومركب كبير، والناس يُصْرَفُوْنَ عن طريقه يميناً وشمالاً، فمر فىِ طريقه على رجل من أولياء الله وهو يعظ الناس لعبادة مولاه، فتقدم الغِلمان إليه، وقالوا له: اسكت فقد أقبل أمير المؤمنين، فلما حاذاه الهودج / قال: [ 200 ب ] يا أمير المؤمنين حدثني أيمن بن نابل، قال: حدثني قدامة بن عبد اللّه، قال: رأيت رسول اللّه صلى الله تعالى عليه وسلم بمنى على جمل وتحته رحل رثّ، ولم يكن ثَمّ ضرب ولا طرد، «ولا إليك إليك»، فقيل: يا أمير المؤمنين إنه بُهلول المجنون، فقال الرشيد: عرفته، قل يا بهلول، فقال:
هب أنك قد ملكت الأرض طرّاً وَدَان لك البلاد فكـان ماذا ؟
أليس غداً مصيرك جوف قبــر ويحثوا التراب هذا ثم هـــذا
فقال الرشيد: أجدتَ يا بهلول فَغَيْره، فقال: نعم يا أمير المؤمنين، من رزقه الله جَمالاً ومالاً، فَعَفَ في جَماله، وواسى في ماله، كتب في ديوان الأبرار. فظن الرشيد أنه عَرًض بذلك يريد شيئاً، فقال: قد أمرنا بقضاء دينك يا بُهلول، فقال: لا تفعل يا أمير المؤمنين، لا تقضي ديناً بدين، اردد الحق إلى أهله، واقض دين نفسك من نفسك. قال: إنا قد أمرنا أن يُجرى عليك. قال: لا تفعل يا أمير المؤمنين، لا يعطيك الله وينساني، فقد أجرى علي الذي أجرى عليك، لا حاجة لي بجرايتك.
ويروى أن الرشيد حج ماشياً من المدينة إلى مكـة الأمينة، ففرش له في الطريق اللُبُود والمِرْعِزَّى، فاستند يوماً إلى ميل ليستريح وقد تعب،فإذا هو بسعدان المجنون عارضه وهو يقول:
هب الـدنيـا تـواتيكــا أليس الـمـوت يـأتيكـــا
فـمـا تصنـع بـالـدنيـا وظـل الميـل يكفيكــــا
ألا يـا طـالـب الـدنيــا دع الـدنيـا لشـانيكــــا
كمـا أضحكـك الـدهــر كـذاك الـدهـر يبكـيكــا
فشهق الرشيد شهقة خر مغشياً عليه.
وكان ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما إذا رأى ما أحدث الناس من الزينة والمحامل: يقول: الحاج قليل والركب كثير. ثم نظر إلى رجل مسكين رث الهيئة تحت جُوَالق، فقال: هذا نَعَمْ، نِعْمَ الحاج.
وقال له مجاهد، وقد دخلت القوافل: ما أكثر الحاج ! فقال: [201 آ ] ما أقلّهم ولكن قُل ما أكثر الركب.
ولله در القائل:
ألا إن ركاب الفيافي إلى الحمى كثيرٌ وأما الواصلون قليلٌ
وينبغي أن يأخذ نفسه بالرحمة، ولا يؤذي الناس بالزحمة، لا سيما في ضيق الطريق وموارد الماء، ولا يكسر قلوب الفقراء، ولا ينهر في وجوه الضعفاء، وليُبِر بهم ولو بالقليل، أو يصرفهم بالرد الجميل، وليحذر من تحميل الدابة فوق طاقنها أو إجاعتها، فليس ذلك جزاء إطاعتها ؛ ولأن الدواب مراكيب الأحباب إلى ذلك الجناب. وقد قيل في هذا الباب:
وإن جمالاً قد علاها جَمالكم وإن قطعت أكبادنـا بحبائب
وخليق بمن كان سبباً في التبليغ إلى محل التأميل، أن يلاحظ بعين التبجيل، كما يشير إليه قوله سبحانه: { وَتحمِلُ أَثقالكم إلى بلَد لم تَكَوُنوُا بالِغِيهِ إِلابشِق الأنفس }، وقد فسر البلد بالبلد الأنفس، ولله در القائل:
وإذا المطىِّ بنا بلغن محمـــداً فظهورهن عن الرحال حـرام
قرَّبننا من خير من وطئ الثرى فلهـا علينـا حـرمـة وذمام
وقال: قال عليه الصلاة والسلام للمرأة التىِ نذرت أن تنحر الناقة التىِ سلمها الله عليها: (بئس ما جزيتيها).
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه للبعير الذي له: أيها البعير لا تخاصمني إلى ربك، فإني لم أكن أُحَمِّلك فوق طاقتك. وكان بعض السلف لا يَطْعم إذا نزل منزلاً حتى يعلف الدابة أوّلاً.
والحاصل: أن السالك في هذه المسالك، ينبغي أن يكون متصفا بالشكر والصبر، ولا يتأثّر فيه ضيق الصدر، وما يتعلق به من الضجر. فقد قال بعض أهل الشعر:
لا تحسب المجد تمراً أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصَّبِرا
وعند الصباح تحمد القوم السُّرَى.
ونعم ما قال بعض الشعراء:
لولا المشقة ساد الناس كلهم الجـود يفقر والإقـدام قتّـال
وعن بعض الأولياء: العجب ممن يقطع المفاوز في البيداء، ليصل إلى بيت الله وحَرَمه، ويرى آثار النبوة/ وأنوار جوده وكرمه، كيف لا يقطع نفسه وهواه في حبه، ليصلَ إلى حضور قلبه، فيرى آثار أنوار ربه، وأزهار أسرار لبه.
فينبغي كون سير الظاهر إلى بيت ربه، وسير الباطن إلى تصفية قلبه، وتزكية حبه، فانه هو المقصود والموجود، والمعبود فى نطر أرباب الشهود. ونعم ما قال بعض أرباب الحال:
سكنتم رُبَىَ الوادي فأضحت لأجلكم زيارته فرضـاً على كـل مسلم
بكم أصبح الوادي يُعَظَّم شأنـــه ولولاكم قد كان غير معظـــم
ولمجنون بني عامر:
أمُرُّ على الـديـار ديـار ليلى أُقبِّل ذا الجـدار وذا الجـدارا
ومـا حبُّ الديـار شغفن قلبي ولكن حبُّ من سكن الـديـارا
[ 2. 1 ب ]
ويروى أن رجلاً قال للفضيل بن عياض رحمه اللّه تعالى: إني أريد الخروج إلى مكـة فأوصني، فقال له: شمّر إزارك في الطلب، وانطر إلى أين تذهب، وإلى من تذهب، فخرّ الفضيل مغشياً، وسقط الرجل من ساعته ميتاً.
وليتذكر الحاج بوصوله إلى الميقات: أن اللّه تعالى قد أهَلَه للقدوم عليه، والقرب إليه، والوقوف لديه، فليلزم الأدب معه، ليصلح لإقباله وإدراك نواله.
وليتذكر عند تجرده عن المخيط للاحرام: تجريده لغسل الموت حال الاختتام. ولينو عند تجردّه عن محظورات الإحرام: أنه تجرّد عن جميع المحرمات في أحكام الإسلام. وعند غسله أنه اغتسل: من الخطايا والآثام. وقد قال بعض المشايخ الأخيار: موتوا قبل أن تموتوا، أىِ: موتوا بالاختيار قبل أن تموتوا بالاضطرار.
وليتذكر عند لبس إزاره وردائه لفه في أكفانه حال فنائه. وعند تطيبه حال حنوطه، وعند صلاة سنة الإحرام الصلاة عليه في فرض المقام.
وليتذكر حال تلبيته بعد تصحيح نيته وتزيين طويته: أنه يجيِب الباري في دعوته إلى بيته، الذي هو مهبط أنوار نبيه، ومعدن أسرار وحْي صفيِّه، وهو واقف بين الرد والقول في مقام الحصول /. فإن [ 202 أ ] التلبية بداء الأمر، وموضع الخطر،فإن أقبل على الله بقلبه، أقبل عليه الرب من فضله، وإن أعرض أعرض عنه بمقتضى عدله.
وقـد روى مصعب بن عبد اللّه بن مصعب بن ثـابتَ بن عبد اللّه بن الزبير عن مالك أنه قال: اختلفتُ إلى جعفر بن محمد وما كنت أراه إلا على ثلاث خصال: إما مُصلٍّ، وإما صائم، وإما يقرأ القرآن، وما رأيته يحدث عن رسول اللّه صلى الله تعالى عليه وسلم إلا على طهارة، وكـان من العلماء العباد الزهاد الـذين يخشون اللّه.
ولقد حججت معه سنة، فلما أتى الشجرة وأراد أن يهلّ كاد يغشى عليه. فكلمته في ذلك، وكان يكرمني وينبسط إليّ، فقال: يا ابن أبي عامر، إني أخشى أن أقول لبيك اللهم لبيك، فيقول: لا لبيك ولا سعديك. قال مالك: ولقد أحرم جدّه عليّ بن الحسين، فلما أراد أن يقول: لبيك اللهم لبيك، أو قالها غُشي عليه وسقط عن ناقته، فهشم وجهه رضي اللّه عنه.
وقـال أحمد بن أبي الحـواري: كنت مع أبي سليمـان الداراني حين أراد أن يحرم فلم يُلبِّ حتى سرنا ميلاً، ثم غُشي عليه فأفاق، وقال: يا أحمد أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: مُرْ ظَلَمة بني إسرائيل أن لا يذكروني، فإني أذكر من ذكرني منهم باللعنة، وْيحَكَ يا أحمد بلغني أن من حج من حل ثم لبّى، قال الله: (لا لبيك ولا سعديك)، فما نأمن أن يقال لنا ذلك.
وعن بعض السلف، قال: كنت بذىِ الحُليفة، وشاب يريد أن يحرم فكان يقول: يا رب أريد أن أقول لبيك، وأخشى أن تجيبني: بلا لبيك ولا سعديك، وجعل يردد ذلك مراراً، ثم قال: لبيك اللهم لبيك، مد بها صوته وخرجت روحه رحمه الله.
وقال مالك بن دينار: خرجت إلى مكة، فبينا أنا أسير إذا أنا بشاب وهو ساكت لا يذكر الله فيما يرى، حتى إذا جنّه الليل رفع رأسه إلى السماء، وهو يقول: يا من تسره الطاعة، ولا تضره المعصية، [ 2. 2 ب ] هب لي / ما يسرك واغفر لي ما لا يضرك، قال: ثم رأيته بذي الحليفة وقد لبس إحرامه، والناس يلبون وهو لا يلبي، فقلت: جاهل، فدنوت منه فقلت: يافتى ؟ فقال: لبيك، قلت: لم لاتلبي ؟ فقال لي: يا شيخ أخاف أن أقول لبيك، فيقول: لا لبيك ولا سعديك، لا أسمع كلامك ولا أنظر إليك، فقلت له: لا يفعل فإنه كريم، إذا غضب رضي، وإذا رضي لم يغضب، وإذا وعد وفى، وإذا أوعد عفا. فقال لي: يا شيخ أتشير عليَّ بالتلبية ؟ فقلت: نعم. فبادر إلى الأرض واضطجع، وجعل خده على الأرض، وأخذ حجرا فجعله على خده الآخر، وأسبل دموعه، وأقبل يقول: لبيك اللهم لبيك، قد خضعتُ إليك، وهذا مصرعي بين يديك، فأقام كذلك ساعة، ثم قام ومضى.
وحج بعض شعراء السلف ولبى فقال:
إلهنـا إلهنا مـا أعدلــك مَليكَ كـل مـن مَـلَـك
لبيـك قـد لبيتُ لــــك لبيـك إن الحمـد لــك
والملك لا شـريـك لــك مـا خـاب عـبـد أَمَّلك
أنـت لـه حيـث سلــك لـولاك يـارب هـلــك
يـا مخـطئـاً مـا أعـقلك عجِّل وبـادر أجـلـــك
واختم بـخيـر عـملــك لبيـك إن الـملك لـــك
والحمـد والنعمـة لـــك والعـز لا شـريـك لـك
وليتذكر عند انتشار المُحرمين رافعي أصواتهم بالتلبية حالَ القيام من القبور، واجابتهم عند النفخة { يَومَ يَدعِ اَلدَّاع إلى شىءٍ نكرٍ، خشَّعا أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر، مهطِعِينَ إلى الدَاع يَقوُلُ الكَافرونَ هذا يَوم عَسر }.
يروى أن امرأة عابدة حجَت، فلما دخلت مكة/[203 أ ] وجعلت تقول: أين بيت ربي أين بيت ربي ؟ فقيل لها: هذا بيت ربك، فاشتدت نحوه تسعى، حيث ألصقت جبينها بحائط البيت، فما رفعت إلاّ ميّتة.
وقال سعيد بن جبير: رأيت امرأة جـاءت، فقامت في الملتزم، فجعلت تدعو وتبكي حتى ماتت.
وحج الشبلي رحمه الله، فلما دخل إلى مكة وحصل وصاله، وعظم عنده قدر ما ناله، أنشد طرباً مستعظماً حاله:
أبـطحان مكـة هـذا الـذي أراه عـيـانـاً وهـذا أنـا
ثم لم يزل يكررها حتى غشي عليه في إثرها.
ولما دخل أبو الفضل الجوهري الحرم، ونظر إلى البيت المعظّم، وقد داخله الطرب الأتمّ، قال: هذه أنوار ديار المحبوب، فأين المحبوب !، هذه آثار أسرار القلوب، فأين المشتاقون ! هذه ساعة الإطلاع على الدموع، فأين البكاؤون. ثم شهق شهقة وأنشد:
هـذه دارهـم وأنت مـحب ما بقاء الدموع في الآمـاق
ثم بادر إلى البيت باكياً وهو ينادي: لبيك لبيك ساعياً، وللجواب خائفاً راجياً.
ثم انوِ عند استلام الحجر أنكَ بايعت الله على لزوم طاعته.
وإذا رملتَ في الطواف فانوِ أنك هارب من ذنوبك، وإذا مشيتَ فترجَّ من ربك الأمن من عذاب ما هربت منه بقبول توبتك. وتذكر عند تعلُّقكَ بالأستار تشبث الجناة بأذيال الكرام الأبرار.
وسئل عليّ بن الحسين زين العابدين عن ابتداء الطواف ؟ فقال: لما قال الله تعالى للملائكة: { إِنٍى جَاعلُ فيُ الاَرض خليفَةً [ 3. 2 ب ] قَالوُا أتجعل فِيهَا مَن يُفسد فِيهَا وَيسفك الدِّمَاءَ }، وقال الله تعالى: {إنيِ أَعلَمُ مَا لا تعلمَونَ} ظنت الملائكة أن ما قالوه رد على ربهم فلاذوا بالعرش، فطافوا به إشفاقا من الغضب عليهم، فوضِع لهم البيت المعمور، فطافوا به، ثم بعث ملائكة فقال: ابنوا لي بيتاً في الأرض تمثاله، وأمر الله خلقه أن يطوفوا بالبيت المذكور، كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور.
وليحذر من الإساءة حال طوافه، ووقت اعتكافه، وليحفظ جميع جوارحه تأدباً مع ربه في مقام قربه. فقد روي أن رجلاً طاف بالبيت، فبرق له ساعد امرأة، فوضع ساعده على ساعدها، يتلذذ به، فلصق ساعداهما، فقال له بعض الصالحين: ارجع إلى المكان الذي فعلت فيه تلك المعصية، وعاهد رب البيت أن لا تعود إلى مثل تلك القضية، بالإخلاص وصدق النية، ففعل فتخلص عن البلية.
ويروى أن امرأة عاذت من ظالم، فجـاءها ومد يده إليها، فيبست يده عند مدّها.
وعن بعض السلف أنه دخل الحِجْر في الليل وصلَى تحت الميزاب، وأنه سمع وهو ساجد كلاما بين أستار الكعبة والحجارة وهو يشكو إلى الله تعالى ما يفعل هؤلاء الطائفون حولي من إساءتهم، قال: فأوَلت أن البيت تشكى.
ويروى عن أبي يعقوب النَهْرجوري، قال: رأيت في الطواف رجلاً له عين واحدة، وهو يقول في طوافه: أعوذ بك منك، فقلت له: ما هذا الدعاء ؟ فقال: إني مجاور منذ خمسين سنة، فنظرت إلى شخص يوماً فاستحسنتهفإذا لطمة وقعت على عيني، فسالت عيني على خدي، فقلت: آه، فقال قائل: هبناك لطمة بنظرة، ولو زدت زدناك.
ويروى عن إبراهيم الخوَاص، قال: رأيت شاباً في الطواف [ 204 ا ] متزراً بعباءة، متوشحاً بأخرى كثير الطواف والصلاة مشغولاً بالله، لا يلتفت إلى ما سواه، فوقعت في قلبي محبته، فَفتِح عليّ بأربعمائة درهم، فجئت بها إليه، وهو جالس خلف المقام، فوضعتها على طرف عباءته، فقلت له: يا أخي اصرف هذه القطيعات في بعض الحويجات، فقام وبددها في الحصى، وقال يا إبراهيم: اشتريت من الله تعالى هذه الجلسة بسبعين ألف دينار، أتريد أن تخدعني عن اللّه بهذا الوسخ ! قال إبراهيم: فما رأيت أذل من نفسي، وأنا أجمعها من بين الحصى، وما رأيت أعز منه وهو ينظر إليّ، ثم ذهب. ويروى أن الجنيد طاف بالبيت في جوف الليل، فسمع جارية تطوف وهي تقول:
أبى الحب أن يخفى وكم قد كتمته فأصبح عندي قد أناخ وطنّبــا
إذا اشتد شوقي هام يوماً بذكــره وإن رمت قرباً من حبيبي تقربا
فقلت لها: يا جارية: أما تتقين الله تتكلمين في مثل هذا المقام بمثل هذا الكلام ! فالتفتت إليّ وقالت: يا جنيد، لولا التقى لم ترني أهجر طيب الوسن، إن التقى شرّدني، كما ترى عن وطني، أفرّ من وجدي به فحبه هيّمني، ثم قالت: يا جنيد، أتطوف بالبيت، أم رب البيت ؟ قلت: أطوف بالبيت، فرفعت رأسها إلى السماء، وقالت: سبحانك ما أعظم مشيئتك في خلقك، خلق كالأحجار يطوفون بالأحجار، ثم أنشأت تقول:
يطوفون بالأحجار يبغون قربة إليك وهم أقسى قلوباً من الصخر
قال الجنيد: فغشي عليّ من قولها، فلما أفقت لم أرها.
وقال أبو يزيد البِسْطَامي: حججت ثلاث حجج: ففي الحجة الأولى رأيت البيت ولم أر رب البيت، وفي الثانية: رأيت البيت ورب البيت، وفي الثالثة: رأيت رب البيت ولم أر البيت.
قلت: المرتبة الأولى: هي حال أهل التفرقة، والأخرى: حال أهل الخدمة في طريق المولى، والوسطى: حال أهل جمع الجمع. [ 204 ب ] في الحضرة الأعلى وهي الفضلى والأولى كما لا يخفى.
وعن مالك بن دينار قال: بينا أنا أطوف ذات ليلة، إذا أنا بجويرية متعلقة بأستار الكعبة، وهي تقول: يا رب ذهبت اللذات، وبقيت التبعات، يا رب كم من شهوة ساعة من الزمان قليلاً قد أورثت صاحبها حزناً طويلاً، يا رب أمالك عقوبة ذلك في دار القرار إلا النار. فما زال قولها حتى طلع الفجر، فوضع مالك يده على رأسه صارخاً، يبكي يقول: ثكلت مالكاً أمه وعدمته، جويرية منذ الليلة قد بطلته، وعن حاله عطلته.
وقد تعلق رجل بأستار الكعبة، وأنشد:
ستور بيتك ذيـل الأمن منك وقد علقتها مستجيراً أيها الباري
وما أظنك لمـا أن عَلقتُ بها خوفاً من النار تدنيني مِن النـارِ
وها أنا جار بيت أنت قلت لنا حجوا إليه وقد أوصيتَ بالجـارِ
وعن صالح المُرّي أنه كان يطوف بالبيت، فسمع أعرابياً يقول، وهو متعلق بأستار الكعبة: إلهي إن استغفاري إياك على كثرة ذنوبي للوم ظاهر، وإن ترك استغفاري على سعة رحمتك لعجز باهر، إلهي كم تتقرّب إليّ بالنعم مع غناك عني وعن عملي، وكم أتباعد عنك بالمعاصي مع فقري إليك في أملي. فيا من إذا وعد وفى، وإذا أوعد تجاوز وعفا، أدخِل عظيم جرمي في سعة رحمتك من هذا الباب، إنك أنت الوهّاب. قال صالح: فوالله ما سمعت في حجي ذلك أبلغ من كلام الأعرابي هنالك. وقال إلى الشيخ ابن الموفق: طفت بالبيت ليلة وصليت ركعتين بالحِجْر، واستندت إلى جوار الحجر أبكي، وأقول: كم أحضر هذا البيت الشريف ولا أزداد في نفسي خيراً، فبينا أنا بين النائم واليقظان، إذ هتف بي هاتف، يا علي: سمعنا مقالتك، أو تدعو أنت إلى بيتك من لا تحبه !
وقال الأوزاعي: رأيت رجلاً متعلقاً بأستار الكعبة، وهو يقول: يا رب إني فقير كما ترى، وصبيتي قد عَرُوا كما ترى، وناقتي قد عجفت كما ترى، وبردتي قد بليت كما ترى، فما ترى فيما ترى، يا من يَرى ولا يُرى.
فإذا بصوت من خلفه: يا عصم يا عصم / الحق عمَك قد هلك [ ه 20 ا ] بالطائف، وخلَف ألف نعجة، وثلاث مائة ناقة، وأربعمائة دينار، وأربعة أعبد، وثلاثة أسياف يمانية، فامض فخذها فليس له وارث غيرك.
قال الأوزاعي، فقلت: يا عاصم إن الذي دعوته لقد كان منك قريباً، فقال: يا هذا أما سمعت قوله تعالى: { وَاذَا سَأَلك عبادي عَني فَاِني قَـرِيب }.
وإذا سعيت فتذكر تردد العبد في فناء دار السيد إظهاراً لمحبته، وإشعاراً لخدمته، ورجاء ملاحظته بعين جوده ورحمته. وكن كمن دخل دار مَلِك وحرَمه، وخرج منها مع خدمه وحشمه، ولم يعلم هل قبله المولى أم لا، فهو تردد في فنائها مرة بعد أخرى، طمعا في القبول، ورجاء إلى الوصول.
ومثِّل الصفا والمروة بكفتي الميزان، ناظراً إلى الرجحان والنقصان، متردداً بين خوف النيران، ورجاء الغفران.
وإذا وقفت بعرفة، فتذكر حال وقوفك بين يدي الله سبحانه يوم القيامة مع سائر الأمة، وما هم فيه من شدائد الأهوال، ومشقات الأحوال، مُنتظرين ما يقضى عليهم من دار جنة أو نار. فكذلك أهل عرفة منتظرون ما قُسِم لهم من قبول مع الأبرار، أو ردّ مع الفجار.
وتذكر اختلاف أحوال الناس في موقف عرفة: وهم بين راكب من أهل القوة والثروة، وماش وعاجز في القدرة، حالهم يوم القيامة: فمنهم من يحشر راكباً على النجائب، ومنهم من يحشر ماشياً، ومنهم من يحشر على وجهه، على قدر المناقب والمناصب والمتاعب. وكن بين الخوف والرجاء في جميع المراتب.
وروي أن الفضيل بن عياض وقف بعرفة والناس يدعون فبكى بكاء الثكلى المحترقة، فلما كادت الشمس أن تسقط قبض لحيته ثم رفع رأسه إلى السماء، وقال: واسوأتاه وإن عفوت.
وقال بعض السلف: رأيت شابا في الموقف مطرقاً برأسه إلى الأرض منذ وقف الناس إلى أن سقط القرص، فقلت يا هذا: ابسط يدك للدعاء، فقال: لي ثمة وجه ! قلت له: هذا يوم العفو عن الذنوب، فبسط يده، ففي بسط يده وقع ميتاً.
[ ه 20 ب ] وقيل لبعض السلف وقد ضحى للشمس بعرفة في يوم شديد الحر، لو أخذت بالتوسعة، فأنشد:
ضحيت لـه كي أستظل بـظله إذا الظل أضحى في القيامة خالصاً
فيا أسفي إن كان سعيي باطلاً ويا حسرتا إن كان حظي ناقصــاً
وتذكر بانتظار غروب الشمس، وإفاضة الخلق، انتظار أهل المحشر فصل القضاء، بشفاعة سيد الأنبياء عليه التحية والثناء. وروي أنه قيل ليونس بن عبيد، وقد انصرف من عرفات: كيف كان الناس ؟ فقال: لم أشك في الرحمة، لولا أني كنت معهم، يقول: لعلهم حرِموا بسببي.
وقال بعض السلف: كنت بالمزدلفة وأنا أحيي الليلة،فإذا بامرأة تصلي حتى الصباح ومعها شيخ، فسمعت وهو يقول: اللهم إنا جئنا من حيث تعلم مكاننا، وحججنا كما أمرتنا، ووقفنا كما دللتنا، وقد رأينا أهل الدنيا: إذا شاب المملوك في خدمتهم تذمموا أن يبيعوه، وقد شبنا في ملكك، فارحمنا بلطفك، وأعتقنا بجودك.
فهذا طريق العلماء الأبرار، والمشايخ الأخيار، في اجتنابهم من الآثام والأوزار، خوف المحاسبة في دار القرار، والمعاقبة بالنار في دار البوار.
وقيل: إن من أعظم الذنوب: أن يحضر عرفات، ويظن أن الله تعالي لم يغفر له، ذلك لأنه يأسٌ من رحمته، وقنوط من مغفرته، وسوء ظن بربه في حالته.
وهذا لا ينافي كونه بين الخوف من غضبه، والرجاء في لطفه وكرمه، لأن المدارعلى خاتمة أمره، ويقينه في آخر عمره، فينبغي أن يداوم على الدعاء، ويواظب على ثبوت القدم في مقام الرجاء، ويواظب على كثرة الحمد والثناء في السَّرَّاء والضَّرَّاء، ويرضى بما قدر الله عليه في عالم القضاء، قائلا: اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، توفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين، وأدخلنا الجنة آمنين، برحمتك يا أرحم الراحمين، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
أ.د. أحمد الحجي الكردي
خبير في الموسوعة الفقهية وعضو هيئة الفتوى
في دولة الكويت