ظاهرة الانتحار
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم، على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والتابعين، ومن تبع هداهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فالانتحار معناه في اللغة والعرف قتل الإنسان نفسه بغير سبب يبرر ذلك، وهو حرام شرعا، بل هو من أشد المحرمات، لقوله تعالى: (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ) (الإسراء: من الآية33)، وقوله تعالى: (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً)(النساء: من الآية29).
وسواء في ذلك قتل الإنسان نفسه أو قتله غيره، لأن الإنسان لا يملك نفسه حتى تطلق يده فيها، بل المالك للجميع هو رب العالمين، وقد كرم الله تعالى الإنسان وجعله أكرم مخلوقاته، فقال جل من قائل: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) (الإسراء:70) وقوله سبحانه: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) (المائدة:32).
وقد خلق الله تعالى البشر لغاية سامية رفيعة نبيلة هي عبادته سبحانه وتمجيده، بل ليس لهم غاية غيرها، قال جل من قائل: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) (الذاريات:56-57) فإذا قتل الإنسان نفسه، أو قتل غيره فقد عطلها عن القيام بواجبها الذي خلقها الله تعالى من أجله وهو عبادته سبحانه وتمجيده، فاستحق على ذلك العقاب الشديد من الله تعالى، وهو العذاب في نار جهنم والعياذ بالله تعالى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (من قتل نفسه بحديدة فحديدته بيده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ومن قتل نفسه بسم فسمه بيده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يردى في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا) رواه الإمام أحمد.
أما من تصدى للقتل في سبيل هدف سام، كالجهاد في سبيل الله تعالى وإعلاء كلمته عندما يتوجب عليه ذلك بدعوة من إمام عادل لقتال عدو لا يندفع إلا بذلك، فمات في هذا السبيل فهو شهيد في سبيل الله تعالى، والموت في سبيل الله تعالى وابتغاء مرضاته وإعلاء كلمته هو قمة ما يسعى إليه مؤمن، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة:111) ومرتبة الشهداء مرتبة عليا لا يدانيها أي مرتبة أخرى، هذا ما داموا يبتغون من جهادهم وقتالهم مرضاة الله تعالى وإعلاء كلمته وتثبيت دينه، وإلا لم يكن لهم غير العذاب الشديد، فقد أخبرنا سليمان بن حرب حدثنا شعبة عن عمرو عن أبي وائل عن أبي موسى رضي الله عنه قال: ثم جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: الرجل يقاتل للمغنم والرجل يقاتل للذكر والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ قال: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) رواه البخاري.
وكذلك من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر بالكلمة الطيبة والموعظة الحسنة، والدليل والبرهان، ونصح لله تعالى فقتل أو أوذي في سبيل ذلك، فهو شهيد في سبيل الله تعالى، والشهداء قمة المؤمنين، قال تعالى: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (آل عمران:169-170).
وقد ابتدع بعض المحدثين فكرة غريبة تقبلتها بعض المجتمعات ونبذتها مجتمعات أخرى، وهي ما يسمى بقتل الرحمة، ومن ذلك قتل المريض الميؤوس من شفائه، بناء على رغبته وطلبه أو رغبة أهله، للتخلص من مرضه، فقد أجازتها بعض تشريعات الدول الغربية، ومنعتها تشريعات أخرى، وهي في الإسلام انتحار ممنوع، وقد تقدم جزاؤه عند الله تعالى، ولا يمكن أن يأذن الإسلام به مهما اشتد المرض والألم بالإنسان، فباب الأمل بالله تعالى مفتوح، وباب رحمته لكل من يدعوه، قال تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) (غافر:60).
فلا يجوز لإنسان أن يقتل نفسه، ولا أن يطلب من غيره قتله بأي وسيلة كان، ولأي سبب كان، كما لا يجوز لغيره موافقته على ذلك، فإذا وافقه عد قاتلا وعوقب على ذلك.
وكما حرم الإسلام قتل النفس وقتل الغير بغير حق جعل الإعدام في الدنيا جزاء لمن قتل غيره عمدا، وعذاب جهنم لمن قتل نفسه عمدا، قال تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:179)، وقال جل جلاله: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) (المائدة:32).
كما رتب الشارع الإسلامي الدية على من قتل غيره خطأ بغير قصد، وألزمه بالكفارة، وهي صيام شهرين متتابعين.
ومما تقدم تتجلى قيمة النفس الإنسانية في عرف التشريع الإسلامي، فهي أعز ما يملكه المسلم، لأنها سبيله إلى الجنة إذا أحسن العمل، وهي قائده إلى جهنم وبئس المصير إذا أساء العمل، فإذا ضحى بها رخيصة من غير هدف سام كان عاصيا لله تعالى أشد المعصية، ومن بذلها بها في سبيل هدف سام رفيع كان قمة المجاهدين، وقد كان العرب قبل الإسلام يعرفون هذه المعاني وهذه المثل، فجاء الإسلام فثبت ذلك في نفوسهم، وضبطها بقيودها وقواعدها القويمة، قال شاعرهم:
إنا لنرخص يوم الروع أنفسنا ولو نسام بها في الأمن أغلينا
والحمد لله رب العالمين.
الإثنين 6 صفر،1427هـ و 6/03/2006م
أ.د.أحمد الحجي الكردي
خبير في الموسوعة الفقهية وعضو هيئة الفتوى
في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في دولة الكويت