الفتوى والمفتون .. في عصر مفتوح (2)
في لقاء سابق مع الأستاذ الدكتور أحمد الحجي الكردي تحدثنا عن الفتوى والمفتين والمستفتين وما لهما من أهمية كبيرة في الشريعة الإسلامية، وخطورة عظيمة في ذات الوقت، حيث تحدثنا عن موقف الإسلام من الفتوى والمفتين، وماذا عن وضع الفتوى في عصر السماوات المفتوحة ...
وفي هذا اللقاء نستكمل ما بدأناه مع الأستاذ الدكتور أحمد الحجي الكردي الخبير بالموسوعة الفقهية الكويتية، وعضو لجنة الإفتاء بوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت لنقف معه عدة وقفات حول الفتوى والمفتين في عصر مفتوح ...
• فضيلة الدكتور – حفظكم الله – استكمالاً لما بدأناه في لقاء سابق حول الفتوى والمفتين في عصر مفتوح، ماذا عن بعض الآداب التي بجب أن يتحلى بها المفتي ؟
بداية نشكر لكم هذا الاهتمام بهذه الموضوعات الحساسة، في عالم مفتوح أصبحت فيه الكلمة أخطر مما كانت عليه من قبل؛ لسرعة وصولها لمتلقيها في عصر السماوات المفتوحة، كما يقال ..
وعوداً على بدء فإن المفتي ينبغي عليه أن يلتزم بعدة أمور نستطيع أن نسميها آداب المفتي كما تفضلتم وهي :
1. ينبغي للمفتي أن يحسن زيّه، مع التّقيّد بالأحكام الشّرعيّة في ذلك، فيراعي الطّهارة والنّظافة، واجتناب الحرير والذّهب والثّياب الّتي فيها شيء من شعارات الكفّار، وذلك لأنّ تأثير المظهر في عامّة النّاس لا ينكر، وهو في هذا الحكم كالقاضي.
2. وينبغي له أن يحسن سيرته، بتحرّي موافقة الشّريعة في أفعاله وأقواله، لأنّه قدوة للنّاس في ما يقول ويفعل، فيحصل بفعله قدر عظيم من البيان، لأنّ الأنظار إليه مصروفة، والنّفوس على الاقتداء بهديه موقوفة .
3. وينبغي له أن يصلح سريرته ويستحضر عند الإفتاء النّيّة الصّالحة من قصد الخلافة عن النّبيّ – صلى الله عليه وسلم - في بيان الشّرع، وإحياء العمل بالكتاب والسّنّة، وإصلاح أحوال النّاس بذلك، ويستعين باللّه على ذلك، ويسأله التّوفيق والسداد ، وعليه مدافعة النّيّات الخبيثة من قصد العلوّ في الأرض والإعجاب بما يقول، وخاصّةً حيث يخطئ غيره ويصيب هو.
4. وعليه أن يكون عاملاً بما يفتي به من الخير، منتهياً عمّا ينهى عنه من المحرّمات والمكروهات، ليتطابق قوله وفعله، فيكون فعله مصدّقاً لقوله مؤيّداً له.
5. أن لا يفتي حال انشغال قلبه بشدّة غضب أو فرح أو جوع أو عطش أو إرهاق أو تغيّر خلق، أو كان في حال نعاس، أو مرض شديد، أو حرّ مزعج، أو برد مؤلم، أو مدافعة الأخبثين ونحو ذلك من الحاجات الّتي تمنع صحّة الفكر واستقامة الحكم.
6. إن كان عنده من يثق بعلمه ودينه فينبغي له أن يشاوره، ولا يستقلّ بالجواب تسامياً بنفسه عن المشاورة، لقول اللّه تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} .
7. وأخيراً المفتي كالطّبيب يطّلع من أسرار النّاس وعوراتهم على ما لا يطّلع عليه غيره، وقد يضرّ بهم إفشاؤها أو يعرّضهم للأذى فعليه كتمان أسرار المستفتين، ولئلاّ يحول إفشاؤه لها بين المستفتي وبين البوح بصوره الواقعة إذا عرف أنّ سرّه ليس في مأمن.
• وماذا عن آداب المستفتي مع المفتي ؟
ينبغي للمستفتي حفظ الأدب مع المفتي، وأن يجلّه ويعظّمه لعلمه ولأنّه مرشد له. ولا ينبغي أن يسأله عند همّ أو ضجر أو نحو ذلك ممّا يشغل القلب ، ويكره كثرة السّؤال، والسّؤال عمّا لا ينفع في الدّين، والسّؤال عمّا لم يقع، وأن يسأل عن صعاب المسائل، وعن الحكمة في المسائل التّعبّديّة، ويكره أن يبلغ بالسّؤال حدّ التّعمّق والتّكلّف، وأن يسأل على سبيل التّعنّت والإفحام وطلب الغلبة في الخصام، لما في الحديث: ( إنّ أبغض الرّجال إلى اللّه الألدّ الخصم)
• فضيلة الدكتور .. هناك بعض الأمور التي يجب على المفتي أن يراعيها عند معاملته مع من جاء يطلب فتواه ، فماذا تقول ؟
ينبغي للمفتي مراعاة أحوال المستفتي، وفي هذه الأمور وجوه منها:
1. إذا كان المستفتي بطيء الفهم، فعلى المفتي التّرفّق به والصّبر على تفهّم سؤاله وتفهيم جوابه.
2. إذا كان بحاجة إلى تفهيمه أموراً شرعيّةً لم يتطرّق إليها في سؤاله، فينبغي للمفتي بيانها له زيادةً على جواب سؤاله، نصحاً وإرشاداً،
3. أن يسأله المستفتي عمّا هو بحاجة إليه فيفتيه بالمنع، فينبغي أن يدلّه على ما هو عوض منه، كالطّبيب الحاذق إذا منع المريض من أغذية تضرّه يدلّه على أغذية تنفعه.
4. أن يكون عقل السّائل لا يحتمل الجواب، فيترك إجابته وجوباً، لقول عليّ رضي الله عنه: حدّثوا النّاس بما يعرفون، أتريدون أن يكذّب اللّه ورسوله ؟. وقال ابن مسعود: ما أنت بمحدّث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلاّ كان لبعضهم فتنةً.
5. ترك الجواب إذا خاف المفتي هلاكاً أو فساداً أو فتنةً يدبّرها المستفتي أو غيره.
• وماذا عن صيغة الفتوى التي يريد المستفتي معرفتها من المفتي ، كيف تكون ؟
حتى تكون الفتيا سليمة بإذن الله ينبغي لها عدة أمور منها :
أ - تحرير ألفاظ الفتيا، لئلاّ تفهم على وجه باطل، على أنّ الّذي ينبغي للمفتي إن كان في المسألة تفصيل: أن يستفصل السّائل ليصل إلى تحديد الواقعة تحديداً تامّاً، فيكون جوابه عن أمر محدّد، وهذا أولى وأسلم.
ب - أن لا تكون الفتوى بألفاظ مجملة، لئلاّ يقع السّائل في حيرة.
جـ - يحسن ذكر دليل الحكم في الفتيا سواء كان آيةً أو حديثاً حيث أمكنه ذلك، ويذكر علّته أو حكمته، ولا يلقيه إلى المستفتي مجرّداً، فإنّ الأوّل أدعى للقبول بانشراح صدر وفهم لمبنى الحكم، وذلك أدعى إلى الطّاعة والامتثال.
د - لا يقول في الفتيا: هذا حكم اللّه ورسوله إلاّ بنصّ قاطع، أمّا الأمور الاجتهاديّة فيتجنّب فيها ذلك.
هـ - ينبغي أن تكون الفتيا بكلام موجز واضح مستوف لما يحتاج إليه المستفتي ممّا يتعلّق بسؤاله، ويتجنّب الإطناب فيما لا أثر له، لأنّ المقام مقام تحديد، لا مقام وعظ أو تعليم أو تصنيف.
• فضيلة الدكتور .. هل يلزم المستفتي العمل بقول المفتي؟
لا يجب على المستفتي العمل بقول المفتي لمجرّد إفتائه، وهذا هو الأصل، ولكن قد يجب في أحوال، منها:
أ - أن لا يجد إلاّ مفتياً واحداً، فيلزمه العمل بقوله. وكذا إن اتّفق قول من وجده منهم، أو حكم بقول المفتي حاكم.
ب - أن يفتيه بقول مجمع عليه، لعدم جواز مخالفة الإجماع.
جـ - أن يكون الّذي أفتاه هو الأعلم الأوثق.
د - إذا استفتى المتنازعان في حقّ فقيهاً، والتزما العمل بفتياه، فيجب عليهما العمل بما أفتاهما.
• فضيلة الدكتور .. وأخيراً ماذا لو كانت فتوى المفتي لم يطمئن إليها قلب المستفتي ؟
المستفتي لا تخلّصه فتوى المفتي من اللّه إذا كان يعلم أنّ الأمر في الباطن بخلاف ما أفتاه، كما لا ينفعه قضاء القاضي بذلك، لحديث النبي – صلى الله عليه وسلم – : (من قضيت له بحقّ أخيه شيئاً بقوله، فإنّما أقطع له قطعةً من النّار فلا يأخذها) ، والمفتي والقاضي في هذا سواء، ولا يظنّ المستفتي أنّ مجرّد فتوى الفقيه تبيح له ما سأل عنه، سواء تردّد أو حاك في صدره، لعلمه بالحال في الباطن، أو لشكّه فيه، أو لجهله به، أو لعلمه بجهل المفتي، أو بمحاباته له في فتواه، أو لأنّه معروف بالفتوى بالحيل والرّخص المخالفة للسّنّة، أو غير ذلك من الأسباب المانعة من الثّقة بفتواه وسكون النّفس إليها، فإن كان عدم الثّقة والطّمأنينة لأجل المفتي يسأل ثانياً وثالثاً حتّى تحصل له الطّمأنينة، فإن لم يجد فلا يكلّف اللّه نفساً إلاّ وسعها، والواجب تقوى اللّه بحسب الاستطاعة ، كما قال ابن القيم – رحمه الله – في هذا الشأن .
وفي الختام نشكر باسمكم الأستاذ الدكتور أحمد الحجي الكردي الخبير بالموسوعة الفقهية الكويتية، وعضو لجنة الإفتاء بوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت، على هذه الوقفات حول موضوع الفتوى والاستفتاء، ونسأل الله العلي القدير أن يفقهنا في ديننا، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه ، وأن يرزقنا العلم النافع، والرأي السديد، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الكرام ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .