4- الخيارات في الزواج:
الخيارات التي تأتي في عقد الزواج فتمنع عنه اللزوم متعددة، وهي:
أ- خيار البلوغ.
ب- خيار الإفاقة.
ج- خيار التغرير أو فوات الشرط المرغوب فيه.
د- خيار العيب.
هـ- خيار فوات الكفاءة.
و- خيار فوات مهر المثل.
وسوف نبحث فيها واحداً واحدا، فنُعرِّف كلاً منها بما يميزها، ثم نوجز أحكامه.
أ- خيار البلوغ[1]:
هو خيار سببه البلوغ، وذلك إذا ما كان أحد الزوجين عند الزواج قاصراً غير بالغ، وقد زوجه وليه على النفس زواجاً مستكملاً كافة شروط انعقاده وصحته ونفاذه، فإن زواجه يكون مسلوب اللزوم، عند الطرفين من الحنفية، ويكون لهذا الزوج القاصر عند الزواج اختيار الفسخ أو الالتزام بالزواج عند بلوغه، مادام الزواج صحيحاً غير لازم.
وذهب مالك والشافعي وأحمد، إلى أن زواج الصغير من قبل وليه المجبر لازم، ولا خيار له عند بلوغه، سواء كلن الولي أبا أو غيره، ووافقهم على ذلك من الحنفية أبو يوسف، إلا أن الفتوى في المذهب الحنفي على قول الطرفين.
هذا ولثبوت خيار البلوغ عند الحنفية شروط لا بد من توافرها، وهي:
أ- أن يكون الزوجان أو أحدهما عند الزواج قاصراً غير بالغ، فإذا كانا بالغين لم يثبت لهما خيار البلوغ، فإذا كان أحدهما بالغاً والآخر قاصرا، كان للقاصر منهما لا غير حق خيار البلوغ، فإذا كانا غير بالغين عند الزواج، كان الخيار لهما معاً عند البلوغ.
ب- أن يكون الزواج مستوفياً لكافة شروط انعقاده وصحته ونفاذه، وإلا كان باطلاً أو فاسداً أو موقوفاً، وكل ذلك لا يثبت فيه خيار البلوغ.
ج- أن يكون قد زوج القاصر وليه على النفس، فإذا زوجه غيره، كان الزواج موقوفاً لا مسلوب اللزوم، لاختلال الولاية.
د- أن يكون الولي المزوج غير الأب والجد العصبي وإن علا، كالأخ والعم، فإن كان الولي هو الأب أو الجد وإن علا، كان العقد لازماً لا خيار فيه، لغلبة شفقتهما، هذا إذا كانا غير معروفين بسوء الاختيار، فإذا كانا معروفين بسوء الاختيار كان زواجهما كزواج الأخ والعم مسلوب اللزوم، وفيه خيار البلوغ.
فإذا استوفى العقد ما تقدم من الشروط، كان صحيحا غير لازم، وثبت فيه الخيار للقاصر من الزوجين وحده، فإذا كانا قاصرين ثبت خيار البلوغ لهما معاً، وكان لهما اختيار الفسخ أو الاستمرار بالزواج عقب بلوغهما وعلمهما بالزواج، سواء حصل دخول أم لا.
ويكون البلوغ برؤية العلامات المادية المعروفة، وهي الاحتلام في الفتى والحيض في الفتاة، ويثبت ذلك بقولهما، بشرط أن يكون ذلك بعد التاسعة من العمر في الفتاة، وبعد الثانية عشرة في الفتى، وإلا كُذِّبا، ولم يعدا بالغين بذلك، فإذا خفي معرفة ذلك، انتقل عنه إلى البلوغ بالسن.
وقد ذهب الجمهور إلى أن البلوغ بالسن يكون بإتمام الخامسة عشرة في الفتى والفتاة معاً، فإذا أتما هذه السن ولم يدعيا البلوغ قبلها عدا بالغين بها حكماً.
وذهب أبو حنيفة إلى أنه الثامن عشرة في الفتى، والسابع عشرة في الفتاة.
وذهب مالك إلى أنه الثامن عشرة في الفتى والفتاة معاً، وفي قول كقول الجمهور.
فإذا اختار الزوج القاصر أو الزوجة القاصرة الفسخ أو الاستمرار قبل بلوغهما بالفعل أو بالسن بحسب ما تقدم، لم يقبل منهما ذلك، وهما على خيارهما حتى البلوغ، فإذا بلغا خيرا، فإن اختارا الاستمرار لزم ولا خيار لهما بعد ذلك، وإن اختارا الفسخ، أشهدا على ذلك ورفعا الأمر إلى القاضي لفسخ النكاح، لأنه فرع مختلف فيه، فلا يتم إلا بقضاء، والنكاح قائم بينهما حتى يفسخه القاضي، فإذا انقضى المجلس دون أن يختارا شيئاً، فهما على خياراها حتى يختارا، لأنه ثبت على التراخي، إلا البكر، فإن الخيار في حقها يثبت على الفور، بشرط أن تكون عالمة بالنكاح وقته، فإذا سكتت وهي عالمة بالنكاح والبلوغ لزمها النكاح، وسقط خيارها.
هذا واختيار الفسخ أو الاستمرار في النكاح يكون باللفظ الصريح، كقوله فسخت أو التزمت، ويكون بالدلالة، كالتقبيل من الزوج والتمكين من الزوجة، وكل ما لا يحل لغير الزوجين فإنه التزام دلالة، وكذلك الهجر ومغادرة البيت، فإنه فسخ دلالة.
هذا ولم يتعرض القانون السوري لخيار البلوغ، وذلك لندرة تزويج القاصرين في سورية، بسبب القيود الإدارية التي وضعها القانون على تزويج الصغار، إلا أنه في حال وجود ذلك لا بد من الرجوع إلى الراجح من مذهب الحنفية، وفقاً للمادة /305/ منه.
ب- خيار الإفاقة:
المراد بالإفاقة هنا الصحوة أو الشفاء من الجنون، فإذا كان الزوجان أو أحدهما مجنوناً عند الزواج، ومثله المعتوه، وعقد له وليه على النفس عقدا مستوفيا لشروط الانعقاد والصحة والنفاذ، كان العقد مسلوب اللزوم في حق المعقود له المجنون، وكان له خيار الفسخ أو الاستمرار عند إفاقته من الجنون.
هذا وأحكام خيار الإفاقة هي أحكام خيار البلوغ تماماً، وقد تقدمت، ولهذا لن نعيدها.
إلا أننا سنشير إلى فارق هام بينهما، فقد تقدم خيار في البلوغ أن الولي المزوج إذا كان الأب أو الجد، لم يكن للقاصر خيار عند بلوغه، والحكم في خيار الإفاقة هنا مثله هناك، إلا أنه يضاف إليه الابن هنا، فإذا كان المزوج للمجنون أو المعتوه الأب أو الجد أو الابن، وكانوا غير معروفين بسوء الاختيار، فلا خيار للمجنون عند إفاقته من الجنون، فإن كان الولي المزوج غير هؤلاء، أو هم وكانوا معروفين بسوء الاختيار، فيكون له الخيار عند إفاقته.
و لم يتعرض القانون السوري لخيار الإفاقة، وذلك بسبب القيود الإدارية التي وضعها على زواج المجانين، ولكن إن وجد ذلك، فلا بد فيه من الرجوع إلى الراجح من مذهب الحنفية، كما في خيار البلوغ، وفقاً للمادة /305/ من القانون السوري.
ج- خيار التغرير، أو فوات الشرط المرغوب فيه:
قد يشترط أحد الزوجين حين الزواج في زوجه الآخر شرطاً مرغوباً فيه، كأن تشترط الزوجة في زوجها نسباً عالياً، أو مالاً وفيراً، أو منصباً كبيراً أو.......، وقد يشترط الزوج في زوجته بكارة أو ثقافة أو........، ثم يتضح عدم توفر الشرط فيه، فهل يعد بذلك مغرراً، ويثبت للمشترط خيار الفسخ عند ذلك؟
ثم إن أحد الزوجين قد يشترط على الآخر شروطاً تتضمن التزامات يريد تحقيقها في المستقبل، لم تكن لتجب له بدون هذه الشروط، كأن يشترط عليها مساعدته في عمله، أو تشترط عليه أن لا يسافر بها......، فهل يلزم مثل هذا الشرط، ويعد الناكل عنه مخالفا لأحكام العقد، ويكون للطرف الثاني حق فسخ النكاح لفوات هذا الشرط الملتزم بالعقد؟
لقد ذهب الحنفية والزيدية إلى أنه إذا اشترط أحد الزوجين في صاحبه صفة معينة مرغوباً فيها، فبان على خلافها، لم يكن له الخيار في الفرقة، إلا أن يختل به شرط الكفاءة، فيثبت الخيار عندها لفوات الكفاءة لا لفوات الشرط، وسوف يأتي بيان ذلك.
ولكن إذا كان هذا الشرط من قبل الزوج، وقد سمى لها مهراً أكثر من مهر مثلها بسبب هذا الشرط، كأن يشترط أنها بكر، أو أنها تجيد الطهو، أو أنها تجيد القراءة والكتابة، وغير ذلك، ففي هذه الحال، إذا تحقق الشرط استحقت المسمى جميعه، وإن لم يتحقق لم يلزم بأكثر من مهر مثلها، عند الحنفية والزيدية، لأن ما رضي به من الزيادة على مهر المثل كان على أساس تحقق الشرط، فإذا فات الشرط انتقض الرضا بالمسمى، فكانت كمن لم يسمّ لها مهر أبداً، فيجب لها مهر المثل، وذهب الجعفرية إلى ما هو قريب من ذلك، فقالوا: ينقص من المسمى بقدر ما ينقص به مهر مثلها بفوات هذا الوصف.
وكذلك الحكم إذا كانت الزوجة هي المشترطة وقد رضيت بأقل من مهر مثلها، فإنها إذا فات الوصف المشروط في الزوج تستحق مهر المثل، لبطلان المسمى.
فإذا لم يكن في مقابل هذا الشرط أي زيادة أو حط من المهر، لم يكن لهذا الشرط أي أثر، لا على صحة العقد، ولا على تحقق المهر المسمى.
جاء في فتح القدير ما نصه: "وفي النكاح لو شرط وصفاً مرغوباً فيه، كالعذرة والجمال والرشاقة وصغر السن، فظهرت ثيباً عجوزاً شمطاء ذات شق مائل ولعاب سائل وأنف هائل وعقل زائل، لا خيار له في فسخ النكاح به" [2].
هذا ما اتضح لي من عبارات الحنفية أنه مذهبهم، إلا أن عبارات بعضهم تفيد احتمال صحة مثل هذا الشرط عندهم، ولو لم تختل الكفاءة بدونه، إذا كان من الزوجة خاصة، دون الزوج، لأن للزوج الطلاق فيتخلص به، أما المرأة فلا، فكان لها الفسخ عند تخلف الشرط، وقد أورد العلامة ابن عابدين بعضاً من عبارات الحنفية التي تفيد ذلك، ثم قال: "لكن ظهر لي الآن أن ثبوت حق الفسخ لها للتغرير لا لعدم الكفاءة، . ..... وعليه فلا يلزم من ثبوت الخيار لها في هذه المسائل ظهوره غير كفء، والله سبحانه أعلم "[3].
وذهب المالكية إلى أن هذا الشرط صحيح، فإذا ما اشترط أحد الزوجين في العقد سلامة صاحبه من العيوب أو من كل عيب، وقع ذلك على كل ما يعدّ في العرف عيباً، لا على ما يراه هو عيباً، وذلك كالقَرَع والعمى والشلل ونحوه، وكان لمن اشترط ذلك إذا وجد صاحبه على خلاف ما شرط الخيار بين الرضا بحاله وبين الرد، وكذلك إذا اشترط أحد الزوجين في الآخر خلوّه من عيب معين، أو اشترط فيه وصفاً مرغوباً فيه، كالصغر في السن، والجمال، فظهر أنه على غير ذلك، كان له الخيار لفوات الشرط.
وفي حكم اشتراط الزوج ذلك عند المالكية وصف الوليّ للزوجة بأنها سليمة من كل عيب أو من عيب كذا، وكذلك وصف غيره لها كذلك في حضرته إذا سكت عند ذلك، في قول ابن وهب، خلافاً لابن القاسم واصبغ، وذكر ابن رشد أن خلافهما إنما هو عند صدور ذلك من الواصف بلا سؤال من الزوج، أما إذا صدر منه الوصف بعد سؤال الزوج عنها، فلا خلاف بينهم في اعتبار ذلك في حكم الاشتراط من الزوج، وبذلك يترتب عليه الخيار.
فإذا اشترط كونها بكراً، فظهرت ثيباً، ففي المسألة تفصيل:
إن كان زوال بكارتها بنكاح أو ما في معناه، فله الرد مطلقاً، لفوات الوصف حقيقة وحكماً، وإن كان بوثبة، فإن علم الوليّ بذلك وكتم على الزوج المشترط، كان له الرد على الأصح، لحصول التغرير، وإن لم يعلم الأب، ففيه تردد، قيل يرد لتخلف الشرط، وهو زوال العذرة حقيقة، وقيل لا يرد، لعدم زوال البكارة حكماً، لأنها بكر ما لم توطأ وطئاً لا حدّ فيه، قال الدسوقي: (البكر عند الفقهاء هي التي لم توطأ بعقد صحيح أو فاسد جار مجرى الصحيح) [4].
وذهب الشافعية إلى أن أحد الزوجين إذا اشترط في الآخر وصفاً مرغوباً فيه، من جمال وبكارة وصغر سن، أو اشترط خلوَّه من بعض العيوب التي لا يفسخ بها دون شرط، فظهر على خلاف ما شرط، فالنكاح صحيح على الأظهر، والشرط لازم، ويثبت للمشترط، وقيل العقد باطل، لأن النكاح يعتمد الصفات، فتبدلها كتبدل العين.
هذا إذا كان الشرط في العقد، فإذا كان قبله، فإنه لا يعتد به في الخيار[5].
ومن الشافعية من يرى أن الخيار إنما يثبت للزوجة إذا كانت هي المشترطة، ولا يثبت للزوج إذا كان هو المشترط، لاستغنائه عنه بالتطليق [6]، لكن المذهب هو الأول.
أما الحنبلية فقد ذهبوا إلى أن المشترط إن كان هو الزوجة، بأن اشترطت في زوجها جمالاً أو مالاً، أو الخلو من عيب لا يفسخ به النكاح دون شرط، فظهر بخلافه، فإنه لا خيار لها، إلا أن تشترط أنه حرٌّ فيظهر عبداً، أو تشترط فيه نسباً معيناً فيظهر على خلافه على وجه تزول به الكفاءة، وفي غير ذلك لا تخير به مطلقاً.
فإذا كان المشترط هو الزوج، بأن اشترط في زوجته البكارة أو الجمال أو غير ذلك، فعن أحمد -رحمه الله- في ذلك روايتان:
الأولى: أنه يخيّر، لأن النكاح لا يفسخ بغير العيوب الثمانية التي تقدم ذكرها، وليس هذا منها[7].
ومدار التفصيل بين اشتراط المرأة أو اشتراط الزوج لدى الحنبلية –فيما يظهر– أن المرأة مبناها على الجمال واكتمال الصفات أكثر من الرجل، ولهذا المعنى أمر النبي صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة بأن ينظر إلى خطيبته، ولم يثبت عنه أنه أمر أنثى بالنظر إلى خطيبها، مع التسليم بإباحته، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لأَرْبَعٍ لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ) رواه البخاري ومسلم، فقد ذكر تلك الصفات في المرأة ولم يذكر شيئاً من ذلك في الرجل.
لكنه تفصيل ليس بقوي، والأولى عندي المساواة بينهما في ذلك، لاتحاد المعنى في كل، إذ إن كثيراً من الصفات يرغب في وجودها في الرجال أيضا، من مال وقوة وشباب وغيرها، فلا داعي إلى التفصيل.
هذا من حيث الشروط المتضمنة لأوصاف مرغوبة فيها.
أما من حيث اشتراط أحد الزوجين على الآخر التزاما معينا لم يكن ليلتزم به لولا الشرط.
كأن يشترط الزوج أن تنفق عليه زوجته، أو تشترط المرأة على زوجها أن يطلق ضرتها، أو أن لا يخرجها من بيتها، أو غير ذلك، فقد اختلف الفقهاء فيه على أقوال، مرجعها إلى اختلافهم في صحة تقييد عقد النكاح بالشروط الجَعلية وعدمه، وذلك راجع أيضاً إلى اختلافهم في أصل أساسي في العقد، ألا وهو آثار عقد الزواج، أهي من ترتيب الشّارع وليس للعاقدين أن يشترطا من الشروط ما لم يقرر الشّارع أنه من مقتضيات العقد، أم إن للعاقدين شيئاً من الحرية في تعديلها؟
وبيان ذلك فيما يلي:
القاعدة العامة في كل العقود في الشريعة الإسلامية -ومنها عقد الزواج– أن الآثار المترتبة على العقد من عمل الشّارع، وذلك بإجماع الفقهاء، فإن قيل: إن الرضا ركن من أركان العقد، وهو يقتضي حرية التقيد بالشروط، وكل حد من تلك الحرية يعيب الرضا، وبالتالي يبطل العقد.
أجيب، بأن موضع الرضا الذي هو ركن العقد إنما هو الرضا المنصب على إنشاء العقد فقط، فلكلّ من العاقدين أن يعقد وأن لا يعقد، أما الآثار، فليست داخلة في ذلك، وإنما هي بترتيب الشّارع، حفظاً للعدل، وصوناً للمعاملات في العقود المالية عن النزاع، وفي الزواج حفظاً للحياة الزوجية من أن تتعرض لعوامل الفساد بما قد يشترطه العاقدان من شروط قد تكون منافية لمقاصد الشّارع ومرماه من ذلك العقد الخطير.
وإذا كانت آثار عقد الزواج من عمل الشّارع عند فقهاء المذاهب الأربعة في الجملة، فإن الشروط الجعلية في العقود لا تكون صحيحة إلا إذا كانت متفقة مع الآثار التي رتبها الشّارع الحكيم على ذلك العقد الخطير، وأن ما يشترطه العاقدان من الشروط لا يكون ملزماً إلا إذا كان الشّارع يقرّه أو لا يتنافى مع مقاصده.
وفي حدود ذلك اختلف الفقهاء فيما يكون ملزماً من الشروط وما لا يكون ملزماً منها، ما بين مُضيِّق وموسّع، وانقسموا إلى فرق ثلاث.
أ- فالظاهرية منعوا كل شرط إلا شرطاً جاء النص بإثباته، وذلك تمسكاً منهم بقاعدة أن الشّارع هو وحده المنظّم لآثار العقد، ولا يجوز لإرادة العاقدين أن تتدخل في ذلك مطلقاً.
ب – والجمهور، وهم الحنفية والشافعية وأكثر المالكية: ذهبوا إلى أن الشروط في العقد ممنوعة، إلا ما يكون منها متفقاً مع مقتضى العقد، أو جاء نص بجوازه، أو قضى العرف باعتباره، كتقديم ضمان للمهر، أو ضمان للنفقة، على بعض الأقوال، فإنه مقبول.
ج – أما الحنبلية: فقد ذهبوا إلى أن الأصل في مسألة الشروط في العقد الإباحة، ما لم يكن هناك دليل مانع، فكل شرط يأتي به المتعاقدان يعد صحيحا وملزماً ما لم يكن ممنوعاً من قبل الشّارع.
وتبعاً لهذا الاختلاف فيما يعتبر صحيحاً وما لا يعتبر كذلك من الشروط في مذاهب الفقهاء، فإن الشروط في العقد تكون على ثلاثة أنواع [8]:
1- شروط صحيحة عند الفقهاء إلا الظاهرية منهم، وهي كل شرط يكون جزءاً من مقتضى العقد، كأن تشترط عليه مسكناً لائقاً بها، أو يشترط عليها أن تمكّنه من وطئها، أو يكون مؤكداً لمقتضى العقد، كأن تشترط عليه كفيلاً بالمهر، أو يقوم دليل على وجوب الوفاء به من نص أو عرف، كاشتراط تعجيل جزء من المهر وتأجيل الباقي إلى حين الموت أو الطلاق مثلاً.
وهذه الشروط لا خلاف في صحتها والإلزام بها، لأنها مطابقة لمقتضى العقد، ولا تخالفه في شيء، بل إن أكثرها يعد لازماً ولو لم يشترط في العقد.
2- شروط باطلة عند جميع الفقهاء: وهي كل شرط يتنافى مع مقتضى العقد، كأن تشترط عليه أن لا يطأها، أو يشترط عليها أن لا ينفق عليها، أو أن تنفق هي عليه، فإن هذه الشروط باطلة بالإجماع، لمنافاتها لمقتضى العقد وإرادة الشارع منه.
وهذه الشروط من حيث تأثيرها في صحة العقد على قسمين:
أ- شروط تبطل ويبطل العقد معها، وهي كل شرط يجعل صيغة العقد غير صالحة للإنشاء لدلالتها على توقيته، كأن يتزوجها إلى شهر أو سنة مثلاً.
وقد حصر الحنفية الشروط المبطلة للعقد بما جاء منها مقيداً للصيغة بزمن معين، كأن يتزوجها إلى شهر أو أسبوع، فإن تزوجها على أن يطلقها بعد شهر، كان النكاح صحيحاً والشرط فاسداً، لأن الصيغة تمّت صحيحة ثم طرأ عليها شرط مفسد، فيلغو الشرط وحده، بخلاف ما لو كانت متضمنة له، فإنها تلغو معه.
وذهب الحنبلية إلى التسوية بين أن يكون التوقيت ضمن الصيغة أو مشروطاً بعدها، فإن النكاح يبطل به لتساويهما في المعنى، فسواء عندهم أن يتزوجها إلى شهر، أو أن يتزوجها بشرط طلاقها بعد شهر.
ب- شروط تبطل ويبقى معها النكاح صحيحاً: وذلك كأن تشترط عليه أن لا يطأها، أو يشترط عليها العزل، فإن هذه الشروط باطلة بالإجماع، لمنافاتها لمقتضى العقد، ولكنها تبطل ويبقى العقد معها صحيحا، لاستيفائه كل أركانه وشروطه، ثم لأن عقد النكاح لا يبطل بالشروط الفاسدة، خلافاً للعقود المالية الأخرى، وذلك لما له من خطر وكرامة، وإنما بطل بالتوقيت لما فيه من معنى المتعة، وهي باطلة بنص السنّة، وقد تقدم ذلك في بحث: (فساد النكاح).
3- شروط اختلف الفقهاء في صحتها والالتزام بها، وهي كل شرط لم يقتضه النكاح ولم يمنع منه الشّارع، كما لو اشترطت عليه أن لا يتزوج عليها، أو أن لا يسافر بها، أو اشترط عليها أن لا تزور فلاناً من أقاربها، أو غير ذلك.
فقد ذهب الجمهور من الفقهاء وفيهم الحنفية والشافعية وأكثر المالكية، إلى أن الأصل في هذا النوع المنع إلا ما جاء الدليل على جوازه، كما لو كان ملائماً لمقتضى العقد، كأن تطلب منه كفيلاً بالمهر، أو كان مما جاء النص أو العرف بجوازه، كأن يشترط عليها تأجيل جزء من مهرها، فإن كان كذلك كان شرطاً صحيحاً ملزماً، لأنه في معنى مقتضى العقد، فيصح، وإن كان غير ذلك، فإنه يلغو ويبقى النكاح صحيحاً.
وذهب الحنبلية إلى أن القاعدة في ذلك هي الإباحة، ما لم يقم دليل على المنع، فكل شرط لم يعارض مقتضى العقد، ولم يقم دليل على بطلانه أو تحريمه، فهو صحيح، كما لو اشترطت عليه أن لا يسافر بها، أو أن لا يتزوج عليها، بخلاف ما إذا كان محرماً بالنص، كما إذا اشترطت عليه طلاق ضرتها مثلاً، فإنه باطل، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تَسْأَلْ الْمَرْأَةُ طَلاقَ أُخْتِهَا لِتَسْتَفْرِغَ صَحْفَتَهَا وَلْتَنْكِحْ فَإِنَّ لَهَا مَا قُدِّرَ لَهَا) رواه البخاري، والنهي يقتضي الفساد في المنهي عنه غالباً.
وقال أبو الخطاب من الحنبلية: هو شرط لازم، لأنه لا ينافى العقد، ولها فيه فائدة، فأشبه ما لو شرطت عليه أن لا يتزوج عليها، إلا أن ابن قدامة علق على ذلك بقوله: (وقد ذكرنا ما يدل على فساده)، وهو يعتقد أنه شرط منهي عنه، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه.
فالجمهور يرون أن الأصل حرمة الاشتراط إلا شرطاً جاء الشرع به، والحنبلية يرون صحة الاشتراط إلا شرطاً جاء الشرع بالمنع منه.
ولكل من الطرفين أدلة مستوفاة في الموسوعات الفقهية[9].
وقد اتجه القانون السوري في موضوع الشروط التقييدية اتجاه المذهب الحنبلي، إلا أنه قيده ببعض القيود الخاصة، كما جاء ذلك في المادة (14) الآتي نصها، أما الشروط التي تتضمن صفات معينة فقد سكت عنها، فوجب الرجوع فيها إلى الراجح من مذهب الحنفية، وفقاً للمادة /305/ منه، وقد تقدم ذلك.
نص المادة (14) من قانون الأحوال الشخصية السوري:
1- إذا قُيد عقد الزواج بشرط ينافى نظامه الشرعي، أو ينافي مقاصده، ويلتزم فيه ما هو محظور شرعاً، كان الشرط باطلاً والعقد صحيحاً.
2- وإذا قيد بشرط يلتزم للمرأة مصلحة غير محظورة شرعاً، ولا تمس حقوق غيرها، ولا تقيد حرية الزوج في أعماله الخاصة المشروعة، كان الشرط صحيحاً ملزماً.
3- وإذا اشترطت المرأة في عقد النكاح ما يقيد حرية الزوج في أعماله الخاصة، أو يمس حقوق غيرها، كان الاشتراط صحيحا،ً ولكن ليس بملزم للزوج، فإن لم يف به الزوج فللزوجة المشترطة طلب فسخ النكاح.
ومن استعراض ذلك يتضح أن القانون السوري اتجه اتجاه الحنبلية، إلا أنه خص ذلك بشروط الزوجة وحدها دون شروط الزوج.
وأما التشريع المصري، فقد سكت عن هذا الموضوع بالكلية، ولهذا وجب الرجوع فيه إلى الراجح من مذهب الحنفية، وذلك وفقاً للمادة (1) من القانون المصري رقم (24) لعام 1929م على خلاف التشريع السوري في الشروط التقييدية.
إلا أن المشرع المصري لقانون الأحوال الشخصية الذي أعد عام 1929م في مصر ولم ينفذ، نص في المادة التاسعة منه على ما يلي: (إذا اشترطت الزوجة شرطاً فيه منفعة لها ولا ينافي مقاصد النكاح، كألا يتزوج عليها، أو أن يطلق ضرتها، أو لا ينقلها إلى بلد آخر، صح الشرط ولزم، وكان لها حق فسخ الزواج إذا لم يف لها بالشرط، ولا يسقط حقها في الفسخ إلا إذا أسقطته أو رضيت بمخالفة الشرط.
وقد ذكرت المذكرة التفسيرية لهذا الموضوع بأنها أخذت ذلك من مذهب أحمد بن حنبل، وقصرت ما أخذت على المرأة دون الرجل، لأنه يملك التخلص من عقدة النكاح بالطلاق متى أراد دونها.
د- خيار العيب:
اختلف الفقهاء في ثبوت خيار العيب في عقد النكاح على مذهبين:
1- فذهب الحنفية والظاهرية إلى أن عقد النكاح إذا تم صحيحاً لم يفسخ بالعيب مطلقا، سواء كان العيب في الرجل أو المرأة، وسواء كان قديماً أو حدث بعد العقد، و سواء كان ذلك قبل الدخول أو بعده، وسواء رضي به أحدهما أو لم يرض به، وذلك على خلاف عقود المعاوضات الأخرى.
وقد نصّ صاحب البحر الرائق على ذلك فقال: (ولم يخيّر أحدهما بعيب، أي لا خيار لأحد الزوجين بعيب في الآخر، لأن المستحق بالعقد هو الوطء، والعيب لا يفوته، بل يوجب فيه خللاً، وفواته بالموت قبل التسليم لا يوجب الخيار، فاختلاله أولى) [10].
وجاء في المحلى لابن حزم: (لا يفسخ النكاح بعد صحته بجذام حادث، ولا ببرص كذلك، ولا بجنون كذلك، ولا بأن يجد بها شيئاً من هذه العيوب، ولا بأن تجده هي كذلك، ولا بعنانة، ولا بداء فرج، ولا بشيء من العيوب).
وعلى هذا مذهب عطاء والنخعي وعمر بن عبد العزيز وأبي زياد وأبي قلابة وابن أبي ليلى والأوزاعي والثوري والخطابي، وهو مذهب علي وابن مسعود رضي الله عنهما[11].
إلا أن الحنفية أباحوا للزوجة وحدها التفريق لعيوب ثلاثة في الرجل: هي الجَبُّ والعُنَّة والخِصاء، وزاد عليها محمد بن الحسن الجنون والجزام والبرص، إلا أن ذلك من باب التفريق لا من باب الفسخ للعيب.
2- وذهب المالكية والشافعية والحنبلية والزيدية والجعفرية[12]: إلى أن عقد النكاح يدخله خيار العيب كغيره من العقود المدنية الأخرى، فإذا ما وجد أحد الزوجين الآخر معيباً انتفى لزوم العقد في حقه، وله أن يطلب التفريق بسببه، سواء كان المعيب هو الزوج أو الزوجة، وذلك لأن العقد ورد على المحل سليماً، فإذا ما ظهر معيباًَ تبين أن الإرادة العقدية المنصبَّة على المحل منتفية ومعيبة من الأصل، فيخير من عيبت إرادته أو انتفت، دفعاً لما لحقه من ضرر أو غبن.
إلا أن الفقهاء الذين أخذوا بمبدأ التفريق للعيب في عقد النكاح اتفقوا على تضييق دائرة التخيير بالعيب في عقد النكاح، خلافاً للعقود المدنية الأخرى، وذلك نظراً لما للعلاقة الزوجية من خطر يميزها عن سائر العلاقات المالية الأخرى، فلا يفسخ النكاح إلا بالعيب الفاحش الذي يصعب معه تأمين السكن النفسي بين الزوجين.
وقد اختلف الفقهاء في تعيين الحدّ الفاصل بين العيب الذي يصح معه تخيير الزوج السليم والذي لا يصح معه ذلك، وسيأتي تفصيل ذلك –إن شاء الله تعالى– في باب التفريق للعيوب والأمراض.
وقد اتجه قانون الأحوال الشخصية السوري اتجاه الحنفية، ونصاً على ذلك في المادة 105/ منه، وهذا نصها:
المادة / 105 / للزوجة طلب التفريق بينهما وبين زوجها في الحالتين التاليتين:
1- إذا ما كان فيه إحدى العلل المانعة من الدخول، بشرط سلامتها هي منها.
2- إذا جن الزوج بعد العقد.
كما اتجه القانون المصري الاتجاه نفسه، ونص عليه في المادة /9 – 11/ من القانون رقم /25/ لعام 1920م، وسوف يأتي مزيد بتفصيل لهذا الموضوع في باب التفريق للعيوب والعلل بإذن الله تعالى[13].
هـ- خيار فوات الكفاءة[14]:
تعريف الكفاءة في اللغة والاصطلاح:
الكفاءة في اللغة المساواة، يقال: كُفْءٌ وكُفُؤٌ على وزن فُعْل وفُعُل، وجاء في الحديث الشريف: (شاتان متكافئتان) أي متساويان، رواه الترمذي، وكل شيء ساوى شيئاً فهو مكافئ له.
والكفاءة شرعاً قال في مغني المحتاج هي: (أمر يوجب عدمه عاراً) [15]، وقال في الدرّ المختار: (وهي مساواة مخصوصة أو كون المرأة أدنى) [16]، أو هي (مساواة الرجل المرأة في أمور) [17]، أي أن يساوي الرجل المرأة في بعض الصفات التي نص عليها الفقهاء، وذلك لدفع العار عنها وعن أوليائها، وقد اختلف الفقهاء في حكم الكفاءة في العقد، وفي الصفات المعتبرة في الكفاءة، وهل هي معتبرة في جانب الرجل فقط، على أقوال ومذاهب، كما يلي:
حكم الكفاءة في العقد، ومدى اعتبارها فيه في مذاهب الفقهاء:
اختلف الفقهاء في اعتبار الكفاءة في عقد النكاح وعدم اعتبارها فيه، على قولين:
ذهب الجمهور وفيهم الحنفية والشافعية والحنبلية والمالكية والشيعة والجعفرية والزيدية إلى اعتبار الكفاءة في النكاح، لكنهم اختلفوا في جعلها شرط صحة، أو شرط نفاذ، أو شرط لزوم، كما اختلفوا فيما يعتبر من ضوابط الكفاءة وما لا يعتبر منها.
والقول في اعتبارها في النكاح مروي عن عمر، وابن مسعود، وعمر بن عبد العزيز، وعبيد بن عمير، وحماد بن أبي سليمان، وابن سيرين، وابن عون.
2- وذهب أبو الحسن الكرخي وأبو بكر الجصاص من الحنفية، وسفيان الثوري، وابن حزم، إلى عدم اعتبار الكفاءة في عقد النكاح مطلقاً[18].
التكييف الفقهي لحكم الكفاءة في العقد في مذاهب الفقهاء، وأدلتهم:
مع تسليمنا للجمهور وسيرنا على مذاهبهم في اعتبار الكفاءة، لا بدّ من التساؤل: أتعتبر الكفاءة شرطاً لصحة العقد، فإذا فاتت فسد العقد بحكم الشرع، ولا علاقة لموافقة الزوجة والأولياء أو رفضهم في ذلك، أو تعتبر شرط نفاذ، فيكون العقد مع فواتها موقوفاً على رضا الزوجة أو الأولياء، فإن أجازوه نفذ وإذا منعوه بطل، أم تعتبر شرط لزوم، فيكون العقد مع فواتها صحيحا،ً ولكنه غير لازم في حق مَن لم يرضَ به، ويكون له بذلك حق طلب الفسخ؟
الفقهاء في هذا على مذاهب: فمنهم من ذهب إلى أن الكفاءة شرط صحة في العقد، ومنهم من ذهب إلى أنها شرط نفاذ، ومنهم من رآها شرط لزوم، وانقسموا بذلك إلى مذاهب ثلاثة كالآتي:
أ- تعتبر الكفاءة شرطاً من شروط صحة العقد، فإذا فاتت فسد العقد، سواء أرضيت الزوجة وأولياؤها به أم رفضوا، حكمها في ذلك حكم الإشهاد في عقد النكاح، وكذلك كل شروط الصحة الأخرى، إذا فات واحد منها وقع العقد فاسداً، ووجب التفريق لحق الشرع، وهذا القول رواية عن أحمد، حيث قال: (إذا تزوج المولى عربية فرِّق بينهما) وهو قول سفيان أيضاً.
ب- تعتبر الكفاءة شرط نفاذ: فإذا تزوجت المرأة غير كفء بدون رضا وليّها، أو زوّجها وليّها بغير كفء بدون رضاها، كان العقد غير نافذ، بل موقوفاً على رضاها أو رضا وليّها، إن أجازه نفذ وإن لم يجزه بطل من أساسه، لأن العقد الموقوف هذا حكمه، وهو أحد قولين للشافعي، وأحد روايتين عن أحمد، وهو رواية الحسن بن زياد لدى الحنفية، وهو المفتى به عندهم، خلافاً لظاهر الرواية كما يأتي.
لكن من تقدم من الفقهاء لا يصرحون بأن العقد يكون موقوفاً والحالة هذه، بل ينصّون على أن العقد يعد مع عدم موافقة الوليّ أو الزوجة غير صحيح، وهذا التعبير يقتضي أن تكون موافقة الوليّ هنا شرط صحة لا شرط نفاذ، ولكنني أراها مع ذلك شرط نفاذ في مذهبهم لا شرط صحة، لأنهم يعللون لجعل العقد مع فوات موافقة الوليّ غير صحيح، بأن ذلك محتاج إليه لدفع الضرر عن الأولياء، فليس كل وليّ يحسن الخصومة، وليس كل قاض يعدل، فيجعل العقد غير صحيح لذلك، ولكنني أرى أن جعلها شرط نفاذ يحقق ذلك كله، فلا معنى إلى جعلها شرط صحة، ثم إن الولي قد يسكت وقت العقد، أو لا يعلم به في حينه، والفتاة بالغة ثيب، فإذا سمع به رضي به، ولو جعل العقد موقوفاً على رضاه كانت الإجازة أو الرضا اللاحق للعقد منفذاً له، ويكون العقد بذلك نافذاً، أما إذا اعتبرنا الموافقة من الولي شرط صحة فإن العقد يقع فاسدا ما دامت موافقة الولي لم تتحقق معه، وبذلك لا تلحقه الإجازة، ولكن إذا وافق الوليّ عليه فإنه لا بدّ من تجديده، ولا شك أنه تكلف لا حاجة إليه، ثم إنني لا أعتقد أن الفقهاء يرمون إلى هذا الإجراء أثناء جعلهم العقد بغير موافقة الوليّ غير صحيح، وبذلك يكون تعبيرهم عن العقد الذي جرى بغير موافقة الوليّ بأنه غير صحيح إنما هو تجوز منهم، وإنهم يعنون بذلك أنه غير نافذ، وقد صرّح الإمام محمد من الحنفية بذلك، وجعل العقد موقوفاً على إجازة الولي [19].
ج- تعتبر الكفاءة شرط لزوم، فلو زوجت المرأة نفسها من غير كفء بدون رضا وليّها، أو زوّجها وليّها بدون رضاها، كان العقد صحيحاً نافذاً غير لازم في حق مَن لم يرضَ به. ولكل من له الحق في فسخه أن يطلب من القاضي فسخ هذا العقد، والعقد قبل الفسخ صحيح نافذا تترتب عليه كل أحكام العقد الصحيح، من مهر وإرث ونفقة وغيرها.
وإلى هذا الرأي ذهب الحنفية في ظاهر الرواية عنهم، وهو رواية للحنبلية، وأحد قولين الشافعية، وهو مذهب الإمام مالك، حيث جاء في حاشية الدسوقي قوله: (فإن رضيت – أي المرأة – بغير كفء ولم يرض الوليّ بتركها، فللأولياء الفسخ، ما لم يدخل، فإن دخل فلا فسخ) [20]، وهذا يدل على أن الكفاءة شرط لزوم لا شرط نفاذ أو صحة، وإلا لما صحّ العقد بعد الدخول بدونها.
الترجيــح:
بعد استعراض ما تقدم من الأقوال في جعل الكفاءة شرط صحة أو شرط نفاذ أو شرط لزوم، أرى أن الأوجه دليلاً جعلها شرط لزوم فقط، وذلك لأسباب عدة، هي:
أ- أن العقد مع انعدام الكفاءة مستكمل كل شروطه وأركانه، ولا يمكن جعل الكفاءة شرط صحة فيه، لأنه يقع صحيحاً فيما لو أسقط الوليّ أو الزوجة حقهما في الكفاءة، ولا تأثير لذلك الإسقاط في صحته لو كانت الكفاءة شرط صحة، إذ إن شرط الصحة معناه أنه شرط مستحق للشّارع، فلا يسقط بإسقاط أحد، وهنا ليس كذلك، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جاءته امرأة تدّعي أن أباها زوّجها من غير كفء دون رضاها، فخيّرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفرقة أو البقاء على النكاح، فاختارت البقاء، فأقرّها عليه ولم يفسخ، رواه النسائي وابن ماجه وأحمد.
ب- أن المعنى في اعتبار الكفاءة في النكاح هو رفع العار والدنية عن أولياء الزوجة، أو عنها هي، وذلك يندفع في اعتبار النكاح غير لازم في حقهم مع صحته، فلا حاجة إلى الحكم بفساده.
ج – إن في اعتبار النكاح موقوفاً على رضا الوليّ أو الزوجة كثيراً من المخاطر والأضرار، فكثيراً ما يحصل أن تتزوج فتاة بمن هو دونها في الكفاءة دون علم الأولياء الذين لو علموا لما وافقوا على هذا الزواج، ثم يعلم الأولياء بذلك ويرفضون الموافقة، عندها لا بدّ من جعل العقد فاسدا من أساسه، وبالتالي اضطراب كل الأحكام الناتجة عن تلك العلاقة وذلك الدخول، ويعد الدخول في تلك المدة محرماً، نعم قد لا يجب الحدّ لقيام الشبهة، ولكن هذا لا يعني حل الاتصال في تلك المدة، وكل هذا لا حاجة ولا ضرورة إليه، إذ إن المعنى في دفع العار والضرر عن الأولياء في هذه الحالة يرتفع بفصل الزوجين عن بعضهما من وقت الاعتراض والتفريق بينهما، وذلك حاصل في جعل الكفاءة شرط لزوم في العقد، مع تقرير كل الأحكام السابقة، واعتبار العقد صحيحاً في أصله، وأن كل الأحكام والالتزامات التي ترتبت عليه صحيحة لازمة، ولا محل لما قاله ابن الهمام، من أن الوليّ قد يترك التقاضي أنفة من التردد على أبواب القضاة، ذلك لأن الشّارع أعطاه حق الفسخ، فإذا ما ترك التقاضي كان هو المقصر، ولا يستوجب ذلك الاحتمال تغيير الحكم.
د- إن الصفات المعتبرة في الكفاءة كثيرة ومجتهد فيها، وقد اختلف الفقهاء في اعتبارها على أقوال ومذاهب عدّة، بل إنهم فضلاً عن ذلك اختلفوا في أصل اعتبارها، فإذا ما اعتبرناها شرط صحة أو شرط نفاذ كان العقد محل بلبلة واضطراب قبل موافقة الأولياء أو الزوجة عليه، فلا يدرى أهو صحيح أو فاسد، لأن البعض يعد هذا الزوج كفئاً فيكون ذلك النكاح صحيحاً في نظره، والآخر يعده غير كفء فيكون النكاح فاسداً أو غير نافذ عنده، وبالتالي لا يستطيع الزوجان معرفة ما إذا كانت العلاقة بينهما حلالاً أو حراماً، وذلك مظنة الاضطراب من غير شك.
لذلك كله أرى أن القول بجعل الكفاءة شرط لزوم هو أوفق المذاهب وأعدلها وأقولها دليلاً لما تقدم.
وما تقدم من أحكام الكفاءة كله إنما يعتبر في حق البالغة العاقلة، أما المجنونة أو الصغيرة إذا زوّجها وليّها، فإن الكفاءة تكون شرطاً لصحة النكاح عند الجمهور في بعض الصور دون بعض، ولا تكون شرطاً عند بعضهم الآخر، وقد مرّ بحث ذلك وبيان مذاهب الفقهاء فيه في مطلب ( الفرقة بخيار البلوغ أو الإفاقة).
ضوابط الكفاءة في مذاهب الفقهاء:
اختلف الجمهور القائلون باعتبار الكفاءة في النكاح في الصفات المعتبرة في الكفاءة، على أقوال عدة:
آ - فذهب أبو حنيفة، إلى أن الصفات المعتبرة في الكفاءة في النكاح خمسة، هي: الحرية، والنسب، والمال، والدِّين، وإسلام الآباء،
ب - وقال محمد بن الحسن: الكفاءة في الدين والتقوى ليس بشرط، إلا أن يكون الزوج فاسقاً فسقاً هو شين العرف، ثم أن يُصفع أو يسكر، هذا في رواية عنه، وفي رواية أخرى أنه يرى التدين من الكفاءة، وهي الأصح عنه.
وأما الكفاءة في الحرفة والصناعة، فقد ذهب أبو حنيفة إلى أنها لا تعتبر، وقال أبو يوسف تعتبر، وذهب بعض المشايخ إلى أن هذا الخلاف مبني على اختلاف العرف بين الناس.
وإما العقل، فقد سكت عنه المتقدمون من فقهاء الحنفية، وأما المتأخرون فقد اختلفوا فيه، والأكثرون على اعتبار المجنون غير كف للعاقلة، لأن الجنون يترتب عليه من الفساد والشر والعار ما لا يترتب على الفقر، فكان أولى منه بهذا الحكم.
ج - وذهب الشافعية إلى اعتبار الكفاءة في خمس صفات، هي: السلامة من العيوب المثبتة للخيار عندهم - وقد تقدمت – والحرية، والنسب، والعِفَّة، وهي التدين والصلاح والكف عما لا يحل، والحرفة.
د - وحصر المالكية اعتبار الكفاءة في الدين والحال، والمراد بالدين عندهم التقوى والورع، والمراد بالحال السلامة من العيوب التي توجب الخيار في النكاح للزوجة، ولم ينظروا ما وراء ذلك لأي صفة أخرى.
هـ- والحنبلية اختلفوا في الصفات المعتبرة في الكفاءة على قولين:
فقد روي عن أحمد أنها شرطان: الدين، والنسب، وروي عنه أنها خمس صفات: الدين، والنسب، الحرية، والصناعة، واليسار.
الخلاصة والترجيح:
اتفق أكثر الفقهاء الذين يقولون باعتبار الكفاءة في النكاح فيما مضى على اعتبار الحرية من صفات الكفاءة، وكادوا يجمعون على اعتبارها، ولكنهم اختلفوا فيما بينهم في الصفات الأخرى، هل تعد من صفات الكفاءة المشترطة للزوم النكاح أو صحته، كالنسب والمال والصنعة والدِّين وإسلام الآباء.
فالجمهور على اعتبارها، إلا المال، فلم يعتبره غير الحنفية والحنبلية في قول لهم، وترك الشافعية اعتباره.
وإنني بعد دراسة ما تقدم في كتب المذاهب الفقهية، والاطّلاع على العلة التي من أجلها اشترطوا تحقق هذه الصفات، وهي حسن استمرار العلاقة الزوجية بين الزوجين، وتأمين السكن النفسي بكل معانيه من ودٍّ واحترام متبادل بينهما، يتبين لي أن مرجع اعتبار تلك الصفات إنما هو العرف، فما تعارف الناس عليه أنه خساسة ودناءة كان قيامه مفوتاً للكفاءة، وما لم يتعارف الناس عليه أنه كذلك لم يكن وجوده مفوتاً لها، والفقهاء في تعدادهم للصفات المتقدمة إنما يعبّرون في نظري عن عرف عاشوه ولمسوه في زمنهم، وهو يعني أن الزمن إذا تغير والعرف تبدل كان لابدّ من تغير الحكم لديهم، فما كان في زمنهم معرّة وخساسة واشترطوا الخلوّ عنه لتحقيق الكفاءة ثم تغير العرف وأصبح أمراً معروفاً لا يعير به أحد، فإنه دون شك يسقط اعتباره من صفات الكفاءة في مذهبهم، ذلك أن الأصل في اعتبار الكفاءة –كما تقدم– إنما هو رفع الدنيّة والخسيسة عن الزوجة وأوليائها، وذلك دون شك أمر مرجعه إلى العرف والعادة، وقد عبّر الفقهاء عن هذا المعنى في مناسبات عدّة، منها ما جاء في المغني لابن قدامة، حيث قال: (فإذا أطلقت الكفاءة وجب حملها على المتعارف) [21]، ونصّ ابن عابدين عند عرضه لخلاف أبي حنيفة وأبي يوسف في اعتبار الحرفة من الكفاءة أو عدم اعتبارها منها، فقال: (ذكر الكرخي أن الكفاءة فيها معتبرة عند أبي يوسف، وأن أبا حنيفة بنى الأمر فيها على عادة العرب....... فلا يكون بينهما خلاف في الحقيقة. بدائع) [22].
وما أحسن ما قاله الأستاذ مرعي الحنبلي في ذلك شعرا، حيث قال:
قالوا الكفاءة ستة فأجبتهم قد كان هذا في الزمان الأول
أما بنو هذا الزمان فإنهم لا يعرفون سوى يسار الدرهم[23]
وبما أن كثيراً من الصفات التي عدها الفقهاء في الكفاءة قد زال اعتبارها الآن في عرف كثير من الناس، ولم يبق لها أي اعتبار في نظرهم، كالنسب مثلاً، فإن أنساب الناس قد اختلط بعضها ببعض أيما اختلاط، ولم يعودوا يُعنون بأنسابهم مطلقاً، ولا يتفاخرون بها أبداً، وكذلك المهنة في كثير من البلاد الإسلامية، فإنها لم تعد محل مفاخرة أو ازدراء إلا بعض المهن القلية كالزبال مثلاً، وأما الحرية، فلم يعد لها أي اعتبار، لفقد الرقيق في زماننا.
وقد برز في اعتبار الناس وعرفهم بعض صفات جديدة لم تكن محل مفاخرة في الزمن السابق، كالعلم والثقافة وكثرة الشهادات العلمية مثلاً، أو المنصب الإداري وكثرة الراتب في بلاد كثيرة.
لذلك كله فإنني أرى أن يلجأ في تقدير صفات الكفاءة إلى العرف في كل بلد على حدة، وكذلك في كل زمان لوحده، وأن لا يحدّ فيها حد معين غير قابل للتغيير والتبديل، بل يرجع في ذلك كله إلى المجتمع وما يحمله من أعراف، وما يسير عليه من تقاليد تختلف باختلاف الزمان والمكان، فإن ما يعتبر معرّة في زماننا قد لا يكون كذلك في الزمن المستقبل، وما كان محل فخر واعتزاز في بلدنا، قد لا يكون كذلك في بلد آخر، بل إنني أرى أن العرف يتغير بتغير طبقة المجتمع الواحد في الزمن الواحد، وأصدق مثال على ذلك أن التقوى تعد محل فخر واعتزاز في أوساط المجتمع الشعبي أو المحافظ على ما يسمونه، ولكنها تكون محل معرّة وازدراء في الطبقات التي يسمونها راقية، وهي ليست في نظري إلا طبقات متحللة مبتذلة مترفة هائمة بكل ما هو أجنبي وما هو مستورد من عادات وأعراف وتقاليد.
والقاضي هو الحكم العدل فيما يعدّ من صفات الكفاءة وما لا يعدّ منها، إذ بحكمه تنتهي الخصومات وتنقضي المنازعات، فيترك الأمر لتقديره حسب المجتمع الذي يعيش فيه، والزمن الذي يقضي فيه، والطبقة المترافعة إليه.
وإن كان للفقه أن يصوِّر المجتمع ويحدد ما يدور فيه من عادات وأعراف ليُنير السبيل أمام القضاء، فإنني أرى أن تعتبر ضوابط الكفاءة في مجتمعنا وزماننا بالصفات الآتية: المال- والمستوى الثقافي- والمهنة- والسن، والتقوى بالنسبة للطبقات المتدنية المحافظة على قيمها الروحية وتراثها الإسلامي، المعتزّة به، دون الطبقات المتحللة، فإنها لا تهتم بذلك في عرفها، بل قد تُعيّر بالمتدين بدل أن تفخر به.
وقت اعتبار الكفاءة:
أجمع الفقهاء الذين يعتبرون الكفاءة في النكاح على أن الكفاءة إنما تعتبر وقت العقد فقط لا بعده فإذا ما تم العقد صحيحاً مع توفر شروط الكفاءة في الزوج، فقد تم لازماً، فإذا ما زالت الكفاءة أو أحد شرائطها بعد ذلك لم يكن لأحد طلب الفسخ بسبب فوات الكفاءة، وذلك كما لو تغيرت مهنة الزوج إلى أدنى على وجه تزول به الكفاءة، أو قل ماله حتى عجز عن النفقة، أو غير ذلك، لم يكن لأحد خيار فسخ هذا النكاح بسبب فوات الكفاءة، كما في المبيع بعد البيع، لا يكون للمشتري فيه خيار الرد بالعيب، لأن العقد تم لازماً فلا يفسخ، فكذلك هذا.
الطرف الذي تعتبر فيه الكفاءة:
الكفاءة معتبرة في الرجل فقط دون المرأة عند الجمهور، لأن المرأة وأولياءها يعيرون بالزوج غير الكفء دون الزوج وأوليائه، فإنهم لا يعيرون بالزوجة غير الكفء، ذلك أن المرأة فراش والرجل لا يعيّر بكفاءة الفراش عادة، وكذلك أولياؤه من باب أولى.
وروى في الظهيرية عن أبي يوسف ومحمد من الحنفية أنهما قالا باعتبار الكفاءة في الزوجة أيضاً، اعتباراً بالرجل، لكن جمهور فقهاء الحنفية ردّوا هذه الرواية، فقد ذكر صاحب البحر أن ما في الظهيرية غريب، كما ردّه في البدائع والنهر[24].
ولابدَّّ هنا من الإشارة إلى أن الكفاءة إنما لا تعتبر في الزوجة إذا كان الزوج كبيراً عاقلاً، وقد تزوج بكامل حريته واختياره، أما الصغير أو المجنون إذا زوجه غير الأب والجد من غير الكفء، أو هما وكانا معروفين بسوء الاختيار أو سكرانين عند الحنفية، أو الأب والجد مطلقاً عند بعض الفقهاء، فإن العقد يقع فاسداً غير صحيح، وقد تقدم ذلك في مطلب الفرقة بخيار البلوغ أو الإفاقة.
صاحب الحق في الكفاءة:
تقدم أن الفقهاء في حكم الكفاءة في العقد على ثلاثة مذاهب، فمنهم من يرى أنها شرط صحة فيه، ومنهم من يعدها شرط نفاذ، ومنهم من يعدها شرط لزوم.
فالذين يعدونها شرط صحة يعتبرون أن صاحب الحق فيها هو الشرع، فحيثما وقع العقد مستوفياً شرائطه وأركانه، فاقداً شرط الكفاءة كان فاسداً ولو وافق عليه الأب والجد والزوجة وغيرهم، لأنه قد فات شرط لحق الشرع، فيكون العقد فاسداً معه، كما لو فات شرط الإشهاد أو غيره من شروط الصحة الأخرى تماماً.
والذين عدوا الكفاءة شرط نفاذ أو شرط لزوم، قالوا صاحب الحق في الكفاءة هو الزوجة وأوليائها جميعاً، فإذا زوّجت المرأة نفسها من غير كفء وأسقط الأولياء حقهم في الاعتراض عليه وقع العقد صحيحاً لازماً، فإذا ما وقع دون رضا الأولياء، أو دون رضا الزوجة، وقلنا بأنها شرط نفاذ، وقع العقد موقوفاً على رضاهم بعد العقد، فإن رضوا به بعده نفذ، وإلا فسد من تاريخ انعقاده، وإن قلنا إنها شرط لزوم، فإنه يقع صحيحاً نافذا غير لازم، ويحق لكلّ من الزوجة التي لم ترض به، والأولياء الذين لم رضوا به، طلب فسخه إلى القاضي، وعلى القاضي أن يجيبهم إلى ذلك، ويحكم بفسخ العقد والفرقة بين الزوجين، لكن العقد في هذه الحال يعد قبل فسخه صحيحاً منتجاً لكل آثاره التي رتبها الشّارع على العقد الصحيح، من وجوب العدة،ّ والنفقة، والإرث، وغيرها، بخلاف ما إذا عدّت شرط نفاذ أو شرط صحة، فإن العقد يكون بدون الإجازة والرضا ممّن له حق الإجازة والرضا غير صحيح، ثم إن كانت الكفاءة شرط صحة كان العقد غير صحيح مطلقاً، ولا يقبل الإجازة من أحد، أما إن كانت شرط نفاذ، فيعد العقد غير صحيح بمعنى أنه موقوف، إن أُجيز كان صحيحاً، وإن رفض كان فاسداً من أساسه.
والآن هل الحق في الكفاءة لكل الأولياء، وهل للأولياء فسخ العقد رغم موافقة الزوجة عليه، وهل للزوجة فسخه بعد موفقة الأولياء عليه؟
اختلف الفقهاء في حق الكفاءة، أهي للأولياء جميعاً أو هي حق للأقرب منهم خاصة، على مذاهب:
فذهب الحنفية، إلى أن حق الكفاءة ثابت للأقرب من الأولياء فقط، فلو تزوجت بغير كفء فرضي أبوها به لم يكن لأخيها اعتراض، لأن الكفاءة حق الأولياء، ولا ولاية للأخ مع وجود الأب، فلا يكون اعتراضه بذي اعتبار، فلو تعدد الأولياء في درجة واحدة، كأن يكون أولياؤها إخوتها، وهم أكثر من واحد، فقد ذهب الحنفية إلى أنها حق الجميع على التساوي، فإذا رضي واحد منهم صحّ العقد ولم يكن للآخرين اعتراض عليه، لأن حق الاعتراض يثبت لكل منهم كاملاً، إلا أنه يسقط بإسقاطه من واحد كما في القصاص، لأن ذلك الحق في الكفاءة لا يتجزأ.
هذا رأي الطرفين، وهو المفتى به في المذهب، وذهب أبو يوسف إلى أن الكفاءة حق الأولياء المتساوين في الدرجة على التوزيع بينهم، بمعنى أن أحدهم إذا أسقط حقه في الاعتراض لم يسقط حق الباقين، ويكون لهم طلب فسخ العقد.
وذهب الشافعية والمالكية، إلى ما ذهب إليه الحنفية، من أنه لا يكون للوليّ الأبعد اعتراض مع الولي الأقرب، إلا أنهم يقولون إذا تساووا في الدرجة كان لا بدّ من رضاهم جميعا، كمذهب أبي يوسف، فإذا رضي بعضهم لم يسقط حق الباقين في الاعتراض، لأنه يثبت لهم جميعاً على سبيل التوزيع، فلا يسقط الاعتراض بسبب فواتها إلا بموافقتهم جميعاً[25].
وذهب الحنبلية، إلى أنها حق جمع الأولياء، فلا يسقط حقهم في الاعتراض برضا بعضهم، سواء كانوا في درجة واحدة أو عدة درجات، فلو رضي الأب لم يسقط خيار الأخ، وهكذا، ذلك لأن حق الاعتراض إنما ثبت للأولياء لدفع العار عنهم، فلم يتعين ذلك بالوليّ الأقرب[26].
الترجيح:
وأنا أرى هنا أن الحق مع الشافعية والمالكية وأبي يوسف من الحنفية، في أن الخيار يكون لجميع الأولياء إذا كانوا في درجة واحدة، ذلك أن الدناءة تلحقهم جميعاً من جراء هذا العقد، فإذا ما رضي بالدناءة أحدهم وأسقط حقه في الاعتراض على العقد، لم يكن هناك من داعٍ لإجبار الآخرين على التنازل عن حقهم أو إلغائه وإلحاق الدناءة بهم، ولا يمكن بحال قياس ذلك على القصاص كما ذهب إليه الحنفية، ذلك أن القصاص يسقط إلى بدل وهو الديّة، فلم يفت حق الباقين فيه، بخلافه هنا، فإنه يزول لا إلى بدل، فامتنع القياس، مثله في ذلك كمثل الشفعة، إذا أسقطها جار لم يسقط حق الجار الآخر بذلك، إلا أن يرد بأن العفو عن القصاص لا ينقل الحق إلى الدية إلا إذا كان العفو مشروطا بذلك عند الحنفية.
فإذا كان الأولياء في درجات متفاوتة، كوجود الأخ مع الأب مثلاً، كان حق الاعتراض للأقرب دون الأبعد، لأن حق الاعتراض هنا إنما ثبت للوليّ، ولا ولاية للأخ مع الأب، فلا يكون له حق في الاعتراض على العقد.
وحق الكفاءة يثبت للزوجة كما يثبت لأوليائها، فلو زوّجها وليّها دون رضاً منها، كأن توكله في تزويجها ممّن يشاء، فيزوجها بغير كفء مثلاً، فإن لها حق الاعتراض عند الجميع، لأن الكفاءة تكون حقا للزوجة كما تكون حقا للأولياء، وذلك دفعا للعار عنها، فلا تكون موافقة الوليّ وإسقاط حقه في الكفاءة مسقطا لحقها فيها، وكذلك لو زوجت الفتاة نفسها وهي بالغة ثيب من زوج غير كفء لها، كان لأوليائها الاعتراض دفعاً للعار عنهم، ولا يكون رضاها به مسقطاً لحقهم في الاعتراض.
هل حق الاعتراض على فوات الكفاءة يثبت على التراخي؟
الفقهاء مجمعون على أن حق الاعتراض على فوات الكفاءة يكون على التراخي لا الفور، لأن الأصل أن الحق يثبت للزوجة والأولياء، فلا يسقطه التأخير إلا بدليل، ولا دليل على ذلك، سواء في هذا اعتبرت الكفاءة شرطاً لنفاذ العقد أو شرطاً للزومه، وأما على القول باعتبارها شرط صحة، فإن العقد يعد فاسداً من أصله مع فواتها، ولا يحتاج التفريق فيه إلى اعتراض من أحد، بل على الزوجين أن يتفرقا، وعلى القاضي أن يفرقّ بينهما دون طلب من أحد إن علم بحالهما في أي وقت كان.
والحق في فسخ النكاح لفوات الكفاءة ثابت للزوجة وللأولياء ما لم يظهر منهم دليل الرضا بالزوج صراحة أو دلالة، أما صراحة فكأن يصرّحوا بالموافقة على الزوج بعد علمهم بانعدام الكفاءة، بقولهم: أجزنا الزواج، ونحوه، وأما دلالة فبالنسبة للمرأة يكون بالتمكين من الوطء، أو طلب المهر، أو النفقة، بعد العلم بفوات أوصاف الكفاءة في الزوج.
وهل إذا رضي الوليّ بالزوج في النكاح ليس له الاعتراض عليه في نكاح آخر؟ بمعنى أن المرأة إذا زوّجت نفسها من زوج غير كفء، فرضي الوليّ به، ثم طلقها أو فسخ نكاحها، فعادت إلى نكاحه بعقد جديد، هل للوليّ رفضه في هذا النكاح الجديد؟
ذهب الحنفية إلى أنه إن كان طلقها طلاقاً رجعياً فعادت إليه بالمراجعة قبل مضي العدّة، لم يكن له حق الاعتراض، لأن الطلاق الرجعي لا يقطع النكاح، وإن كان طلقها بائناً أو فسخ نكاحها، أو رجعياً لكنه لم يراجعها في العدّة بل عقد عليها بعد مضيّها، فإن له الاعتراض على الزواج لعدم كفاءة الزوج، ولا يسقط حقه هذا بموافقته لها على الزواج منه أولاً، لأن العقد الثاني نكاح مستقل بعد حلول الفرقة من العقد الأول، فكان له حق الاعتراض[27].
وذهب الشافعية والمالكية، إلى أنه إن رضي الوليّ بالزوج في العقد الأول ثم افترقت عنه بطلاق رجعي أو بائن أو خلع أو فسخ نكاحها، ثم عادت إليه بنكاح جديد، لم يكن للوليّ اعتراض، لأن رضاه بالزوج أولاً يسقط اختياره الفسخ بسببه مطلقاً[28]؛ لأن الزوج الذي رضي به الوليّ أولاً لم يتغير، بخلاف ما لو نكحت من زوج آخر غير كفء لها، فإن له حق الاعتراض بالإجماع.
وهل يسقط حق الوليِّ في الاعتراض بالدخول أو بالحمل أو بالولادة؟
الفقهاء الذين جعلوا الكفاءة شرط نفاذ العقد، لا يسقطون حق الوليّ في فسخ العقد أو إجازته ما لم يصدر منه ما يفيد الرفض أو الإجازة صراحة أو دلالة، ولو طال الأمر واستمر حتى حملت الزوجة أو ولدت، لأن العقد موقوف.
وأما الذين قالوا إن الكفاءة شرط لزوم، فإن العقد عندهم يقع نافذاً بدونها، ولكن للولي المعترض حق طلب الفسخ، فإذا تأخر في طلب الفسخ حتى ولدت الزوجة:
فقد ذهب الحنفية إلى أن الحق في طلب الفسخ يسقط بالولادة، حفاظاً على حق الولد، وتقديماً له على حق الولي في الفسخ، سواء في ذلك أن يكون تأخر الولي في طلب الفسخ لعذر أو لغير عذر.
وذهب بنص الحنفية إلى إقامة ظهور الحمل مقام الولادة فعلاً في حق سقوط خيار الولي، و هو ما ذهب إليه المشروع المصري الذي وضع في عام /1956/ م في المادة (51) منه.
وذهب المالكية إلى أن حق الاعتراض من الأولياء على فوات الكفاءة يسقط بالدخول مطلقاً، وإن لم يحصل حمل أصلاً.
وقد اتجه القانون السوري للأحوال الشخصية إلى الأخذ بمذهب الجمهور في اعتبار الكفاءة وعدها شرطاً من شروط لزوم العقد لا شرط صحة أو نفاذ.
وأما بالنسبة للصفات المعتبرة في الكفاءة فقد اكتفى القانون في ذلك بالإحالة إلى العرف، وذلك للقاضي الفصل فيه، كما أخذ بمبدأ سقوط الخيار بالولادة والحمل، ونص على ذلك في المواد /26 – 32/ منه، وهذا نصها:
المادة 26 / يشترط في لزوم الزواج أن يكون الرجل كفؤاً للمرأة.
المادة 27 / إذا زوجت الكبيرة نفسها من غير موافقة الولي، فإن كان الزوج كفؤاً لزم العقد، وإلا فللولي طلب فسخ النكاح.
المادة 28 / العبرة في الكفاءة لعرف البلد.
المادة 29 / الكفاءة حق خاص للمرأة وللولي.
المادة 30 / يسقط حق الفسخ لعدم الكفاءة إذا حملت المرأة.
المادة 31 / تراعى الكفاءة عند العقد، فلا يؤثر زوالها بعده.
المادة 32 / إذا اشترطت الكفاءة حين العقد، أو أخبر الزوج أنه كفؤ ثم تبين أنه غير كفء، كان لكل من الولي والزوجة طلب فسخ العقد .
وأما التشريع المصري، فقد سكت عن الموضوع بالكلية، فكان لا بد لذلك من الرجوع فيه إلى الراجح من مذهب الحنفية.
و – خيار فوات مهر المثل:
المهر حق للزوجة على زوجها بمجرد العقد الصحيح عليها، سواء ذكر المهر في العقد، أو سكت عنه فيه، أو نفي بنص صريح، إلا أنه لو نص عليه في العقد وكان النص عليه مستوفيا لشروطه، ثبت لها المنصوص عليه (المهر المسمى)، وإذا أغفل النص عليه في العقد، أو نفي، فيثبت لها مهر المثل، ومهر المثل هو مهر أمثالها من أهل أبيها في بيئتها، كأخواتها وعماتها، ممن حالهن مثل حالها، سنا وجمالا وعلما وغير ذلك مما يتفاوت فيه المهر من الصفات.
ومهر المثل حق للزوجة وأوليائها، فإذا زوج الولي من يلي عليها من النساء بأقل من مهر مثلها، فإن كانت قاصرة لم يصح العقد عليها، لما فيه من الإضرار بها، إلا أن يكون الولي أبا أو جدا عصبيا غير معروفين بسوء الاختيار، فيكون زواجه لها بأقل من مهر مثلها في هذه الحال صحيحا لازما، ولا خيار لها فيه، اعتمادا على شفقتهما الكبيرة بها، مما يظن معه وجود مصلحة لها في ذلك تغطي فوات مهر المثل.
فإذا كانت الفتاة كبيرة بالغة عاقلة، وزوجت نفسها بأقل من مهر أمثالها، كان عقدها صحيحا غير لازم لوليها، وله الاعتراض عليه وفسخه، بخيار فوات مهر المثل، لأن ذلك يلحق به عارا لا يجب عليه تحمله، هذا ما لم تحمل أو تلد، فإذا حملت أو ولدت، سقط حقه في طلب الفسخ، تقديما لحق الولد على حقه.
[1] انظر كتابنا فسخ الزواج ص 368 وما بعدها.
[2] فتح القدير 3/267، وتحرير الأحكام 2/340، وكتابنا فسخ الزواج ص 340.
[3] ابن عابدين 3/205.
[4] الدسوقي : 2/281 و285 , انظر الفقه على المذاهب الأربعة : 4/32-37 وهذا التعريف للبكر خاص بالمالكية، وذهب الشافعية والحنبلية إلى اعتبار من زالت بكارتها بزنا ثيباً لا بكراً, وكذلك الحنفية إذا تكرر منها الزنا أو حدَّت.
[5] مغني المحتاج 2/208.
[6] نهاية المحتاج : 6/210.
[7] الشرح الكبير لابن قدامة : 7/544.
[8] انظر المغني : 7/449-452 طبعة الشرح الكبير, والشرح الكبير لابن قدامة: 7 / 539 وما بعدها, والإقناع: 3/189-197، ومغني المحتاج: 3/207-211 , والدسوقي: 2/281-285، والفقه على المذاهب الأربعة: 4/32-37 , ونيل الأوطار: 6/161-163, وفتح القدير: 3/267, وابن عابدين: 2/924.
[9] انظر كتابنا فسخ الزواج ص 348 وما بعدها.
[10] البحر الرائق 4/126.
[11] فتح القدير 3/267.
[12] مغني المحتاج 3/203.
[13] انظر تفصيل ذلك في كتابنا فسخ الزواج ص 275 – 340
[14] انظر بحثاً موسعاً في ذلك كتابنا فسخ الزواج ص 377- 404
[15] مغني المحتاج: 3/165.
[16] الدرُّ على هامش ابن عابدين عليه : 3/84
[17] ابن عابدين: 3/85
[18] تحفة الفقهاء 2/227- 228.
[19] انظر أبو زهرة ص 153.
[20] الدسوقي 2/249.
[21] المغني : 7/375, مع الشرح الكبير.
[22] ابن عابدين : 3/90 طبعة جديدة.
[23] الفقه على المذاهب الأربعة: 4/55
[24] ابن عابدين : 2/490 نقلاً عن البحر الرائق لابن نجيم.
[25] مغني المحتاج : 3/164 – 165.
[26] المغني : 7/ 373 – 374 مع الشرح الكبير.
[27] الفقه على المذاهب الأربعة : 4/56.
[28] مغني المحتاج : 3/164 , والدسوقي : 2/249.