2- الولاية في الزواج :
تعريف الولاية لغة واصطلاحاً:
الولاية في اللغة بالفتح والنصب النصرة والغلبة، ومنه قوله تعالى: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) (البقرة: من الآية257). والمولى كل من المعتِق والعتيق، فهو من الأضداد، وللتفريق بينهما يقال للأول المولى الأعلى، وللثاني المولى الأدنى، والولاية أيضاً السلطة التي يمتلكها الإنسان على الشيء، ومنه قيل لكل من السلطان والقاضي ولي، لأنه يملك الحكم على الناس، يقال وليَ الشيءَ ولي على الشيءِ ولاية بفتح الواو وكسرها، إذا ملك أمره وقام عليه.
والولاية في اصطلاح الفقهاء، هي: (سلطة شرعية يسوغ لصاحبها التصرف بمحل الولاية تصرفا نافذاً غير موقوف على إجازة أحد)[1].
وهي قسمان: قاصرة ومتعدية، فالقاصرة هي سلطة الإنسان على إنفاذ أقواله وتصرفاته، والمتعدية هي سلطته على إنفاذ تصرفات غيره، وكل من هذين القسمين ينقسم إلى قسمين، ولاية على النفس، وولاية على المال.
ومحل دراستنا هنا الولاية على النفس دون الولاية على المال، لأن الزواج من تصرفات الولاية على النفس.
أسباب الولاية القاصرة:
للولاية القاصرة على النفس سبب واحد لا ثاني له، وهو كمال الأهلية، وهذا محل اتفاق الفقهاء، إلا أن الجمهور حددوه بالذكر دون الأنثى في أمر الزواج خاصة، أما الأنثى فلا ولاية لها على نفسها في الزواج وإن كملت أهليتها، وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف في ظاهر الرواية والجعفرية، إلى أن الولاية القاصرة تثبت للمرأة كاملة الأهلية مثلما تثبت للرجل، لا فارق بينهما.
الأدلة :
استدل أبو حنيفة لمذهبه بأدلة منها:
آ - ما روي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا) رواه مسلم.
ب – ما روي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا وَالْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ وَإِذْنُهَا سُكُوتُهَا) رواه مسلم.
ج - ما رواه النسائي وابن ماجه عَنْ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: (جَاءَتْ فَتَاةٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ إِنَّ أَبِي زَوَّجَنِي ابْنَ أَخِيهِ لِيَرْفَعَ بِي خَسِيسَتَهُ قَالَ فَجَعَلَ الأَمْرَ إِلَيْهَا فَقَالَتْ قَدْ أَجَزْتُ مَا صَنَعَ أَبِي وَلَكِنْ أَرَدْتُ أَنْ تَعْلَمَ النِّسَاءُ أَنْ لَيْسَ إِلَى الآبَاءِ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ).
فإن كان المراد بالأيِّم غير ذات الزوج مطلقا،ً فهو نص في الباب، وإن كان المراد به الثيب خاصة، فإن الحديث يفيد بجملته الأولى صحة تولي الثيب أمر نفسها في زواجها، ويفيد بجملته الثانية صحة تولي البكر أمر نفسها في زواجها أيضاً بطريق الإشارة، لأن من يتوقف العقد على موافقته يكون له أمر نفسه.
د – لا فرق بين الرجل البالغ والمرأة كاملي الأهلية في كافة التصرفات المالية، فكذلك الزواج، لأنه لا فارق بين الأمرين.
واستدل الجمهور لمذهبهم بأدلة منها:
آ - ما رواته عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا فَإِنْ اشْتَجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لا وَلِيَّ لَه) رواه الترمذيُ.
ب - ما رواه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا نِكَاحَ إِلا بِوَلِيٍّ) رواه الترمذي.
ج - إن أمور النكاح تحتاج إلى استقرار واستقصاء وتعرف على أحوال الزوجين، والنساء يعجزن عن ذلك غالباً، ولذلك فلا بد من اشتراط الولي الرجل رعاية لهذا المعنى.
هذا وقد اتجه قانون الأحوال الشخصية السوري في هذا إلى الأخذ بمذهب أبي حنيفة، حيث لم يذكر فرقاً بين المرأة والرجل في ذلك، مما يلزم بالرجوع إلى الراجح من مذهب الحنفية وفقاً للمادة /305/ منه، وهذا الاتجاه هو الراجح عندي، لأنه الأقيس والأقرب لروح العصر، إلى جانب قوة دليله كما تقدم.
أسباب الولاية المتعدية:
للولاية المتعدية على النفس أسباب كثيرة، هي:
أ- المِلك، وذلك للسيد على عبيده وإمائه الذين يملكهم ملك اليمين، فله تزويجهم ذكوراً وإناثاً دون رأيهم، كأولاده القاصرين، وهذا السبب لن نتوسع فيه لعدم وجود الرقيق حالياً.
ب- القرابة النسبية، وهي ولاية الأب ومن في معناه من الأقرباء –على اختلاف الفقهاء فينهم كما سوف يأتي – على القاصرين وفاقدي الأهلية أو ناقصيها، كالمجانين والمعتوهين.
ج- الإعتاق، وهي ولاية المعتِق على مولاه الذي أعتقه، إلحاقا له بالولد النسبي، وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الْوَلاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ لا يُبَاعُ وَلا يُوهَب) رواه الدارمي، وهذا السبب لن نتوسع فيه أيضاً، لعدم وجود الأرقاء حالياً.
د- الإمامة، وهي ولاية السلطان ومن ينيبه من القاضي وغيره على ناقصي الأهلية وفاقديها، كالصغار والمجانين والمعتوهين والمحجورين.
هـ- الوكالة، وهي ولاية الوكيل على محل الوكالة التي وكله بها من يملك الولاية على نفسه، وهذا السبب سوف نفرده بالدراسة في بحث مستقل بعد بحثنا في الولاية إن شاء الله تعالى.
أقسام الولاية المتعدية:
تنقسم الولاية المتعدية إلى قسمين: ولاية إجبار، وولاية اختيار، ويسميها البعض ولاية شركة، ويسميها أبو حنيفة وأبو يوسف من الحنفية ولاية استحباب.
فأما ولاية الإجبار، فمعناها تفرد الولي في إنشاء الزواج نافذاً، رضي المولى عليه أو لم يرض، ويسمى الولي هنا الولي المجبر.
أما ولاية الاختيار أو الشركة، فمعناها أن يشترك الولي مع المولى عليه في الموافقة على إنشاء الزواج، فلا ينعقد بدون موافقة المولى عليه، على خلاف ولاية الإجبار.
وأما تسمية أبي حنيفة وأبو يوسف لهذه الولاية بولاية الاستحباب، فلأنهم يجعلون أمر مشاركة الولي للمولى عليه أمراً مستحباً فقط، لأن للمولى عليه في هذه الحال عندهم التفرد بإنشاء العقد، وهذه تثبت عندهم للعصبة بالنفس على المرأة البالغة العاقلة، بكراً كانت أو ثيباً.
من تثبت له الولاية:
اتفق الفقهاء على ثبوت الولاية للأب، لم يخالف في ذلك أحد منهم، ولكنهم اختلفوا فيمن يلي بعد الأب على مذاهب.
فذهب المالكية والحنبلية إلى أنها بعد الأب لوصي لأب، وبعده للحاكم، وهو السلطان ومن ينيبه عنه، كالقاضي.
وذهب الشافعية إلى أنها بعد الأب للجد العصبي وإن علا، ثم تكون للسلطان ومن ينيبه عنه، كالقاضي.
وذهب الحنفية إلى أنها تثبت لكل عصبة بنفسه، وهو كل قريب ذكر ليس في نسبه إلى المولى عليه أنثى، وهم أصناف أربعة مرتبة في الأولوية على ترتيب الإرث، كما يلي:
أ- الفروع، كالابن وابن الابن وإن نزل.
ب- الأصول، كالأب والجد العصبي وإن علا.
ج- فروع الأب، كالأخ الشقيق والأخ لأب، وأبنائهما من الذكور، وإن نزلوا.
د- فروع الجد العصبي، كالعم الشقيق والعم لأب وأبنائهما من الذكور، وإن نزلوا.
فإذا استوى وليان في الصنف، قدم الأقرب درجة، فقدم الابن على ابن الابن، وقدم الأب على الجد، وقدم الأخ على ابن الأخ، وقدم العم على ابن العم.
فإن استوى وليان في الصنف والدرجة، قدم بقوة القرابة، فقدم الشقيق على الذي لأب، فإن استوى وليان في ذلك كله، كانت الولاية لكل منهما، فأيهما تصرف كان تصرفه صحيحاً نافذا بالولاية، فإذا تصرفا معاً، فإن أمكن إنفاذ تصرفهما معاً أنفذا، كما إذا زوج إخوان أخاهما القاصر، وإن لم يمكن، أنفذ تصرف الأول وأبطل تصرف الثاني، كما إذا زوج أخوان أختهما القاصرة.
هذا وقد خالف الإمام محمد بن الحسن في هذا الترتيب، وقدم الأب على الابن عند وجودهما.
فإذا لم يكن للمولى عليه عصبة بالنفس، فقد ذهب أبو حنيفة إلى أن الولاية عليه تنتقل لذوي أرحامه، وتقدم الأم، ثم الجدة أم الأب، ثم الجدة أم الأم، ثم البنت، ثم بنت الابن، ثم الجد لأم، ثم الجد أبو أم الأب، ثم الأخوات، ثم الأعمام لأم.....وهكذا.
فإذا لم يوجد من هؤلاء أحد، انتقلت الولاية للسلطان ومن يمثله كالقاضي، وذهب الصاحبان أبو يوسف ومحمد إلى أن الولاية بعد العصبات بالنفس تنتقل إلى السلطان ومن يمثله كالقاضي مباشرة، ولا ولاية عندهم لذوي الأرحام من الأقارب.
وقد أخذ قانون الأحوال الشخصية السوري في هذا بمذهب المصاحبين من الحنفية، إلا أنه اشترط شرطا زائداً، وهو أن يكون الولي محرماً، وإلا فلا ولاية له، وهو قول ضعيف للحنفية، وقد نص على ذلك في المادة (21) منه، ونصها: (الولي في الزواج هو العصبة بنفسه على ترتيب الإرث بشرط أن يكون محرماً)، كما نص في المادة /24/ منه على ما يلي: (القاضي ولي من لا ولي له).
شروط الولي على النفس:
يشترط في الولي على النفس شروط، فإن تخلف واحد منها سقطت ولايته وانتقلت إلى من بعده في الدرجة، وهي:
1 - كمال الأهلية، وذلك بالعقل والبلوغ والرشد، لأن القاصر مميزاً كان أو غير مميز، وكذلك المجنون والمعتوه والسفيه كلهم لا ولاية لأي منهم على نفسه فأولى أن لا يلي على غيره، وهذا الشرط محل اتفاق الفقهاء.
2 - التوافق في الدين مع المولى عليه، فلا ولاية لغير المسلم على المسلم، ولا للمسلم غير المسلم، إلا السلطان والقاضي المسلمين، فإن ولايتهم تفرض في درجها على المسلمين وغير المسلمين على سواء، وهذا الشرط محل اتفاق الفقهاء أيضاًَ.
3 - الذكورة، وهي شرط عند الجمهور، أما الحنفية فقد تقدم أنهم أثبتوها للمرأة والرجل على سواء.
4 - العدالة، وهي ملازمة التقوى، بترك الكبائر وعدم الإصرار على الدناءات من الصغائر، وقد اشترطها الشافعية والحنبلية في رواية، ولم يشترطها الحنفية والمالكية في المشهور عنهم.
من تثبت عليه الولاية:
تثبت ولاية الإجبار بالاتفاق على الصغير مطلقاً، وعلى الصغيرة البكر أيضاً، وأما ما سوى ذلك، فهو محل اختلاف الفقهاء.
فقد ذهب الحنفية إلى أن ولاية الإجبار تثبت على كل ناقص أهلية أو فاقدها، فتثبت عندهم على الصغير مطلقاً، ذكراً كان أو أنثى، مميزاً أو غير مميز، وكذلك المجنون والمجنونة والمعتوه والمعتوهة.
وذهب الشافعية والحنبلية إلى أنها تجب على الصغير مطلقاً، وعلى الصغيرة البكر خاصة، أما المرأة الثيب، فلا ولاية إجبار لأحد عليها عندهم، صغيرة كانت أو كبيرة.
أما المالكية فذهبوا إلى أن ولاية الإجبار تثبت على الصغير والصغيرة مطلقاً، كما تثبت على البكر البالغة العاقلة غير العانس بالاتفاق، وكذلك العانس في المشهور، وكذلك الثيب البالغة العاقلة التي لم تزل بكارتها بزواج صحيح أو فاسد، ولكن بضرب أو وثب أو زنا.......وكذلك الثيب البالغة إذا ظهر فسادها وعجز وليها عن صونها.
أما من تثبت عليه ولاية الاختيار:
فذهب الحنفية إلى أنها تثبت على المرأة البكر البالغة.
وذهب المالكية إلى أنها تثبت على المرأة البكر البالغة التي رشدها أبوها، وكذلك على البكر البالغة التي أقامت مع الزوج سنة وأنكرت الاتصال الزوجي بها بعد فراقها.
أما الشافعية والحنبلية فتثبت ولاية الاختيار عندهم على الثيب البالغة.
أما من دون هؤلاء، فإما أن عليهم ولاية إجبار كما تقدم في الصغيرة، وإما أن ليس عليهم ولاية أصلاً، كالرجل البالغ.
معنى العضل وشرطه وحكمه:
العضل في اللغة: منع الرجل حريمته من الزواج .
وهو في الاصطلاح منع الولي من يلي عليها من النساء ولاية اختيار من الزواج بدون عذر شرعي.
فإذا كان المانع غير الولي فليس عضلاً، ولا حكم له ولا أثر.
فإذا كان المانع ولي الإجبار فليس عاضلا، إلا أن يظهر لمنعه سبب غير مشروع، كما إذا منعها ليمتع بمالها.
وكذلك منع ولي الإجبار من يلي عليها لسبب مشروع، كانعدام الكفاءة أو انعدام مهر المثل، فإنه ليس بعضل.
فإذا توافر العضل بشروطه السابقة، أمر السلطان -أو من ينيبه كالقاضي- الولي بالتزويج، فإن استجاب فبها، وإلا حل القاضي محله وزوجها، ولا تنقل الولاية في حال العضل إلى الولي الذي يليه، ولكن إلى السلطان، لأن العضل ظلم، والسلطان هو الذي يرفع الظلم، وذلك على خلاف ما إذا غاب الولي وحضر الكفء، فإنه ينتظر إلى عودته إن كانت قريبة، وكذلك إذا كانت بعيدة ولكن الكفء ينتظر، فإذا لم يَنتظِر الكفء وخيف فواته، انتقلت الولاية حكماً إلى الولي الذي بعده، وليس إلى السلطان، فإذا زوجها الولي الأبعد في هذه الحال، كان الزواج نافذاً مطلقاً، ولو زوجها الولي الأبعد مع انتظار الكفء، كان الزواج موقوفاً على إجازة الولي إن كانت الولاية ولاية إجبار.
هذا وقد اشترط قانون الأحوال الشخصية السوري لأهلية الزواج أن يكون الزوجان عاقلين، إلا أنه أذن للقاضي بزواج المجنون والمعتوه إذا ثبت بتقرير هيئة من أطباء الأمراض العقلية أن زواجه يفيد في شفائه.
كما اشترط القانون السوري أن يكون الزوج قد أتم (18) سنة والزوجة (17) سنة، إلا أنه أذن للقاضي أن يأذن للزوجين بالزواج إذا بلغت الفتاة (13) سنة والفتى (15) سنة، بشرط أن يدعيا البلوغ ويتبين للقاضي صدق دعواهما واحتمال جسميهما.
كما اشترط لزواج من تقدم موافقة الولي، إذا كان هو الأب أو الجد.
وعلى ذلك لم يبق مجال لدراسة نكاح الصغار والمجانين خارج ما تقدم، وهو اتجاه مخالف لما عليه جماهير الفقهاء، ولم يقل به أحد ممن يعتد بقوله منهم، فإن نكاح الصغار من قبل الأولياء وإن لم يكن هو الأفضل دائماً، إلا أنه الأفضل حتماً في حالات كثيرة، فلا ينبغي إقفال الباب أمام هذه الحالات، ثم إنه مادام في يد الأولياء الأكفاء، وفيه الخيار عند البلوغ، فلا ضرر فيه على أحد، ثم إن المنع منه لا دليل عليه من قرآن ولا سنه، وهو مخالف لقول جماهير الفقهاء، فلا أرى مندوحة من التأكيد على إلغاء هذا المنع، والعودة إلى ما ذهب إليه الجماهير.