أركان الإرث، وأسبابه، وشروطه، وموانعه
لا بد قبل بيان أركان الإرث وأسبابه وشروطه وموانعه من تعريف هذه الأحكام لغة واصطلاحاً، لاستجلاء أثرها في الإرث:
تعريف الركن:
الركن في اللغة: الأساس، والجانب الهام الأقوى، والجزء المكون للماهية ومنه قوله تعالى: {أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيد} [هود: 80]. ويجمع على أركان.
وهو في الاصطلاح الشرعي: ما توقف غيره عليه انعداماً لا وجوداً، وكان داخل الماهية، كالقراءة للصلاة.
تعريف الشرط:
الشَرْط في اللغة العلامة، والشَرَط بفتحتين مثله، وكذلك الشريطة، وجمع الشرط شروط، والشريطة جمعها شرائط.
والشرط في اصطلاح الفقهاء ما ارتبط غيره به انعداماً لا وجوداً، وكان خارج الماهية، كالطهارة لصحة الصلاة.
تعريف السبب:
السبب في اللغة الحَبل، وكل ما يتوصل به إلى الشيء فهو سبب له، وجمعه أسباب.
وهو في اصطلاح الفقهاء ما ارتبط غيره به انعداماً ووجوداً، وكان خارج الماهية، كدخول الوقت لوجوب الصلاة.
تعريف المانع:
المنع في اللغة الحرمان، وهو ضد الإعطاء، والمانع اسم فاعل منه.
والمانع في اصطلاح الفقهاء، ما توقف وجود غيره على انعدامه، وكان خارج الماهية، كالنجاسة لصحة الصلاة.
أركان الإرث
أركان الإرث ثلاثة هي:
1 ـ المورث: وهو المتوفى الذي يبحث في تقسيم ما تركه من الأموال.
2 ـ الوارث: وهو القريب المستحق لما تركه المورث.
3 ـ التركة: وهي الأموال التي تركها المورث بعد وفاته، مما يستحق التوزيع على الورثة.
فإذا انعدم ركن من هذه الأركان الثلاثة، انعدم الإرث أصلاً.
شروط الإرث
يشترط في الإرث شروط متعددة، بعضها يتعلق بالأركان، وبعضها خارج عنها، وهي:
1 ـ وفاة المورث حقيقة، أو حكماً، أو تقديراً.
أما الوفاة الحقيقية: فتكون بخروج الروح منه.
وأما الوفاة الحكمية: فتكون بحكم قضائي بموته، كالمفقود الذي مضى على فقده سنين طويلة، ثم رفعه الورثة إلى القاضي، فقضى بموته.
وأما التقدير: فكالجنين الذي أسقط بجناية على أمه توجب الغرة، وعلى هذا، فالاحتضار، والمرض الطويل الميؤوس من شفائه، والفقد الطويل دون حكم قضائي بالموت، وسقوط الجنين دون جناية على أمه، لا يثبت بها التوارث مطلقاً، لأنها ليست موتاً.
2 ـ حياة الوارث عند موت المورث، حقيقة، أو تقديراً.
فأما الحياة الحقيقية: فهي قيام الروح في البدن، ولو كان ذلك في حالة الاحتضار.
وأما الحياة التقديرية: فكالجنين الذي يولد لمدة الحمل، وعلى هذا، فلا توارث بين الغرقى، والهدمى، والحرقى، الذين جهل تاريخ وفاتهم، فإذا علم تاريخ وفاتهم، ورث المتأخر المتقدم، إذا قام به سبب الإرث، وانتفت موانعه، وكذلك المفقود، فإنه يوقف له نصيبه من مورثه الذي مات أثناء فقده، فإذا لم تظهر حياته، وحكم بموته بعد مدة، ألغيت حصته الموقوفة، وردت إلى سائر الورثة، للجهل بحياته عند موت المورث.
3 ـ العلم بأحكام المواريث، فإنه لا تركة إلا إذا علم طريق توزيعها على حكم الله تعالى، ومن هنا جاءت أهمية علم المواريث، والتشديد من الشارع على العناية به، وأنه نصف العلم.
أسباب الإرث
أسباب الإرث ثلاثة، هي:
1 ـ النكاح:
والمراد به هنا العقد الصحيح، سواء أحصل بعده دخول أو لا، وعلى هذا، فلا توارث بسبب العقد الفاسد، وإن حصل بعده دخول، ولا توارث أيضاً بسبب الدخول بشبهة، ومن باب أولى أن لا توارث بسبب العقد الباطل أو الزنا، وذلك باتفاق الفقهاء.
فإذا طلق الرجل زوجته ثم مات، فإن كان الموت بعد انقضاء عدة الزوجة فلا توارث بينهما، لانقضاء النكاح بالكلية، ويستوي هنا الطلاق الرجعي، والطلاق البائن، والفسخ.
وإن كان موت أحدهما أثناء عدة المرأة، فإن كان الطلاق رجعياً وجب التوارث بالاتفاق، لأن الطلاق الرجعي لا يقطع الزوجية إلا بانقضاء العدة، وذلك لإمكان عودته إليها بدون عقد جديد.
وإن كان الطلاق بائناً، أو فسخاً لم يتوارثا، وإن كانت الزوجة في العدة بعد، لأنهما قاطعان للزوجية من حين الطلاق أو الفسخ.
هذا مذهب الجمهور، وذهب الحنفية إلى أن الزوج إذا طلق زوجته طلاقاً بائناً، ومات وهي في عدتها بعد، فإن كان فارّاً بطلاقها من الإرث، رد عليه قصده، ووجب لها الإرث، وإن كان غير ذلك، لم يجب لها شيء من الإرث، لانقضاء الزوجية، ويكون الزوج فارّاً إذا طلقها في مرض موته، بغير طلب أو رضى منها.
2 ـ النسب:
وهو القرابة الحقيقية، سواء أكانت قرابة ولاد، كالأصول والفروع، أو قرابة حواش، كالإخوة والأعمام والأخوال...
3 ـ الولاء:
وهو نسب حكمي ناتج عن عقد أو عتق، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الولاء لحمة كلحمة النسب)([1]).
والولاء على قسمين، ولاء عتاقة وولاء موالاة، وقد اتفق الفقهاء على الإرث بولاء العتاقة، أما ولاء الموالاة، فقد ذهب إلى سببيته للإرث الحنفية، وخالف الجمهور، وذهبوا إلى نسخه وإلغائه، وعدم جواز الاحتجاج به، في أي من الأحكام الشرعية، ومنها الإرث.
موانع الإرث
موانع الإرث ثلاثة يلحق بها مانع رابع، وهي:
1 ـ الرق:
رق الوارث مانع من موانع الإرث، والرق هو العبودية، وسواء أكانت العبودية كاملة كعبودية القن، أو ناقصة كالمكاتب، وأم الولد، والمدبّر، فإنها مانعة من الإرث مطلقاً، لأن العبد عديم الذمة، ولا يستطيع أن يتملك شيئاً، والإرث تملك، فتكون العبودية مانعة منه لذلك.
والرق في الإسلام غيره لدى الأمم القديمة الأخرى، فهو لدى الرومان واليونان... جزء من النظام الاجتماعي الطبقي البغيض، الذي كانوا يعيشونه، والغاية منه تسخير الرقيق لخدمة الطبقات الأخرى، وتأمين الموارد الاقتصادية لها، أما الرق في الإسلام فما هو إلا دورة تدريبية، ومؤسسة عقابية لإصلاح ومعاقبة نوع من الجناة (أسرى الحرب)، تضمن ردهم إلى طريق الصواب، ثم إعادتهم إلى الحرية مرة ثانية وذلك بحسن معاملتهم على أنهم إخوة وليسوا عبيداً، والإحسان إليهم، وبذل الجهد في تربيتهم، ثم تزويجهم، قال تعالى: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيم * وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ}[النور: 32، 33].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلّفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم عليه)([2]).
2 ـ القتل:
قتل الوارث مورثه ظلماً مانع من موانع الإرث، باتفاق الفقهاء للقاعدة الفقهية (من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه)([3])، إلا أن الفقهاء اختلفوا في نوع القتل المانع من الإرث، وشروطه.
فذهب الحنفية، إلى أن القتل المانع من الإرث، هو القتل المستوجب للقصاص، أو الكفارة، وهو القتل المباشر، سواء أكان عمداً، أم خطأ، أم شبه عمد أم شبه خطأ، ما دام ظلماً بغير حق، فإذا كان القتل بحق، كالقتل قصاصاً، أو كان قتلاً بالسبب أو الشرط، كمن شهد على آخر زوراً، فقتله القاضي بهذه الشهادة، أو حفر لآخر حفرة في الطريق العام، فوقع فيها فمات، أو كان القاتل قاصراً أو مجنوناً، لم يكن ذلك مانعاً من الإرث، سواء أتعمد القاتل فيه القتل، أم لا، على السواء.
وذهب المالكية، إلى أن القتل المانع من الإرث، هو القتل العمد العدوان، سواء أكان مباشراً أم بالسبب، فإذا كان قتلاً بحق، أو كان خطأ، أو كان القاتل صغيراً أو مجنوناً، لم يكن مانعاً من الإرث، سواء أكان مباشراً أم غير مباشر.
وذهب الحنبلية إلى أن القتل المانع من الإرث، هو القتل المستوجب للقصاص، أو الدية، أو الكفارة([4]).
وقال الشافعي: القتل مانع من الإرث مطلقاً، لإطلاق النصوص.
وقد أخذ قانون الأحوال الشخصية السوري بنحو من مذهب المالكية فنص في الفقرة (آ) من المادة (264) على ما يلي: "يمنع من الإرث ما يلي:
آ ـ موانع الوصية المذكورة في المادة (223)"، ونص المادة (223) هو ما يلي: "يمنع من استحقاق الوصية الاختيارية والواجبة:
* قتل الموصى له للموصي قصداً، سواء أكان القاتل فاعلاً أصلياً، أو شريكاً، إذا كان القتل بلا حق ولا عذر، وكان القاتل عاقلاً بالغاً من العمر خمس عشرة سنة.
* تسببه قصداً في قتل الموصي، ويعتبر من التسبب شهادته عليه زوراً إذا أدت إلى قتله".
كما أخذ القانون المصري بالاتجاه نفسه، فنص في المادة (5) منه على ما يلي: "من موانع الإرث قتل المورث عمداً، سواء أكان القاتل فاعلاً أصلياً أم شريكاً أم كان شاهد زور أدت شهادته إلى الحكم بالإعدام وتنفيذه، إذا كان القتل بلا حق ولا عذر، وكان القاتل عاقلاً بالغاً من العمر خمس عشرة سنة، ويعد من الأعذار تجاوز حق الدفاع الشرعي".
3 ـ اختلاف الدين:
اتفق الفقهاء على أن اختلاف الدين كفراً وإسلاماً مانع من موانع الإرث، فلا توارث بين مسلم وغير مسلم، مهما كان دين غير المسلم هذا، سواء أكان المورث هو المسلم، أم غير المسلم، فإذا مات أب مسلم مثلاً لم يرث ابنه غير المسلم، يهودياً كان، أم نصرانياً، أم مجوسياً، أم ملحداً.. ويرثه أولاده وورثته المسلمون فقط، فإذا كان الأب المتوفى غير مسلم، لم يرثه أولاده وأقرباؤه المسلمون، ولكن غير المسلمين فقط.
ذلك أن الكفر قاطع للنسب حكماً، لقوله تعالى في قصة سيدنا نوح: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 46] وإذا انقطع النسب، زال سبب الإرث، فامتنع الإرث لذلك، وسواء في هذا اتحدت الدار بين الوارث والمورث، أم اختلفت.
فإذا اختلف الدين بين كافرين، بأن كان المورث يهودياً وكان الوارث نصرانياً، أو العكس أو كان أحدهما مشركاً، أو ملحداً، لم يمنع ذلك من التوارث بينهما، للقاعدة: "الكفر ملة واحدة"، ولقوله تعالى: {وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} [الأنفال: 73].
هذا إذا اتحدت الدار بين المورث والوارث من الكفار، فإذا اختلفت الدار بينهما، بأن كان الوارث في دار الحرب، والمورث في دار الإسلام، أو العكس، فلا توارث بينهما لاختلاف الدار، إلا أن تكون أنظمة بلديّ الوارث والمورث لا تمنع التوارث بينهما، فيصح التوارث بينهما عندئذ.
وقد أخذ قانون الأحوال الشخصية السوري بذلك، ونص عليه في المادة (264) منه، ونصها:
"يمنع من الإرث ما يلي:
آ ـ موانع الوصية المذكورة في المادة (223).
ب ـ اختلاف الدين بين المسلم وغيره.
جـ ـ لا يمنح للأجنبي حق الإرث، إلا إذا كانت قوانين بلاده تمنح مثل ذلك للسوريين".
كما أخذ بذلك القانون المصري أيضاً، ونص عليه في المادة (6) منه.
إلا أن قانون الأحوال الشخصية السوري أطلق الأجنبي، ولم يقيده بغير المسلمين، وهو خطأ إذا ما فهم على إطلاقه حيث لم يقل به أحد من الفقهاء، وما أظنه إلا ضعف صياغة غير مقصود.
4 ـ الردّة:
وهي الخروج من دين الإسلام، سواء أكان ذلك إلى غيره من الأديان الأخرى كالمسيحية واليهودية، أم لا إلى دين، كالإلحاد، والزندقة، سواء أكان ذلك بالقول، كالنطق بكلمة الكفر بأن يقول هو يهودي أو نصراني...، أو إنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة، كإنكار فريضة الصلاة، أو الصوم... أو كان بالفعل، بأن يأتي ما هو مناف لأحكام الإسلام بالكلية، بأن يصلي صلاة الكفار، أو يلبس لباس رهبانهم الخاص بهم، أو يلقي مصحفاً في قاذورة استهزاء به...
والردّة ليست مانعاً أصلياً من موانع الإرث، ولكنها تابع لاختلاف الدين، فإذا ما ارتدّ المسلم نظر، فإن عاد إلى الإسلام بعد ردّته، ثم مات وهو مسلم، ورثه ورثته من المسلمين دون غيرهم، لزوال المانع، وإن مات مصرّاً على ردّته، فماله الذي جناه في إسلامه، قبل ردّته، إرث عنه لورثته المسلمين، باتفاق الحنفية، أما أمواله التي جناها في ردّته، فهي على مذهب أبي حنيفة فيء، يوضع في بيت مال المسلمين، كاللقطة، إذا كان المورث ذكراً، فإذا كان أنثى فهي لورثتها المسلمين أيضاً، وعلى مذهب الصاحبين، إرثه لورثته المسلمين مطلقاً([5]).
وذهب الشافعية والجمهور، إلى أن المرتد لا يورث مطلقاً، إلا أن يعود إلى الإسلام قبل موته([6]).
وقد سكت قانون الأحوال الشخصية السوري، وكذلك القانون المصري، عن ذلك، فوجب الرجوع إلى القول الراجح في مذهب الحنفية، وهو هنا قول الإمام أبي حنيفة الأول، لتقديم الفقهاء له دون ترجيح غيره.