العنوسة
أسبابها وعلاجها
في التشريع الإسلامي
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم، على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والتابعين، ومن تبع هداهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فالعنوسة والتعنس معناه في اللغة التأخر في الزواج إلى سن متأخرة، للرجل والمرأة، فإذا تأخر زواج البنت حتى كبر سنها يقال لها عانس، وجمعها عُنُس وعُنَّس وعوانس، وكذلك الرجل إذا تأخر زواجه، يقال له عانس أيضا، ولكنه في النساء أكثر استعمالا.
والتأخر في الزواج أمر يختلف باختلاف المجتمعات وتقاليدها وطبيعة تركيبها الاجتماعي، فمن المجتمعات من يعد الرجل متعنسا إذا تجاوز الخامسة والعشرين قبل الزواج، ومنهم من يعد ابن الأربعين غير متعنس بعد، ومنهم من يعد المرأة التي تجاوزت العشرين متعنسة، ومنهم من يعد بنت الثلاثين أو الخامسة والثلاثين غير متعنسة بعد.
والعنوسة قديمة في المجتمعات الإنسانية، وهي ظاهرة مزعجة للمجتمعات جميعا، تقض مضجعها، وتستنفر الهمم لمعالجتها، لأن المرأة العانس والرجل العانس لا يعيشان في المجتمع عيشة عادية سعيدة، بل هما تعيسان ولا يشعران بالسعادة، وشعورهما هذا ينعكس دائما على حسن تعاملهما مع الآخرين، فتجدهما يتصرفان تصرفات نابعة عن ضجر في النفس، وغيرة ممن يسَّر الله تعالى لهم سبل الزواج والسعادة، وهذه الغيرة قد تنقلب حقدا وضغينة، وتنتهي إلى تصرفات شاذة مقلقة لأمن المجتمع، وحسن سير الأعمال فيه.
والعنوسة لها أسباب كثيرة، بعضها يتعلق بالعانس نفسه، وبعضها يتعلق بالمجتمع الذي يعيش فيه.
فأما ما يتعلق بالعانس نفسه، فهو عدم توازنه الصحي، فقد يكون العانس -رجلا كان أو امرأة- غير مكتمل النمو الجسدي، فلا يرغب أحد في الزواج منه، أو كان مصابا بعاهة تحول دون الرغبة فيه من الجنس الآخر، كالعمى والعرج والحَوَل والبرص، وغير ذلك من العاهات الخَلقية أو المكتسبة، وربما يكون غير منجب، فتقل الرغبة فيه، أو يكون مصابا بأمراض معدية، أو منفرة، أو غير ذلك، فيحول ذلك بينه وبين الإقدام على الزواج، وربما يكون مصابا بأمراض نفسية تحول بينه وبين الانسجام مع أفراد مجتمعه، وتعاونه معهم، وانتمائه إليهم، فيتعذر عليه الإقدام على الزواج، وربما يجد الإنسان بعض أقاربه يعاني من زواجه ويتعثر فيه لبعض الأسباب المالية أو الخُلُقية أو الاجتماعية أو غيرها، فيتأثر بذلك، ويصبح عنده رفض للزواج، وكره له.
وهناك أسباب خارجة عن طبيعة نفس العوانس، مثل غلاء المهور وانتشار البطالة، وكثرة متطلبات الحياة الزوجية، وتعنت أولياء أمور الشباب والشابات في الموافقة على زواج أولادهم إلا بشروط يعجزون عن تأمينها، وأمثال ذلك، ومنها رغبة الفتيات في متابعة العلم والمعرفة والحصول على الشهادات العالية، مما يدفعهن إلى التأخر في الموافقة على الزواج.
كل ذلك مما يدعو الشباب والشابات إلى التريث والتأخر في الإقدام على الزواج وبناء الأسرة، وربما تسبب ذلك التأخر في استمرار عنوستهم بعد أن يكون قطار الزواج قد فاتهم بالكلية، لتقدم سنهم، وقلة الرغبة فيهم، أو انعدامها أحيانا.
ونظرا لما للعنوسة من أخطار وأضرار على العانس نفسه، وعلى المجتمع كله، مما تقدمت الإشارة إليه، نرى العلماء والعقلاء يسارعون دوما إلى معالجة هذه الظاهرة القديمة الحديثة، الباقية المستمرة، في كل المجتمعات، وإن تفاوتت سعة وضيقا وانتشارا في مجتمع عنها في مجتمع آخر.
ومن الحلول الناجحة في معالجة ظاهرة العنوسة، ما يلي:
1)) التربية البيتية المتوازنة للأولاد منذ الصغر، حيث يربى الأولاد على حياة خُلُقية سليمة، فلا يفرق الوالدان بين الذكور والإناث في المعاملة، ولا يفرقون بين طفل وأخيه أو أخته في التقديم في العناية والرعاية وتقديم الهدايا والتسامح في معالجة بعض الأمور، لأن التفاوت في المعاملة بين الأولاد يورث بينهم حقدا وضغينة بعضهم على بعض، فينتج عن ذلك أمراض اجتماعية قد تنتهي إلى كراهة الجنس الجنس الآخر، وينتهي الأمر إلى عدم الرغبة في الزواج بعد بلوغ سنه، وتكون العنوسة.
2)) التقاليد الاجتماعية، ومنها التغالي في تكاليف الزواج، وتحميلها كلها على أحد الطرفين الزوج أو الزوجة دون الآخر، فبعض المجتمعات تفرض على الزوج أو الزوجة -بحسب دينها وتقاليدها الاجتماعية- دفع تكاليف باهظة، من أجل الدخول إلى قفص الزوجية، من مهر وهدايا ومسكن ومفارش وحفلات، وغير ذلك، مما يعجز عن تأمينه كثير من الشباب والشابات، حتى إن بعض المجتمعات تفرض على الزوجة أن تفرش البيت وحدها على حسابها، فتجد الأهل يضجون عندما يرزقون ببنت أو عندما يكثر لديهم البنات، لأنهم في المستقبل القريب سوف يكلفون بتكاليف لا يستطيعون القيام بها ولا تأديتها على وجه يحمي وجوههم من اللوم والعتب، بل إن أحدهم قال لي: في مجتمعنا لا يُخطب من البنات إلا الثريات فقط.
ولهذا كله نرى التشريع الإسلامي قد رسم للشباب والشابات طريقا آمنا يوصلهم إلى زواج سعيد، يقلل –ولا أقول يمنع- العنوسة البغيضة، وذلك عن طريق التوجيه والتربية وتقديم العلاج الناجع، كلما أطلت العنوسة بوجهها على المجتمع، وأهم ذلك فيما يلي:
1)) حض الإسلام الشباب ذكورا وإناثا على الزواج، ورغبهم فيه، ودعاهم إليه، وجعله عبادة يتقرب بها إلى الله تعالى، من ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج وهل يتزوج من لا إرب له في النكاح!) رواه البخاري.
2)) رغب الإسلام الشباب والشابات وأولياءهم في التقليل من المهور وتكاليف الزواج، ومن ذلك ما رواه حازم عن سهل بن سعد قال: (أتت النبي صلى الله عليه وسلم امرأة فقالت: إنها قد وهبت نفسها لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم فقال: مالي في النساء من حاجة، فقال رجل: زوجنيها، قال: أعطها ثوبا، قال لا أجد قال: أعطها ولو خاتما من حديد، فاعتل له، فقال ما معك من القرآن؟ قال: كذا وكذا، قال: فقد زوجتكها بما معك من القرآن) رواه البخاري.
3)) دعوة كل من الزوجين الزوج والزوجة إلى التباري في إكرام الآخر، واحتماله والصبر عليه، تقربا إلى الله تعالى، ورغبة في الأجر والمثوبة منه، ومن ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم :(خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي) رواه ابن حبان وغيره، مما ينتج عن ذلك توافق أسري، وانسجام نفسي يعيش معه الأولاد عيشة هنيئة، فتهفو نفوسهم في شبابهم إلى الإقدام على الزواج، والعزوف عن العنوسة.
ولو رجعنا إلى تاريخ المجتمعات السابقة، والمجتمعات اللاحقة المعاصرة، لوجدنا أن ظاهرة العنوسة في المجتمعات الإسلامية ظاهرة ضعيفة قليلة غير مؤثرة، على خلاف كثير من المجتمعات الأخرى، والفضل في ذلك لتلك التعاليم الإسلامية الراقية في الدعوة إلى الزواج، والتقليل من المهور والتكاليف إلى حدها الأدنى.
وإن بعض المجتمعات الإسلامية المتقدمة تقنن القوانين وتصدر القرارات لمساعدة الشباب على الزواج في أول الشباب، فتقدم لهم المساعدات المادية والمعنوية لمعاونتهم على الزواج، كتسهيل شراء البيوت، والمساعدة في تقديم المهور، والمساعدة في إقامة حفلات الزواج، وهذه أمور جيدة نتمنى أن تعم في المجتمعات الإسلامية والمتحضرة، فإنها تعد عاملا رئيسا على تقليل العنوسة، والتشجيع على الزواج.
ونسأل الله تعالى أن يبصرنا بإسلامنا، وأن يوفقنا إلى التزامه التزاما يقينا عثرات الحياة، ويوفقنا ويوفق شبابنا إلى حياة زوجية سعيدة.
والحمد لله رب العالمين.
الخميس 18 محرم 1427هـ و 16/2/2006م
أ.د.أحمد الحجي الكردي
خبير في الموسوعة الفقهية وعضو هيئة الفتوى
في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية