مسؤولية الأولاد : بين الرعاية والتربية
حبنا لأولادنا لا يحتاج لبرهان عليه، ونعني في هذا المقام بالولد الذكر والأنثى فإطلاق الولد في لغتنا العربية يعني الاثنين، فقد سئل عبد العزيز البشري لماذا تحب ولدك ؟ فذكر وهو يحاول تجسيد بعض هذه المعاني لتفسير حبه لولده، فقال: أحبه؛ لأني أحب نفسي، وهو بعض نفسي، بل إنه عندي لخير ما في نفسي، هو عصارة قلبي، وحشاشة كبدي، وأجمل ما يترقرق في صدري.
الكثير منا يحصل عنده خلط بين مصطلحي الرعاية والتربية تجاه الأولاد ، فلا يفرق بينهما.
التقينا الأستاذ الدكتور/ أحمد الحجي الكردي – الخبير في الموسوعة الفقهية الكويتية ، وعضو هيئة الفتوى بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة الكويت، وتوجهنا إليه بعدة أسئلة ليزيل لنا هذا الخلط بين التربية والرعاية عندما نتعامل مع أولادنا وبناتنا.
دكتور أحمد الكردي – حفظكم الله - بداية ماذا يمثل الأولاد بالنسبة للآباء والأمهات؟
يقول تعالى في محكم تنزيله: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) (الكهف:46)
وقال جل من قائل: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (الأنفال:28).
ففي هاتين الآيتين الكريمتين بيان لمنزلة الأولاد للإنسان، فهما نعمة الله تعالى على عباده، بهم يدخل السرور إلى قلبه، وبهم يشعر الإنسان بوجوده ومشاركته في هذه الحياة، وبدونهم يكون الشعور بالإحباط والحرمان، وهم مستقبل الإنسان، بل مستقبل الإنسانية كلها، فالعمر ينقضي، والزمان ينجلي، ويرتحل الحاضرون إلى ربهم، ليرثهم أولادهم في استمرار الحياة، وخدمة الأمة، وبناء المجتمع، وبقدر ما يكون الحرص من الآباء على الأولاد حصيفا ومستكملا لشروطه، بقدر ما يكون المستقبل زاهراً والمجتمع الإنساني سعيدا ومتماسكا، وبقدر ما يحصل التساهل والتكاسل في حق الأولاد، بقدر ما يكون المستقبل مظلما أو معتما أو مفككا.
كيف حرص الإسلام ورسول الإسلام على مسالة الأولاد والعناية بهم ؟
مما سبق من أدلة قرآنية نرى أن الإسلام حرص كل الحرص وشدد في أمر الأولاد والعناية بهم، فهم نعمة ونقمة، نعمة إذا أحسنت تربيتهم، ونقمة إذا أهملوا وتركوا للشيطان يعبث بهم ويلهو ويحرفهم عن جادة الصواب، قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ) رواه البخاري ومسلم.
والانحراف عن الفطرة قد يكون بفعل الأبوين وتوجيههما الخاطئ، وقد يكون بإهمالهما وتركهما إياه للشيطان يربيه على شاكلته، وفي كلا الأمرين من الخطورة ما فيه.
ماذا عن المسؤولية تجاه الأولاد وهل من أقسام لها ؟
حقيقة إن المسؤولية نحو الأولاد تنقسم إلى شقين: الشق الأول تربية، والشق الثاني رعاية، وهما توأمان متكاملان لا ينفكان عن بعضهما، ولا ينفع أحدهما بغير الآخر.
هل من فرق بين مصطلح الرعاية ومصطلح التربية ؟
التربية توجيه نحو العقيدة الصافية، والخلق الرفيع، والعلم النافع، والعمل الصالح، وهي إيجابيات تُعد الطفل لمستقبل يكون فيه بنَّاء ومحسنا، لا هادما ومخربا.
والرعاية معناها التعهد الجسدي بالتغذية النظيفة الحلال، والكسوة بالمال الحلال، وتأمين كافة حاجاته المعيشية، لأن الإنسان في حقيقته جسم ونفس، أو مادة وروح، ولا يكون كاملا إلا بهما معا، وهو في صغره وفي كبره محتاج إليهما معا، ولا يغنيه أحدهما عن الآخر، فإذا ما عُني بالجسد دون الروح كان شيطانا مخربا، وإذا ما عني بالروح دون الجسد كان عليلا ضعيفا لا يثمر شيئا، فالجسد ليقوم لا بد له من الروح والنفس، والروح لا بد لها من الجسد السليم، فالعقل السليم في الجسد السليم، ولا يغني أحدهما عن الآخر، ولا يكمل الإنسان إلا بكمالهما وتعاونهما، وهما مسؤولية الأبوين، فالأم أولا في الصغر، والأب في أول الشباب، ومن هنا قدمت الأم في الحضانة على الصغير، وقدم الأب في الولاية على الشاب.
دكتور : أحمد .. هل كل الآباء يقومون بهذه المهمة تجاه الأولاد ؟
إنه مما يؤسف له في زماننا انشغال كثير الآباء والأمهات في كثير من المجتمعات الإسلامية عن العناية بالأولاد، بشقي هذه العناية: التربية والرعاية، وغالبا ما تنصرف العناية إلى الأجساد، بالطعام والشراب واللباس، وتترك النفوس والأرواح والعقول لتعبث في الأرض وتنشر الفساد، عندما تُترك التربية للخادمات العابثات اللاهيات، وقد سمعت من الآباء من يقول عندما يشذ ابنه: ماذا أفعل لك؟ فقد قدمت لك من النفقة الكثير الكثير، ولم أقصر في طعامك ولا شرابك، والحقيقة أنه أهمل جانب التربية، فكان الطفل شيطانا، بدلا من أن يكون ملاكا يمشي على الأرض.
هل من كلمة أخيرة توجهها لمن رزق الأولاد ؟
أقول لكل الآباء وكل الأمهات: أبشركم إذا أتممتم الرعاية والتربية- بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثٍ: صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، وَعِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ، وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ) رواه الترمذي والنسائي، فلعل دعوة من دعواتهم بعد مماتكم تكون سببا لدخولكم الجنة بعدما قصَّر فيكم العمل الصالح وأبطأ بكم الطريق إلى الجنة، وأخص بالذكر هنا الأنثى من الأولاد التي يسهو عنها كثير من الناس، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ رَجُلٍ تُدْرِكُ لَهُ ابْنَتَانِ فَيُحْسِنُ إِلَيْهِمَا مَا صَحِبَتَاهُ أَوْ صَحِبَهُمَا إِلا أَدْخَلَتَاهُ الْجَنَّةَ) رواه ابن ماجه وأحمد.
فيا إخوة الإسلام ، عودوا إلى تعاليم ربكم، وعودوا إلى تربية الأبناء وإعالتهم معا، واجعلوا ذلك مهمتكم الأولى في المجتمع، ولا تشتغلوا عنها بملذاتكم وأهوائكم، وتتركوا الأولاد للخدم يربونهم على الفساد والشذوذ والانحراف، فإنهم أمانة الله تعالى في أعناقكم، وسوف تسألون عن أداء هذه الأمانة في يوم لا ينفع مال ولا بنون
وفي ختام هذا اللقاء نشكر الأستاذ الدكتور/ أحمد الحجي الكردي، الخبير في الموسوعة الفقهية الكويتية ، وعضو هيئة الفتوى بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة الكويت.
حفظ الله أولادنا وبناتنا من كل سوء ومكروه {.. رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً } [الفرقان:74].