تعريف التركة
التَرِكة في اللغة بفتح التاء وكسر الراء، ما يتركه الميت من ممتلكاته بعد موته، وتخفّف بكسر التاء وسكون الراء([1]).
والتركة في اصطلاح الفقهاء: (ما تركه الميت من الأموال صافياً عن تعلق حق الغير بعين من المال)([2]) هذا ما عرّفها به الحنفية.
وعرّفها المالكية بأنها: (حق يقبل التجزي يثبت لمستحق بعد موت من كان ذلك له)([3]).
وعرفها الشافعية بأنها: (ما يخلّفه الميت).
ومن النظر في التعريفات السابقة نرى أن الشافعية والمالكية متفقون على أن التركة هي كل ما يخلفه الميت، فيدخل في ذلك المال، كالأعيان، والحقول المالية، كخيار العيب، وحقوق الارتفاق، والحقوق الشخصية، كحق الشفعة، وخيار الشرط وحق المطالبة بالقصاص.. وقد نص على ذلك المالكية بالتفصيل، وذلك على خلاف الحنفية الذين يَقْصُرون التركة على ما تركه الميت من أموال خاصة، فيخرج بذلك الحقوق الشخصية، كخيار الشرط، وخيار الرؤية، وحق الشفعة... فإنها لا تدخل في التركة، ولا تورث عندهم، وكذلك المنافع، لأنها ليست أموالاً في مذهبهم، أما الحقوق المالية كخيار العيب، وخيار التعيين، فإنها تدخل في تعريف المال عندهم، فتدخل في التركة وتورث([4]).
هذا ويلحق بالمال هنا باتفاق الجميع، الأموال التي ثبتت للميت بعد موته، إذا كان سببها قد ثبت له في حياته، كما إذا نصب شبكة قبل موته، فوقع فيها صيد بعد موته، فإنه له، ويكون من التركة، وكذلك ديته إذا كان قتلَ خطأ، فإنها تركة عنه.
كما يخرج من التركة بالاتفاق أيضاً، الأموال التي لزمت الميت بعد موته، بسبب قد ثبت في حياته، كما إذا حفر حفرة متعدياً فيها، فسقط فيها إنسان بعد موته فمات، فإن ديته في تركة المتوفى الأول صاحب الحفرة.
ثم إن الحنفية يَقْصرون التركة على ما بقي من مال المتوفى بعد سداد الديون العينية، فما كان مشغولاً من المال بالديون العينية، كالرهن، لم يعتبر من التركة أصلاً، أما الجمهور، فإنهم يعدون التركة مجمل ما تركه الميت، سواء أشغل بدين عيني أم شخصي، أو لم يشغل بدين أصلاً.
ولم يتعرض قانون الأحوال الشخصية السوري، ولا قانون الإرث المصري إلى تعريف التركة، لهذا فلا مناص من تطبيق حكم المادة (305) من القانون السوري القاضية بوجوب الرجوع إلى الراجح من مذهب الحنفية، في كل ما سكت عنه القانون وهو يخص التركة بما تركه المتوفى من مال خاصة، دون سائر الأشياء الأخرى.
إلا أن المال قد سكت قانون الأحوال الشخصية عن بيانه أيضاً، أفيرجع فيه إلى مذهب الحنفية، أم إلى القانون المدني؟ من الناحية القانونية يلزمنا الرجوع إلى القانون المدني، لأنه القانون المعنيُّ بالأموال، دون قانون الأحوال الشخصية، والمال في القانون المدني أوسع منه في مذهب الحنفية، فهو في القانون المدني يشمل الأعيان، والحقوق المالية، والحقوق الشخصية المتعلقة بالمال، كالحقوق الأدبية والفنية... وهو من الناحية الفقهية موافق لمذهب الجمهور في تعريف المال، فهم لا يخصونه بالأعيان كالحنفية، وإنما يدخلون فيه كل ما له قيمة بين الناس([5]).
وهل تدخل الديون العينية في التركة في نظر القانون؟
لم ينص القانون ـ كما تقدم ـ على تعريف التركة، إلا أنه نص في المادة (262) منه، على الحقوق المتعلقة بالتركة، ومن بينها ديون الميت، دون تفريق بين دين عيني أو شخصي، وهو إشارة إلى أن الديون العينية من التركة في نظره، وهو عدول عن مذهب الحنفية في هذا إلى مذهب الجمهور.
ولا بد من التساؤل هنا عن حق الأجل في الديون، أيدخل في التركة ويورث، أم لا يدخل فيها ولا يورث؟
اتفق الفقهاء عدا الظاهرية، على أن الدائن إذا مات، فلا يستحق ورثته ماله من دين على الآخرين الأحياء إلا عند حلول أجله، فلا تحل الديون المؤجلة بموت الدائن.
فإذا مات المدين، فالجمهور على حلول ديونه بموته، مهما كان أجلها متأخراً عن الموت، لأن متعلق الديون الذمة، وهي منتهية بالموت، كما أن الدين يعتمد وثوقاً خاصاً بالمدين، وهو أمر شخصي لا علاقة له بالمال، فلا يورث.
وذهب الحنبلية إلى أن الآجال تورث، فإذا مات المدين، وعليه ديون مؤجلة، فإن ديونه تبقى إلى أجلها، ولا يطالَب الورثة بها إلا عند حلول الأجل، لأن حق الأجل حق ملحق بالمال، فأعطي حكمه، فكان من التركة.
وذهب المالكية في ذلك([6]) مذهباً وسطاً، فقالوا: الأصل في الآجال أن لا تورث، إلا في حالين، فإنها تورث فيهما، ويبقى الدين إلى أجله، وهما:
1- أن ينص الدائن في دينه على عدم حلول الدين بموت المدين، فإنه لا يحل هنا للشرط.
2- أن تكون وفاة المدين بعدوان من الدائن، فإنه لا يحل الدين هنا، معاملة له بنقيض قصده، للقاعدة الفقهية (من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه)([7]).
ولم ينص قانون الأحوال الشخصية السوري على الآجال، ولم يبين حكمها في الإرث، إلا أن القانون المدني السوري نص على ذلك في المواد (855 ـ 857) منه، وبيّن أن الأصل في الأجل أن يورث، فإذا طلب الورثة كلهم أن يحل الأجل، فللقاضي أن يحكم بحله، فإذا طلب بعض الورثة ذلك دون البعض الآخر، تولّى القاضي توزيع التركة على الورثة، وحمَّل كلاًّ منهم من الدين بمقدار حصته، ورتب لكل من الدائنين تأميناً كافياًَ على عقار أو منقول يحفظ لهم حقهم في الدين، وهذا نص المواد المشار إليها:
المادة (855):
للقاضي بناء على طلب جميع الورثة أن يحكم بحلول الدين المؤجل وبتعيين المبلغ الذي يستحقه الدائن مراعياً في ذلك حكم المادة (512).
المادة (856):
* إذا لم يجمع الورثة على طلب حلول الدين المؤجل، تولى القاضي توزيع الديون المؤجلة وتوزيع أموال التركة، بحيث يختص كل وارث من جملة ديون التركة ومن جملة أموالها بما يكون في نتيجته معادلاً لصافي حصته في الإرث.
* ويرتب القاضي لكل دائن من دائني التركة تأميناً كافياً على عقار أو منقول، على أن يحتفظ لمن كان له تأمين خاص بنفس هذا التأمين، فإن استحال تحقق ذلك ولو بإضافة ضمان تكميلي يقدمه الورثة من مالهم الخاص، أو بالاتفاق على أية تسوية أخرى، رتب القاضي التأمين على أموال التركة جميعها.
المادة (857):
يجوز لكل وارث بعد توزيع الديون المؤجلة أن يدفع القدر الذي اختص به قبل أن يحل الأجل طبقاً للمادة (855).
هذا كله إذا كانت الديون لا تستغرق كل التركة، فإذا كانت مستغرقة لها، فقد فصل القانون المدني المصري الجديد ذلك([8])، وبين أن التركة إذا كانت مستغرقة بالدين حلت الديون المؤجلة كلها، على خلاف التركة غير المستغرقة بالدين، ولم يفصل قانوننا المدني ذلك.
وقد ذهب بعض شراح القانون السوري، إلى أن هذا الاتجاه في القانون المدني نحو توريث الأجل في الدين، موافق لمذهب الحنبلية.
وإنني أرى، أن بين الاتجاهين اختلافاً بيناً، ذلك أن الأجل في الدين عند الحنبلية حق للورثة وليس واجباً عليهم، يمارسونه إذا شاؤوا، ويتنازلون عنه إذا أرادوا، أما القانونان المدنيان السوري والمصري، فيجعلان الأجل حقاً للدائنين، وليس لورثة المدين، بدليل اعتبار الأجل سارياً حكماً ما لم يطلب ورثة المدين مجتمعين إسقاطه، وهو ما أشارت إليه المادة (855) من القانون المدني السوري والمادة (894) من القانون المدني المصري.
وعلى هذا لو أراد بعض الورثة أن يدفع ما عليه من الديون التي على التركة، لم يمكَّن من ذلك في القانون المدني ما لم يتفق الورثة جميعاً على ذلك أو توزع التركة فعلاً من قبل القاضي، أما مذهب الحنبلية، فيجيز ذلك مع تقديم وافر الشكر لهذا الوارث، والفارق بين الاتجاه الحنبلي والاتجاه القانوني، أن الدين تثبت عليه فوائد في القانون على خلاف مذهب الحنبلية، ولهذا كان الأجل في القانون حقاً للدائن دون المدين.
أما في المذهب الحنبلي فهو حق للمدين لا الدائن.